من تقاليد أفلام رعاة البقر (وفي تسمية أخرى أفلام الكاوبوي ) أنها تفتتح، في معظم الأحيان، بمشهد يتكرر يرى فيه المشاهدون شخصا، قد يكون بطل الفيلم أو الشخص الشرير في الفيلم، يقترب من بعيد وسط أرض صحراء جرداء وخلفها جبال صخرية، ممتطيا صهوة حصان يقوده بثقة، وما إن تقترب الكاميرا من وجهه المغبّر الذي لفحته حرارة الشمس حتى يرى المشاهدون ملامحه الصارمة. يظهر الشخص في مبتدأ أفلام رعاة البقر من دون تمهيد، فلا يعرف المشاهدون أصله من فصله، لا يعرفون أهو طيب أم شرير، لا يعرفون ماذا يعمل وإلى أين يتجه ومن أين جاء. وفي حين يفترض البناء الدرامي الكلاسيكي للأفلام التمهيد لظهور الشخصية الرئيسية والتعريف بها كي يدرك المشاهدون خصائص الشخصية التي يتفرجون على أفعالها، فإن هذه القاعدة لا تطبّق في أفلام رعاة البقر، فهم يبرزون فجأة قادمين من لا مكان ويشرعون فورا في الفعل وإشعال الفتيل الذي سرعان ما سيفجر الأحداث العنيفة المثيرة والمتلاحقة.
نصادف بدايات مشابهة في المسلسلات التلفزيونية العربية التي تجري أحداثها في الصحارى وتتعلق حكاياتها بأحوال البدو وأشخاصهم، وهي المسلسلات التي باتت تصنف تحت بند المسلسلات البدوية والتي انتشرت بغزارة قبل بضع سنوات ولم تزال تشكل زادا مغذيا للفضائيات العربية. في حينه، ابتكر بعض المراقبين لذاك الطوفان من المسلسلات البدوية تسمية طريفة لا تخلو من سخرية حيث وصفوها ب الكاوبوي البدوي . وعلى الأغلب فإن هذه التسمية لا تتعلق بالتشابه بين أفلام رعاة البقر والمسلسلات البدوية، بل لأن العديد من تلك المسلسلات كانت تبدأ بمشهد بدوي يأتي من بعيد ممتطيا صهوة حصانه يقود على مهل قبل أن يقترب من خيمة ما ويترجل أمامها.
عندما تقدم أفلام رعاة البقر مشهد البطل القادم على حصانه من بعيد فإنها تستند في ذلك إلى تراثها الخاص الذي راكمته خلال فترة قصيرة جدا من الزمن كنوع أفلام عودت الجمهور على صورة تكرست عبر تلاحق مئات الأفلام من النمط نفسه، والتي اكتسبت شعبية خاصة في كل أرجاء العالم، أما مشهد البطل المقترب على حصانه في مسلسلات رعاة البقر البدوية فهو يحاول أن يرتكز على الخلفية التراثية التاريخية لصورة البدوي الفارس خيّال الحصان تلك الخلفية التي يندر أن نجد أساسا مقنعا يبررها داخل المسلسلات البدوية نفسها.
يخوض البطل في أفلام رعاة البقر عادة صراعا داميا متواصلا، فهو باستمرار في مواجهات مصيرية مع المجتمع والقدر، وهو على شاكلة البطل التراجيدي يسير وظلال الموت تلاحقه. إنه ومنذ اللحظة الأولى لظهوره على الشاشة يخوض غمار صراعات حادة تعكس على تنوعها مأساة وجودية إنسانية، مأساة الفرد المحكومة حياته بمجموعة تحديات لا يعرف إن كان سيخرج منها منتصرا أم مهزوما، غير أنه يعرف أن لا مفر له من مواجهتها.
أما البطل في المسلسلات البدوية فمشكلته أبسط من ذلك بكثير، فهو إما أنه يعاني لأن وضحة ابنه عمه التي يحب لا تحبه، بل تفضّل عليه واحداً غيره من أفراد العشيرة، أو أنه يتنازع مع قرين له على زعامة العشيرة التي يقطن أفرادها كما نراهم في المسلسلات في ثلاث خيمات، ويملكون عنزة وحصانا ويمضون الوقت داخل الخيمة المضافة في صبّ القهوة السادة وتبادل الحكي وسماع الربابة.
من الناحية الشكلية فإن تصرفات البطل في أفلام رعاة البقر تتلاءم مع المضمون التراجيدي العام لمصيره، والأحداث التي تحصل معه تعكس جوانب الصراع والتحدي والإثارة في حياته عبر أدق تفاصيلها أحيانا. وهكذا منذ البداية يصعد طريقا جبلية صخرية وعرة وتفاجئه أفعى سامة فيبادر إلى إطلاق الرصاص عليها، وحين يصل إلى نبع ماء وسط الأرض الجرداء وينحني لينهل من مائه يصدمه وجود كمين نصبه له اثنان من الأشقياء، فيدخل معهما في معركة ويتابع طريقه فيصل إلى بلدة صغيرة ويربط حصانه أمام مدخل البار فيتطلع إليه جميع الجالسين بتوجّس، وتمتد الأيادي إلى المسدسات لتكون على أهبة الاستعداد. وهكذا يعرف جمهور الفيلم أنه سيواجه شخصية مثيرة. مقابل ذلك فإن البطل في المسلسلات البدوية يتهادى ببطء ممتطيا حصانه فيصل إلى خيمة ويترجل ويدخلها وهو يرد على التحيات والترحيب المتكرر ويجلس ليرتشف القهوة التي صبُّوها له، غير أن البطل يفشل بظهوره البليد هذا في إثارة اهتمام الجمهور وتوقعاته.
تزعم المنطلقات المعلنة التي تبرر إنتاج مثل هذه المسلسلات أنها تعكس وتدافع عن تقاليدنا وتراثنا، غير أنها لا تفعل ذلك، فتاريخنا ليس مجرد قصص باهتة يوهمونا أنها ذات فائدة تربوية. لكن المسلسلات البدوية لا تنبض بالحياة وتروي قصصا مكررة لا تؤثر في النفس، وتفشل بالتالي في أن تخلق تراثا خاصا بها، ناهيك عن فشلها في التعبير عن تراثنا بصدق؛ في حين أن أفلام رعاة البقر ظلت تبدو طازجة ومؤثرة وقادرة على استقطاب جمهور السينما إليها في أنحاء العالم.
* ناقد سينمائي أردني