عمان - ناجح حسن - يعد مهرجان الفيلم القصير المتوسطي الخامس في طنجة مناسبة للإطلالة على تجارب سمعية بصرية متنوعة يقدمها مخرجون شباب في الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، وأيضا بمثابة فرصة للاحتكاك والتواصل بين مخرجين عرب مع تلك الطاقات.
وبعيدا عن تقييمات لجنة تحكيم المهرجان التي غلبت على قراراتها أبعادا اقل ما يمكن القول فيها بأنها توفيقية وتصالحية تتطلع إلى المحاصصة، فقد حضرت أفلام روائية قصيرة من قبرص واليونان وتركيا ودول البلقان إضافة إلى أفلام أسبانية وفرنسية وإيطالية وبرتغالية مشبعة بالابتكار والتجريب والجرأة والحفر في داخل النفس البشرية وفق مقاييس لم تألفها الكاميرا العربية أو تتعاطى مع مفرداتها لاختلاف الاهتمامات من ناحية، ولقلة الإمكانيات وتفاوت الأساليب التي يجري من خلالها الإنتاج السينمائي في البلدان العربية من ناحية أخرى.
فقد توقف المتلقي مليا في الإبهار الذي قدمته أفلام أوروبية وهي تنطلق في سرديتها لحكايات إنسانية بدت بسيطة لكنها محاطة بتوظيف ذكي وخلاق للألوان والأمكنة ودرجات الظل والنور والاستخدام الرشيق لعناصر الصوت والصورة في استلهام يحيل المشاهد إلى تلك الكلاسيكيات الشهيرة بالفن السابع ضمن خصوصية إبداعية لافتة.
فقد بدا ذلك بوضوح في فيلم الافتتاح القصير المعنون '' الصوت الإنساني '' الذي وقعه المخرج الإيطالي الراحل روبيرتو روسيلليني العام 1948 وفيه صور تلك المشاعر المكبوتة لامرأة وحيدة داخل بيتها كان احدهم قد اثر أن ينهي علاقته معها من خلال الهاتف وطوال مدة الفيلم تبرز محاولة المرأة - تؤدي دورها الممثلة الراحلة آنا مانياني - بالتماسك في تلقي الخبر برباطة جأش ولكن عشقها اللامحدود لهذا الرجل يأبى إلى أن يضعها في مواقف من الضعف الإنساني بحيث تنهمر دموعها وتتبدل فيها حشرجات صوتها كل هذه التعابير الفياضة بالأحاسيس والمشاعر والقلق والانتظار استدعى من المخرج توفير تقنيات جمالية عبر شريط الصوت والموسيقى ولحظات الصمت والتحكم في إدارة بطلته الوحيدة داخل مكان محدود يشي بالعديد من الإيحاءات والدلالات في تفاصيل نادرة تعجز عن التقاطها عين كاميرا مخرج شاب يعمل في السينما المعاصرة.
وتوقف رواد المهرجان أمام الذائقة الجمالية في خمسة أفلام حضرت لمخرجين اثنين من كرواتيا ولثلاثة مخرجين من تركيا فيها يتدفق إحساس عجيب بالصورة والقبض على مكامن يجري فيها تسلسل الأحداث الهادئ والرصين قلما ما كانت تقدمه أفلام هذين البلدين في الأفلام الروائية الطويلة عموما .. حيث كان الفيلمان الكرواتيان : '' باستيون '' لزدرافكو موستاش وفيلم '' من يد إلى يد ''لماركو فيلتش والى جوارهما الأفلام التركية الثلاثة : '' المصير '' للثنائي ايسا بايكين وييلدا اسيكوز وفيلم '' آخر لعبة '' للمخرجة الشابة مويدي ارسلان وفيلم '' حلم الزمن الضائع '' لفيصل سويسيال وجميعها حظيت بالإعجاب والمتابعة لما جسدته من أصالة في التعاطي مع قضايا تشتبك بالصداقة والعلاقات بين الأشخاص على هوامش من النزعات والافرازات التي يتعايش معها الإنسان في مجتمع يضع حواجزا وحدودا أمام الوصول بتلك العلاقات إلى نهايتها المنشودة لا بل فان المفاهيم التي يرتكز عليها تعمل أيضا على إجهاض تلك الأحلام وتنزع عن الإنسان آدميته في سبيل أن ينصهر بهذا العالم المليء بالتطاحن وأشكال الزيف والخداع.
غير أن أفلاما يونانية على غرار : '' بيت أشجار الزيتون '' لتولي دوسيوس ، '' الانتظار'' لستيف كريكرس ، وفيلم '' سيرك الحياة ''، إضافة إلى الأفلام الإيطالية: '' في قلب روما '' لفرانشيسكو كوستابيللي، ''الضفدعة الصغيرة '' لسيلفيا انوشانزي ، وفيلم '' على الطريق '' لبونيفاشيو انجيوس تمتلك جميعها حساسية بصرية وفنية درامية ولقيات جمالية ذات فرادة طافحة بالشفافية الإنسانية وهي تغوص في ذاكرة زمنية ومكانية تقبض على تفاصيل بيئة وطبيعة صعبة من العلاقات بين أفراد واسر لدى شرائح اجتماعية متفاوتة.
تتوازى الناحية الفكرية والجمالية بين تلك الأفلام مجتمعة مع أفلام لا تقل أهمية وفرادة عن أفلام أخرى مثل الألباني : '' ويندوز بي اكس'' ليوجكان هيساي والفيلمين الأسبانيين '' العقاب '' لايزابيللا ايغافيفس و'' بوتيللون '' لتوماس سيلبرمان وهناك أيضا الفيلم الفرنسي '' ارفع السماعة '' لمانويل شابيرا والفيلم البرتغالي '' الجارحة طير فريسة '' لخواو نيكولو .. وفيها تكمن لمسات إبداعية ومقومات الولوج إلى فضاء السينما الروائية التي طالما كانت هاجس أولئك الشباب .
