كتب - خـلف الطاهـات - امتناع وزير العدل شريف الزعبي عن تنسيب ما لا يقل عن 35 موفدا تخرجوا من المعهد القضائي قبل شهور عديدة من جهة، وممارسته لحقه القانوني في تنسيب 37 خريجا من خريجي''دبلوم المسابقة القضائية'' التي يعقدها المعهد ذاته للتعيين في السلك القضائي، فتح المجال واسعا إزاء ملف ''التعيينات'' في القضاء .
مافعله الزعبي، بحد ذاته، يعكس نهجا جديدا من الجرأة والشفافية في آليات التعامل مع الملف القضائي في اطار المكاشفة الحقيقية والمواجهة الموضوعية إزاء الواقع القانوني، الذي يعد القاضي وكفاءته وجدارته ونزاهته وأهليته هي الأساس في أي عملية تطوير حقيقية قد يلمسها جهاز يصدر أحكامه باسم جلالة الملك.
مراقبون ومتابعون للشأن القضائي، لمسوا ان تغييرات حقيقية ومنهجية طرأت على آلية تعيين القضاة في السلك القضائي، وهي آلية تقوم على '' غربلة'' المرشحين للالتحاق بالمعهد القضائي ، علما وكفاءة وسلوكا، وسط إخضاعهم لمعايير متشددة في القبول لا تقبل المساومة .
فلم يعد مقبولا على الإطلاق، وهو ما يتوافق عليه الآن المجلس القضائي ووزارة العدل، تمرير ايا كان من الحقوقيين او كتبة المحاكم من غير المؤهلين، للجلوس تحت قوس المحكمة للنظر في قضايا تتعلق بحقوق تتصل بأعراض الناس وقضايا قيمتها مئات الملايين والألوف من الدنانير لمواطنين ومستثمرين ، أول ما يتساءلون لحظة تطأ أقدامهم ارض الوطن عن وضع القضاء في الأردن..
المستثمرون في كل بلدان العالم معنيون فيما إذا كان القضاء مؤهلا بالفعل لحماية استثماراتهم أم لا، ويحقق العدالة الناجزة دون أية عراقيل عايشوها في دول مجاورة اضطرتهم للانتقال إلى دول تطبق معايير وأساليب عصرية ومتقدمة في العمل القضائي.
فالمشكلة التي كانت تواجه القضاء فيما مضى بحسب قانونيين، كانت تكمن في عدم إتباع معايير واضحة ودقيقة وصارمة في عملية قبول طلاب في المعهد القضائي لاسيما في دورات ''الإيفاد ''التي يدرس الكتبة نحو سنة كاملة دون إخضاعهم لأي امتحان لتقييم تحصيلهم العلمي ودون خضوع مرشحي الإيفاد لأي مراقبة في حضورهم وغيابهم ، اذ انه بمجرد انتهاء الدورة'' غير المتفرغين لها'' يصبحون مؤهلين لمسابقة المجلس القضائي للتعيين وعلى قدم مساواة مع طلبة الدبلوم''المسابقة القضائية'' الذين يدرسون 27 مادة على مدار سنتين يخضعون خلالها ل75 امتحانا ويقدمون بحث تخرج ويلتحقون بتدريب عملي في المحاكم لستة اشهر قبل تنسيبهم للتعيين في القضاء.
قيادات في المجلس القضائي رفضوا عملية تعيين طلاب ''الإيفاد'' والذين يكون معظمهم '' اخفقوا '' في اجتياز مسابقة القبول لبرنامج الدبلوم ، وكان هذا الرفض سببا وراء اتخاذ قرار بوقف إيفاد كتبة وحقوقيين إلى المعهد القضائي منذ سنوات قليلة، واعتماد طلاب برنامج المسابقة القضائية''الدبلوم'' كأفضل وسيلة متاحة في الوقت الحاضر للتعيين في السلك القضائي.
قانونيون يؤكدون على انه ليس من المعقول ان يتم تعيين من ''لم يحالفه الحظ'' ولم تساعده إمكانياته وقدراته العلمية في اجتياز مسابقة القبول لبرنامج الدبلوم في منصب قضائي قبل سنة من انتهاء زميل له مازال يدرس ''الدبلوم'' في المعهد القضائي.
ويشددون على انه من غير الجائز ، ان يغض الطرف عن مرشحين لم يخضعوا لأقسى شروط القبول في الإيفاد ، مثل عدم التحقق من سيرتهم ومسيرتهم الوظيفية او المسلكية،او يكون بعضهم ارتكب مخالفات وتجاوزات لا تؤهله على الإطلاق ان يجلس على كرسي القضاء.
ومنذ وقت قريب جدا فقط، تنبهت قيادات في المجلس القضائي وقبله في وزارة العدل، ان الارتقاء بالعمل القضائي وتحسين كفاءته وتطوير الأداء لا يتأتى إلا بقاض لا يساوم على نطق كلمة الحق او إصدار قرار معلل ومسبب قانونيا ، قاض يؤمن بان مجلس الحكم هو حق لكل الأردنيين ، مواطنين ومستثمرين، أغنياء وفقراء،سادة وعامة.
''التشدد'' في عملية القبول في المعهد القضائي، واعتماد''المسابقة القضائية'' لا ''الإيفاد'' كمدخل رئيسي و''ليس الأوحد '' للتعيين في القضاء، رافقه وضع معايير صارمة في عملية القبول تلك، فلم يعد ممكنا دخول أي شخص المعهد القضائي دون إحضار عدم محكومية ودون الحصول على معدل علمي يتناسب وهيبة القضاء وجلالة المنصب ووقار العدالة إن كان في التوجيهي لا يقل عن 75% او في نتائج المسابقة لا يقل عن 80% وان لا تقل علامته بامتحان مسابقة القبول في المعهد التي يجريها المجلس القضائي عن 70% وفي الجامعة لا يقل عن جيد .
وقد حصر النظام الجديد للمعهد ثلثي المقبولين بان يكونوا من الآن وصاعدا من أوائل كليات الحقوق وخريجي الجامعات الأجنبية.
في وزارة العدل لم تقف رياح التطوير عند عمليات الإسناد والدعم القضائي فحسب ،ففي موضوع التعيينات القضائية والتي يعطي القانون لوزير العدل صلاحية تنسيب الأكفاء لتولي المناصب القضائية قد طالها التطوير والتشديد في الاختيار، ولاحظ متابعون انه ''و بعد أن كانت نسب النجاح في المسابقات القضائية في دورات سابقة لا تقل عن 99% بات تولي الموقع القضائي هذه الأيام ''حلما صعبا'' وباتت عملية ''غربلة'' الاختيار تمر بمراحل عديدة لا تقف عند الحصول على الإجازة في الحقوق فقط بل تفعيل أسس الاختيار على أساس الجدارة والكفاءة، وهي أسس لا تأخذ بالاعتبار روابط الدم والقربى والصداقات، ولا مجال لفرض اسم بعينه أو غيره لا على الوزير ولا على أي جهة قضائية.
وكان الأهم في برنامج التطوير في الملف القضائي لدى الوزارة ، العنصر البشري ''القاضي''، ومن هنا تمت العودة إلى البيت الأول للقضاة ''المعهد القضائي الأردني '' وهي عودة تم خلالها مراجعة خطط المعهد للسنوات المقبلة وإعادة النظر بمستوى ونوعية الحاجات التدريبية والمقررات الدراسية وغيرها مما يتصل بشؤون الفكر القانوني والقضائي،وشهد المعهد تطويرا على أساليب التدريب الإعدادي والمستمر، فضلا عن تعديلات مستمرة على شروط القبول في المعهد لتفسح المجال أمام الكفاءات العلمية والأوائل في كليات الحقوق والكتبة المتميزين الالتحاق بقاعاته التدريسية .
''الصرامة'' في الآليات الجديدة المتبعة في ترشيح وقبول واختيار الدارسين في المعهد عن طريق المسابقة، إنما تأتي تقديرا للمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق''حراس العدالة'' ،اذ انه من السهولة بمكان اختيار آلاف المهندسين او المعلمين او الوزراء والمدراء وغيرها من الوظائف الإدارية والعسكرية في الدولة لتكون في مواقع المسؤولية واتخاذ القرار، الا انه من الصعوبة بمكان ''اختيار'' قاض واحد بمواصفات تستحق قدسية وجلالة وهيبة ووقار القضاء الأردني.
''وزارة العدل'' وهي تخضع ملف التعيينات للتمحيص ، وتعطي الفرصة لكادرها من الكتبة للتقدم للقبول في المعهد القضائي، فإنها تتيح لمن لم يحالفهم الحظ في المسابقة لمواصلة العطاء والمسؤوليات والمهام لخدمة العدالة سواء أكانوا في مواقع كتاب عدل او مأموري تنفيذ او باحثين قانونيين، بل وعمدت الى تحفيزهم عبر نظام حوافز نفذته باثر رجعي اعتبارا من مطلع هذا العام تحفيزا للكفاءات منهم والمتميزين في العطاء من بينهم.
المجلس القضائي، التقط أخيرا، وفي إطار عملية تقييم ومراجعة شاملة لمخرجات الأداء القضائي، الخطأ الذي يمكن أن يظل يرتكب باسم ''الإيفاد'' في حال استمراره، فكان قراره بوقف الإيفاد بعدما ادخل للقضاء نحو 198 قاضيا منهم 92 قاضياعام 2002 و36 قاضيا عام 2005 و70قاضيا عام 2006، وكان المبرر آنذاك للتعيينات أن الجهاز بحاجة لسد النقص الحاصل ، كما أن المجلس ينفذ ما جاء في توصيات اللجنة الملكية لتطوير القضاء (2001 - 2003) والتي تدعو بوضوح إلى رفع عدد القضاة إلى 800 قاض بنهاية 2003، وهو الأمر الذي لم يتحقق لغاية الآن.
رئيس المجلس القضائي وأثناء مداخلة علمية له في احدى ورش عمل المعهد القضائي ''اقر'' أن القضاء الأردني ينقصه الفقهاء والعلماء والمجتهدون ،مؤكدا في هذا السياق أن القضاء لم يخطط له ولم توضع له الخطط في الماضي ، عندما تفاجا الأردن بهجرات متتالية وزيادة عددية في سكان المملكة وبالتالي زيادة عدد القضايا التي ينظرها أعضاء السلك القضائي فضلا عن القضايا ونوعيتها وتعقيداتها.
ويرى مراقبون انه في لحظة من اللحظات الحاسمة التي كان القضاء بحاجة إلى خبرات وكفاءات حقيقية لترفد به، زاحت عمليات التعيين هذه عن الهدف السامي، في ظل عدم إتباع أقسى معايير التعيين والتي كانت تتم على أسس ''المجاملة والدبلوماسية'' لا على أسس من '' الكفاءة والحرفية''، وصار هم كثير من القيادات في غمرة رفد الجهاز تركز على ''الكم'' لا على ''النوعية'' إلى أن تفاجأت قيادات قضائية من أن طرق التعيين سابقا وان كانت شرعية وقانونية، لا تناسب وحجم التطورات والتغييرات العالمية والدولية والوطنية التي طرأت في مجال الفكر القانوني والقضائي، ونوعية القضايا الحديثة المتصلة بهذه المتغيرات منها المرتبطة بالتجارة الالكترونية والإرهاب العالمي والملكية الفكرية والفساد وغسل الأموال وغيرها .
إلا أن متابعين وهم يضعون ملف '' التعيينات القضائية'' على طاولة البحث ، يرون ان الجهاز القضائي الأردني الذي حقق معدلات مرتفعة جدا من الثقة لدى المواطنين الأردنيين بشكل يوازي في نزاهته وثقة الناس بأحكامه ، أجهزة قضائية متطورة في دول عالمية متقدمة، مازال يسيطر على آلاف القضايا التي ترده بالرغم من كل الصعوبات والعراقيل ،وهي عراقيل أطراف أخرى مشتركة في العملية القضائية تحول دون تحقيق عدالة ناجزة وسريعة وصولا للتميز في الأداء القضائي.
وفي المحصلة، فان ملف التعيينات القضائية والجدية في التعاطي معه بجرأة ومكاشفه عالية المستوى وإخضاعه لمعايير حاسمة ومشددة بعيدا عن دبلوماسية المجاملة، يضع مستقبل إصلاح العملية القضائية وخطط التطوير القضائي أمام مسؤوليات من منحهم القانون ''حق تنسيب'' ذوي الكفاءة و''حق تعيين'' أهل الجدارة، باعتبار هذين الحقين ملكاً للوطن والشعب الذي يفترض ان الثقة متوفرة فيمن نسب به وعين وارتضيناه ان يكون حكما بيننا .