عزمي خميس - لم ينشغل الدارسون بشاعر عربي قديما وحديثا قدر انشغالهم بالمتنبي: حياته وشعره. فقد درسه اللغويون والنحاة وعلماء البلاغة، واختلفوا فيه وفي شعره الى حد التناقض والتعارض، وانشغل فيه المحدثون من النقاد ودارسي تاريخ الأدب وحللوا وشرحوا وفسروا وناقشوا كل كلمة قالها وكل رأي قيل فيه، وكل مفصل من حياته. ودرسوه شاعرا وسياسيا وفارسا وصعلوكا ومتمردا ومادحا ومفتخرا وهاجيا وصاحب طموحات ومغامرات، حتى ليظن المرء أنه لم يبق شيء يقال في هذا الشاعر الفذ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
لكن إغراء دراسة المتنبي من زوايا جديدة ما يزال يفعل فعله في النقاد والباحثين، ومن هنا كان الكتاب الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بعنوان: ''تحول المثال: دراسة لظاهرة الاغتراب في شعر المتنبي'' للباحث صالح زامل والذي جاء في 256 صفحة من القطع الكبير مشتملا على مدخل وثلاثة فصول.
وإذا كانت ظاهرة الاغتراب في شعر المتنبي قد حظيت بالدراسة من قبل النقاد حتى في زمن المتنبي، فإن الزاوية التي يتناول منها المؤلف ظاهرة الاغتراب عند المتنبي تبدو جديدة ومختلفة، حيث يقول المؤلف:.
''في دراستي لظاهرة الاغتراب في شعر المتنبي لم يكن عملي مثل ما ألفته بعض الدراسات عندما وزعت دراستها بين أنواع الاغتراب: اغتراب نفسي، وآخر زماني، وآخر مكاني، أو ديني، بل رصدت مظهرا فنيا في قصيدة المتنبي في مستوى البناء لهيكل القصيدة وفي مستوى الموضوع، وهو رسم المثال الذي ظل يبحث عنه، فكان مرة نفسه، وأخرى ممدوحه، وهو في تحولاته بين النفس والممدوح يمثل صورة الاغتراب''.
في التمهيد يدرس المؤلف لفظة الاغتراب ودلالاتها اللغوية، ويبحث في أصول المصطلح ''الاغتراب'' كما تجسده التوراة والانجيل، وكذلك الاغتراب في الفكر الاسلامي وعند منظّري العقد الاجتماعي وفي الفلسفة الحديثة وفي علم النفس.
في الفصل الأول المعنون: ''البحث عن المثال''، حاول المؤلف الربط بين المثال والمحيط الاجتماعي الذي دفع المتنبي الى الفردانية التي غذاها نزوعه الذاتي بفكر اغترابي وذلك عندما وضع نموذجا لمثال مغترب عن المحيط، وظل هذا النموذج كامنا فيه ولم يجد معادلا له في ممدوحه.
درس المؤلف زوايا عدة لهذا المثال الكامن في الشاعر، فوجد أن ذاتيته طاغية على النصوص حتى في النص المدحي، وتظهر هذه الأنا وكأنها وحيدة مغتربة عن العالم، بحيث تقتحم الآخرين وتراهم أقزاما، ولهذا يقول:
''إن أكن معجبا فعجب عجيب
لم يجد فوق نفسه من مزيد''.
ويقول أيضا:
''أي محل أرتقي أي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق الله ومالم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي''.
هذا الأمر الذي سماه الباحثون غرورا وتعظيما، يراه المؤلف اعتدادا بالنفس في أول مبدئه، ثم صار اغترابا ومفارقة للجماعة وبعض قيمها.
ويلاحظ المؤلف من خلال نصوص المتنبي أنه رغم عظيم اندفاعه وقوة تماسكه فإن روحه لا تخلو أحيانا من وهن في مواضع مهمة، وخاصة عندما يواجه نكبات عظيمة كالسجن ومحاولة اغتياله في كفر عاقب، لكنه سرعان ما يتجاوز هذه الحالة ويعود الى سيرته الأولى.
في الفصل الثاني ''المثال''، يلاحظ المؤلف انتقالا مهما عند المتنبي بعد لقائه بدر بن عمار، فهو أول ممدوح مهم يلتقيه. ونلمح فيه ارهاصا بالمثال كان من اسباب الملازمة والاستقرار التي ولدت نصوصا كثيرة، حيث ظهرت في هذه النصوص ظاهرة ترسم المثال الذي يجسده الشاعر في غير ذاته وبصورة إعجازية مغتربة عن الواقع، لكن ذلك لم يتم، فيفر طريدا مغتربا.
ويدرس المؤلف شخصية سيف الدولة الحمداني ليوازن بينها وبين الصورة التي رسمها له المتنبي في مديحه له، ويرى أن عددا كبيرا من الشعراء وقفوا بباب سيف الدولة، لكن خُلد المتنبي وخلدت نصوصه كما خلدت نصوص المتنبي في غير سيف الدولة، لذلك يرى المؤلف أن سيف الدولة لم يكن أكثر من موضوع شعري بالنسبة للمتنبي.
ويناقش المؤلف الآراء التي قيلت في سبب فراق المتنبي لسيف الدولة، ويرى أن السبب هو الضغط على حرية المتنبي، كما أن المثال ''سيف الدولة'' لم يعد بالصورة ذاتها التي كانت في فكر المتنبي، لذلك صارت الحركة بديلا عن المقام، وصارت بحثا جديدا عن هذا المثال ورحلة جديدة في الغربة وقسوتها.
في الفصل الثالث يتناول المؤلف ما تركه فراق سيف الدولة على رحلة المتنبي التالية، إذ عنونه ''انكفاء المثال''، فالمثال يعود الى ذات المتنبي، لكنه ظل شكليا متشبثا بآخر، قد يبدو سيف الدولة، وقد لا يكون، وقد يبدو مكانا مثل حلب أو دمشق ولكنه ليس أيا منها، فيقترب المثال الى آخر غائب، ومدينة فاضلة يواجه بها كل مدن الرحيل التي ينتقل اليها.
وقد وجد المؤلف أن المتنبي كان مدفوعا الى الانكفاء على ذاته تحت ضغط مسلسل خيباته مع كافور، وبغداد، وسيف الدولة، وجعلت هذه الخيبات رحلته أشبه برحلة البحث عن الأمان والحرية اللذين ظل يطلبهما بروح اقتحامية في أول رحلته ويروم في رحلته الأخيرة الوصول اليهما من خلال ممدوحيه، وقد كلّ وتعب من عبث الأيام المتأخرة به، وصار يطلبهما الآن بإحساسه بضغط زماني، وعمر يراه قصيرا، ودنو من الموت. وظل هذا الاحساس يدفعه في اتجاهين: عدم التسليم بأن الشيب هو ذاته نهاية واقتراب من الآخرة، وبأن الخلود يكون للنفس في مواجهة الموت الجسدي. يقول المتنبي:
''كم قد قتلت وكم قد مت عندكم
ثم انتفضت فزال القبر والكفن
قد كان شاهد دفني قبل قولهم
جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا''
ويقول:
''ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن''.
ويقول:
''هكذا كنت في أهلي وفي وطني
إن النفيس غريب حيثما كانا''
ويقول:
''كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا''.
ويرى المؤلف أن حركة المتنبي وتنقلاته قد تكون قهرا لاغترابه الزماني، حيث ظل متحركا بخيارات لا تنتمي لأحد غيره. ويخلص المؤلف الى القول: إن مثال المتنبي استحال من تكوين فكري داخلي محض في بواكير حياته الى تجسُّد في شخصيات الممدوحين قاهراً اغتراب الذات.
وبعد رحلة الخيبة الطويلة مع الممدوحين عاد المثال منكفئا الى داخل الشاعر متخذا مظاهر اغتراب مطلقة شخصية متكاملة، مدينة فاضلة، فيكون بذلك كله اغترابا نافيا لاغتراب.
وهكذا تكون دراسة تشكل المثال في رحلة المتنبي طريقا الى استـــــيعاب ظاهرة الاغتراب في شعره من خلال أوضح تجلياتها.
* كاتب أردني