يعتقد نصر حامد أبو زيد أن من أهم الجوانب التي يتم تجاهلها في إشكالية النص الديني - ولعلها من أخطرها على الإطلاق - البعد التاريخي لهذا النص. والبعد التاريخي الذي يقصده أبو زيد، ليس علم أسباب النزول - ارتباط النص بالواقع، والحاجات المثارة في المجتمع - أو علم الناسخ والمنسوخ - تغيير الأحكام لتغير الظروف والملابسات - أو غيرها من علوم القرآن التي لا يستطيع الخطاب الديني تجاهلها، وإن كان يتعرض لها على سبيل السجال لتأكيد واقعية الإسلام في اتجاهه إلى التدرج في الإصلاح والتغيير، إنما المقصود في البعد التاريخي، حسب أبو زيد، هو ما يتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص الدينية من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص.
من المعروف أن تاريخية اللغة تتضمن اجتماعاتها، وأن النصوص اللغوية أبنية لغوية لا تفارق النظام الدلالي للغتها إلا في حدود خاصة مشروطة بطبيعة وظيفتها المقصورة في الثقافة، الأمر الذي يؤكد أن للمفاهيم بعدها الاجتماعي الذي يؤدي تجاهله إلى إهدار دلالات النصوص ذاتها، ولا يعني الإلحاح على تاريخية النصوص أدنى إشارة إلى عدم قدرتها على إنتاج دلالتها، أو عجزها عن مخاطبة عصور تالية أو مجتمعات أخرى، فالقراءة التي تتم في زمن تالٍ في مجتمع آخر، يقول أبو زيد، تقوم على آليتين متكاملتين: الإخفاء والكشف؛ تخفي ما ليس جوهرياً بالنسبة لها، وتكشف عن ما هو جوهري بالتأويل، وليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص، بل لكل قراءة - بالمعنى التاريخي الاجتماعي - جوهرها الذي تكشفه في النص.
لذلك كان من الطبيعي أن تصوغ النصوص علاقة الإنسان بالله من خلال الثنائيات اللغوية الاجتماعية، لكن إذا كانت اللغة تتطور بتطور حركة المجتمع، والثقافة أكثر تطوراً، فمن الطبيعي، بل من الضروري، حسب أبو زيد، أن يعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية الاجتماعية الأصلية وإحلال المفاهيم المعاصرة، والأكثر إنسانية وتقدماً، مع ثبات مضمون النص.
إن الألفاظ القديمة ما تزال حية مستغَلَّة، لكنها اكتسبت دلالات مجازية، والإصرار على ردها إلى دلالاتها الحرفية وإحياء المفاهيم التي تصوغها، كما يقول أبو زيد، إهدار للنص والواقع معاً، وتزييف لمقاصد الوحي الكلية.. إن تأويل ما هو اجتماعي / تاريخي في النصوص شرط لتجدد النصوص ذاتها بتجديد ما هو جوهري أساسي وإسقاط ما هو عرضي مؤقت بالنسبة للشروط الاجتماعية / التاريخية المغايرة. لقد كان المجتمع الذي خاطبه الوحي مجتمعاً تجارياً خاصة في مراكز التأثير والسيطرة الدينية، ولذلك تعكس لغته إطار المفاهيم التجارية، كالبيع والشراء، والربح والخسران، والميزان... إلخ، ولم يتمسك أحد من القدماء، بل من المعاصرين للوحي، بالدلالات الحرفية لهذة المفاهيم، وتم تأويلها كما تم تأويل نصوص الصفات سواء بسواء.
ويذهب أبو زيد إلى أن الخطاب المعاصر يعدّ النصوص الدينية قابلةً لتجدد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزمان والمكان، لكنه، أي الخطاب الديني، لا يتجاوز فهم الفقهاء لهذه الظاهرة، ولذلك يقصرها على النصوص التشريعية، دون نصوص العقائد، أو القصص، وعلى هذا التحديد لمجال الاجتهاد يؤسس الخطاب الديني لمقولة صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويعارض إلى حد التكفير الاجتهادَ في مجال العقائد أو القصص الديني.
وبما أن التمسك بالدلالات الحرفية لمفاهيم اجتماعية / تاريخية في لغة النصوص الدينية يؤدي، ليس فقط إلى إهدار الواقع والنص، إنما أيضاً إلى تزييف مقاصد الوحي الكلية، والتناقض مع ظاهر ما يعلنه الخطاب الديني، وربما مع ما يقصده كذلك، فإن تاريخ تأويل القرآن، ومن ثم اشكاليته، ينبع من تجدد الحياة بالحركة والصيرورة مع ثبات النص في منطوقه، وهي الاشكالية التي عبر عنها علماء اصول الفقه حين قالوا بندرة النصوص مع تكاثر الوقائع وتجددها.
ان النصوص، دينية كانت ام بشرية، محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين لانها تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد. إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متحركة متغيرة في المفهوم ، وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضاً بجدلية الكشف والإخفاء.
وإذا كان النص القرآني يثير الإشكاليات السابقة، رغم ثبات منطوقه، فإن نصوص الأحاديث النبوية، كما يرى أبو زيد، تثير إلى جانب الاشكاليات السابقة اشكالياتها الخاصة، فقد خضعت الاحاديث النبوية لآليات الانتقال الشفاهي - ولو فترة - ودُونت متأخرة، الأمر الذي يقربها إلى مجال النصوص التفسيرية من حيث أنها رُويت بالمعنى لا بلفظ النبي. وإذا كانت الأحاديث نفسها، أي كما نطق بها النبي بلغته وألفاظه، نصوصاً تفسيرية لنوع من الوحي مغاير في طبيعته لوحي السنة في الأحاديث التي بين أيدينا بحيث تكون في حقيقتها تفسيراً للتفسير، فإنها، أي الأحاديث، تطرح اشكالية أكثر تعقيداً من جانبَي المنطوق والمفهوم معاً، اذ يفقد هذا النوع من النصوص صفة ثبات المنطوق، ويصبح تحديده أمراً اجتهادياً خاضعاً بدوره لجدلية الكشف والإخفاء.
وهكذا، فإن الخطاب الديني، حسب نصر حامد أبو زيد، يرى ان النصوص الدينية بيّنة بذاتها، ناطقة عن نفسها، رغم إدراكه على المستوى النظري، للفاصل الزمني واللغوي بين عصر النص وبين العصور التالية والإشكاليات التي يثيرها، فاللغة في النصوص، ولو كانت معاصرة للقارئ، فهي مشكل أيضاً، ذلك انها ليست بيّنة بذاتها، اذا يتدخل أفق القارئ الفكري والثقافي. وكذلك عمليات التطور والنمو الاجتماعيين، وما يصاحبهما عادة من صراع فكري وسياسي، في فهم لغة النص ومن ثم إنتاج دلالته. ويستشهد، أبو زيد، ببعض الاقوال، التي وردت عن علي بن ابي طالب، حين رفع الأمويون المصاحف على أسنّة الرماح، عملاً بنصيحة عمرو بن العاص، طالبين الاحتكام إلى القرآن، الأمر الذي أحدث انشقاقاً في صفوف جيشه، فقال علي: بالأمس حاربناهم على تنزيله، واليوم نحاربهم على تأويله ، وهي عبارة تحاول أن تلفت أنظار الذين استجابوا للتحكيم إلى أن هؤلاء القوم من بني أمية يحاولون التلاعب بالتأويل، بعد أن كانوا في سنوات سابقة يرفضون التنزيل. إن هذه العبارة، يقول أبو زيد، هي واصفة لطبيعة الخلاف ولا تحمل دلالة معينة، بدليل أنه هو نفسه الذي قال رداً على المحكّمة: القرآن حمال أوجه ، وكذلك قوله: القرآن خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال . أي أن التأويل لا مفر منه، لكن الخطاب الديني يخفي من التراث هذا الجانب المهم والخطير في فهم طبيعة النص. هذا الفهم الذي سمح بالتعددية ومنح الثقافة الإسلامية طابعها الحيوي الذي ظل مستمراً حتى توارى هذا الفهم مفسحاً المجال لفهم آخر يضع دلالة النصوص في قوالب جامدة، وهو ما أصبح إلى حد كبير منطق الخطاب الديني المعاصر.
* باحث أردني