توق إلى الماء، والتاريخ، والذاكرة المعتقة..
لهفة إلى القصص القديمة، وحكايا الأجداد..كل هذا وأكثر كان وراء السعي باتجاه ماعين، جنوب غرب مأدبا.
تجاوزت شوارع المدينة، وسرت برفقة زميلي عناد أبو وندي إلى البلدة الوادعة الطيبة، حيث كانت ماعين تنتظر، لتتحدث عن ماضيها بألسنة كبارها الذين كان بعض منهم يجلس قرب الطريق الرئيس المار في منتصف القرية، وكان جلوسهم على عتبة أحد البيوت، بكل ألفة الماضي، وسلاسة الحكايات العتيقة، يتبادلون ''السواليف''، وأمامهم إبريق الشاي، ودلّة القهوة.
كانت جلستهم هي أول الخير، وفاتحة تلقائية لاستقبال قرأت من خلاله القرية وبساطة أهلها، وكان بدء البوح من هناك، حيث أخذت ماعين تتجلى صفحات تاريخها أمامي، فصلا وراء فصل.
أول ما بدأ ''الختيارية'' حديثهم اعتزازا بماعين، حيث قال أحد الكبار الجالسين، أنهم كانوا ''زمان أول يقولوا ما يلتقى من الزرقا للزرقا مثل ماعين، وحيي بالكرك راكين''، دلالة على طيب المناخ، والقمح، والمزروعات، والمياه الوفيرة.
وقالوا أيضا أن حدود ماعين هي '' من الغرب البحر الميت، ومن الشرق وادي الحبيس، ومن الشمال وادي أبو رتمة، ومن الجنوب زرقا ماعين، وهناك الجهة الجنوبية من وادي زرقا ماعين لبني حميدة، والجهة الشمالية لعوازم ماعين''.
''مُسَمّيات شعبية''
الأربعة الذين التقيت بهم وسط ماعين، حاولوا أن يعطوا بعضا من تاريخ القرية، لكنهم أصروا خلال كلامهم على التأكيد بأن التاريخ الأقدم للقرية، هناك آخرون في ماعين، سيعطون تفاصيل كاملة له، ولا بد من العودة اليهم لكتابة جوانب البلدة بكل تفاصيل المجتمع الذي يشكل حالة من الألفة بين المسلمين والمسيحيين، ويعطي دلالة على اللحمة الحقيقية هناك.
هؤلاء الأربعة الذين بدأت بلقائهم هم ''باسيل موسى بن جريس حدادين، وميخائيل سالم عيسى حدادين، وعبد الله بطرس جريس حدادين، ونايف جميل ابراهيم حدادين''، وقد أضافوا أثناء كلامهم توضيحات جغرافية حول تسميات أحواض ومناطق ماعين الكثيرة، وعبّروا عنها بمسمياتها الشعبية، كالتالي:'' حوض المشرفة، وأبو الظهور، والكريكات، وأم الذهب أرض ماعين، وأبو العريش، وأبو ساري، والعوجة، وعويسية، والجناوة، ونايفة، ودغيمان، وحنو الغول، وحنو المورد، وحنو البطان، والمكاون، والغولات، والغرابيات، والجامعية، ووادي القيامة، وأم راسين، والرقيعية، والظباعيات، والنفيعية، وأبو زغيلة، وحجر المنصوب، وزرقا ماعين، والحمامات، وغيرها من المناطق والأحواض''.
بعل ماعين
قبل توثيق البوح الشفوي لكبار القرية، وكتابة التاريخ الاجتماعي للقرية، استرجعت ذاكرتي ما بحثت عنه حول ماعين في الكتب القديمة، ومخطوطات الرحالة، والجغرافيين، والأسفار المقدسة، حيث كانت تشير تلك المراجع إلى حضور حقيقي للقرية في التاريخ القديم والحديث.
أما عن اسمها ماعين، فيقال أن معناه إله الماء، أو إله الينابيع، وكان اسمها بعل ماعين، أو ماعون.
وقد كتب عنها ه.ب.تريسترام، في كتابه رحلات في شرق الأردن عام 1872م قائلا:'' وصلنا تلال ماعين التي كانت مكسوة بالأطلال والآثار المنتشرة فوق القمة والسفوح والتلال المجاورة..تتآلف الآثار هنا من بقايا أساسات الدور، وشذرات من الجدران، ومسارب الشوارع، والقناطر القديمة والحجارة المنحوتة، والمغائر والآبار والجيع( المغائر الشبيهة بالآبار) التي لا تحصى.ولا تزال بعض الكهوف المنحوتة تستخدم من قبل العرب من حين لآخر للخزين أو النوم.
تحولت بعل مون(Baal-Meon) في زمن الرسل المتأخرين إلى مؤاب، ولا بدّ أنها كانت مدينة على درجة من الأهمية، حيث تحدث عنها حزقيل على أنها ''عظمة المنطقة''..ويبدو أنها استمرت حتى الفترة المسيحية، حيث ذكرها ايسوبيس تحت الاسم نفسه، على أنها قرية واسعة، وتقع قرب الينابيع الحارة ، وعلى بعد تسعة أميال من حسبان، ويضيف أنها المكان الذي ولد فيه إليشا Elisha ، ويبدو أنها لم تكن أسقفية''.
أما مصطفى الدباغ في ''بلادنا فلسطين''، فكتب عن ماعين بأنها '' تقوم إلى البقعة التي كانت تقوم عليها بلدة ''بعل ماعون''، وهو اسم موآبي معناه ''بُعل السكن''، تقع إلى الشرق من البحر الميت، ترتفع 865م عن سطح البحر، وقد ورد ذكر ماعين في الحجر الموآبي الذي وجد في ذيبان''.
هيرودس
يرى الباحث المهدي عيد الرواضيه أن ماعين هي قُصير معين الدين، والتي أوردها ياقوت الحموي في معجم البلدان، مشيرا إلى أنها '' بلفظ تصغير قصر، في عدة مواضع، منها: قصير معين الدين بالغور من أعمال الأردن يكثر فيه قصب السكر..''.
كما أن لانكستر هاردنج، في كتابه آثار الأردن، يعرج على ماعين من خلال كتابته عن زرقاء ماعين قائلا: '' تتفرع من مأدبا طريق أخرى بانحراف بسيط إلى الجنوب الغربي تؤدي إلى ينابع زرقاء ماعين التي تعرف باسم (كاليرهو)، وتقع هذه الينابيع في وادي زرقاء ماعين، وهو جرف عميق شديد الانحدار، وتتألف من سلسلة من البرك الكبيرة والصغيرة ذات الحرارة المختلفة، ففي بعضها تشتد الحرارة بحيث تستطيع الاسترخاء في جوفها بصورة مريحة..ومن أبرز المشاهد مساقط المياه الحارة التي تنصب في أكبر البرك.
وقد توصل الباحثون إلى القول أن هذه الينابيع هي ذاتها ينابيع (كاليرهو) القديمة، هذا على الرغم من عدم وجود أية آثار قديمة هناك..ولكن هناك من يقول أن ينابيع (كاليرهو) ليست سوى عين الزارة التي تبعد نحوا من ثلاث كيلو مترات إلى الجنوب من طرف وادي زرقاء ماعين على شاطىء البحر الميت. وعند ينابيع الزارة هذه توجد بقايا أبنية تعود إلى الفترة الرومانية، كما يبدو أن خارطة مادبا تشير إلى هذا الموقع. وكان هيرودس الكبير يأتي إلى حمامات زرقاء ماعين، أو إلى عين الزارة بين فترة وأخرى، فينزل من قلعته الجبلية في مكاور من أجل معالجة الأمراض المتعددة التي كان مصابا بها كما يبدو''.
ويؤكد فريدريك ج بيك في '' تاريخ شرقي الأردن وقبائلها''، على هذه الزيارة الإستشفائية لهيرودس، حيث يقول: '' وفي أواخر عهد هيرودس كان شرقي الأردن في هدوء وسكينة، وقد زارها لآخر مرة، هذا الملك العظيم قبل وفاته عام 4 ق.م. ليستشفي بمياه كاليرهو المعدنية في وادي الزرقاء (ماعين) من المرض العضال الذي استعصى عليه معالجته..''.
ميشع الذيباني
يتوسع المطران سليم الصائغ في إعطاء تفصيلات حول ماعين، ضمن صفحات كتابه ''الآثار المسيحية في الأردن''، فيذكرها على أساس أنها ''بلدة كتابية ورد ذكرها في سفر العدد(32/38)، وفي سفر يشوع(13/17)، وفي القرن التاسع قبل الميلاد ذكرها ميشع ملك موآب في نصبه الذي خلّد انتصاراته، حيث قال ( أنا ميشع بن قموش، ملك موآب الذيباني، بنيت بعل ماعون، وأقمت بها البركة..).
كما يورد أهميتها كونها آخر موقع مأهول في الطريق المؤدية إلى حمامات زرقاء ماعين المعدنية، حيث أثبت ذلك الكتابة التي عثر عليها شمالي الكنيسة الغربية في ماعين، وفيها مكتوب '' أنشىء الفندق عام 49.''، والتي تعود إلى أواخر القرن السادس للميلاد، حيث كان الموقع فندقا لاستقبال المتوجهين إلى الحمامات والعائدين منها.
ويضيف المطران الصائغ بأنه '' في العهد الروماني ذكرها المؤرخ أوسابيوس القيصري (265-340م)، قائلا: (بعل ماعون ما وراء الأردن، ضيعة كبيرة جداً، قريبة من جبل المياه الحارة في بلاد العرب، تقع عند الحجر الألفي التاسع، إلى الجنوب من حسبان)، وأما في العهد البيزنطي فقد عرفت بيلومنتا، كما ورد في فسيفساء القديس اسطفانوس في أم الرصاص، وفي فسيفساء كنيسة الاكروبوليس في ماعين عينها..''.
فسيفساء
وماعين مكتظة بالآثار، وهذا واضح من كثرة الكهوف، والمغائر فيها، والآبار القديمة، وهي تحتوي على أرضها كثير من الآثار المسيحية، منها كنيسة الاكروبوليس على قمة التل الذي تقع عليه البلدة، وهي على جانب كبير من الأهمية الفنية والتاريخية، حيث تشير فسيفساء هذه الكنيسة أن أرباب الفسيفساء المحليين تحولوا في فنهم في تلك الفترة إلى المذهب الطبيعي، أما من الناحية التاريخية فإن الكتابة تدل على أن الفسيفساء تعود إلى سنة 719-720م، أي إلى العهد الأموي، ويتميز صحن كنيسة الاكروبوليس الأوسط بحزام جغرافي بقي منه عند التنقيب رسم أحد عشر موقعا منها خمسة في الأردن وهي كرك موبا (الكرك)، وايوبوليس (الربة)، وغادودا (أم قيس أو الجادور أي السلط الحالية)، واسبونتا (حسبان)، وبيلمونتا (ماعين).
ويزيد المطران الصائغ في وصفه للأماكن المسيحية في ماعين، ذاكرا مواقع أخرى منها '' الكنيسة الواقعة على المنحدر الغربي من التل وتتألف من ثلاثة صحون ومن صفين من الأعمدة. وأما حنية الكنيسة فهي الآن تحت الطريق وقد كان الباب الشمالي يفضي إلى فندق الحجاج الذي اشرنا إليه آنفا. وفي موضع مستطيل عند باب الكنيسة كان الزخرف التزييني يشمل انطلاقا من الدائرة الوسطى رسما على شكل مجدول ضمن إطار وسلسلة من الأحزمة تصل إلى الجدار الغربي.. وكان طاؤوسان مقابلان لعناقيد العنب، يزينان زوايا الإطار الأوسط.. أما العنصر المميز لهذه الكنيسة فهو تيجان الأعمدة الغنية في شكلها، وزينتها، في زوايا التيجان جاء النقش على شكل ورقة نبات، وأما في جوانبها فقد حفرت صلبان مختلفة: في دائرة وعلى إناء، وعلى سارية، وعلى نخلة، إلى جانب وريدات ونخيل وآنية وأقراص ورسوم تصويرية مختلفة منفردة، مثل أسد وحمل وعصفور وسمكة، أو مزدوجة مثل أسدين حمامتين وحملين متقابلين..نجد مثل هذا الفن التزييني في تيجان أعمدة بازيليكا دير القديسة كاترينا في سيناء، وفي كنيسة عين قطارة في ضواحي ماعين، فنحن أمام ميزة لرجال الفن في ماعين الذين اعتادوا نحت الحجر الكلسي المتوفر في جبال المنطقة.''.
ثيودوروس المجيد
كذلك هناك في ماعين، موقع المجمع الرهباني، وقد اكتشفته دائرة الآثار سنة 1972-1973م، ويقع جنوبي البلدة، وهو مبنى فريد من نوعه يقوم على مرتفع منعزل لا يبعد كثيرا عن البلدة وتركيبه بسيط وضيع يشمل ما يحتاجه الرهبان لحياتهم الرهبانية، أي: الكنيسة، والسكن، وبئر، ومغاور ومستودع، وحقول مرتفعة مع بقايا سور واسع. وقد عثر على كتابة في الكنيسة تذكر الهيئات المدنية والمحسنين المدنيين:( لخلاص وحفظ ثيودوروس المجيد والشهير جدا بني هذا البيت المقدس من الأساس، وأنجز بغيره.. المدير، في زمن الخمس عشرية السادسة)، كما عثر على كتابة أخرى محفورة على عارضة مرممة تقول:( أذكر برحمتك عبدك الخاطي).
وهناك في البلدة كنيسة قديمة رابعة في الحي الغربي، يروي المطران الصائغ أن الأب دي فو شاهدها سنة 1939م، ونسخ كتابة الإهداء التي عثر عليها في الفسيفساء، وهي : ( لسلام وراحة انستازيوس).
سيرة قرية
تقع ماعين جنوب غرب مأدبا، ضمن بلدية مأدبا الكبرى، وتتتبع إداريا إلى قضاء ماعين من لواء قصبة مأدبا في محافظة مأدبا.
الديموغرافيا: يبلغ عدد سكان ماعين5359 نسمة( 2738 ذكورا و 2621 إناثا)، يشكلون 909 أسرة، تقطن في 1118 مسكنا.
ويعتمد أهل القرية في معيشتهم على الوظيفة الحكومية، والجيش، وتربية الماشية ، والزراعة.
التربية والتعليم: يوجد في ماعين مدرسة ماعين الثانوية للبنين، ومدرسة ماعين الثانوية للبنات الشاملة، ومدرسة ماعين الأساسية للذكور، ومدرسة منشية ماعين الأساسية المختلطة.
المجتمع المدني: توجد في القرية جمعية ماعين التعاونية، وجمعية ماعين الخيرية، وجمعية ريف ماعين التعاونية، ونادي ماعين الرياضي، ومركز الأميرة بسمة للتنمية الاجتماعية التابع للصندوق الأردني الهاشمي.
الصحة: يوجد في ماعين مركز صحي شامل.
* وتوجد فيها مديرية القضاء، ومكتب بريد، وكنيستين، و7 مساجد.
دعوة للمشاركة
هذه الصفحة تؤسس لكتابة متكاملة حول القرى الأردنية، وتطمح لتأسيس موسوعة جادة شاملة. ولن يتأتى هذا بجهد من طرف واحد، فما يكتب قد يحتاج إلى معلومات للإكتمال، أو قصص أخرى لم يلتقطها الكاتب في زيارة واحدة، وهي مفتوحة للإضافة والتعديل قبل أن ترتسم بشكلها النهائي لتكون وثيقة لكل قرية، والأمل بأن تأتي أية إضافات أو تصويبات أو معلومات أخرى من أهل القرى والمهتمين مع اقتراحاتهم، وعلى هذا العنوان:
بوح القرى
ص. ب - 6710
عمان -11118
فاكس- 5600814
بريد الكتروني ora@jpf.com.joalq
ماعين.. ينابيع (كاليرهو) القديمة (1-3)
12:00 13-11-2007
آخر تعديل :
الثلاثاء