تمهيد موضوع تجديد الخطاب الإسلامي يكاد يكون من الموضوعات التّي قلّ من يتطرق إليها بعمق وجرأة في ساحات السياسة والثقافة والفكر فالخطاب ليس تعبير وتوجيه الحديث للأخر ونقل الفكرة المكنونة في القناعة للأخرين وإنما هو أشمل وأوسع مما يتصوره البعض فهو بهذا الوسع يحتوي ويتضمن قواعد ومباديء وتصورا على صاحب الخطاب ( الداعية، السياسي، المثقف، والباحث ) أن يراعيه كما يتضمن الخطاب طبيعة العلاقة ونوعيتها التي يريد أن ينسجها المخاطٍب مع المخاطَب وكيفية صناعة رأيه وتشكيل نفسيته نحو قضية معينة تشغله ويركز عليها بكل عمقه. و نرجع التقصير في مناقشة وتحليل هذا الموضوع إلى غياب الجوهرية في التصور فينصرف النقاش إلى الخطاب المجرد عن سياقاته السياسية والثقافية والاجتماعية عن الأوضاع المحيطة به إقليمياً ووطنياً ودولياً والقضايا ذات بعد اجتهادي التي تريد منه معاملة في مستواها أو يكتفي بالبحث في أساليبه ومواضيعه التقليدية ويجنحون به إلى دائرة ثابت بدل أن يكون في دائرة المتغيرات فغلب على تصور الكثير أن الخطاب من الثوابت واستعصت الرؤية التجديدية إن تلمسه حتى جاءت الأوضاع العالمية والضغوطات الدولية والتحولات السريعة داخل المجتمعات الإسلامية في كل إتجاه فصارت كل ما كان يرفض تناوله بالخطاب مفروضاً للتعاطي الفكري والثقافي والسياسي فلا يمكن ملامسة التجديد من جهة الخوف والريبة أنما تناوله من جهة الشجاعة والقناعة بالإثراء والاجتهاد
رؤية الإســلاميين لخطابهم الإسلامــي
يرى الإسلاميون الخطاب على أنه وسيلة لنقل الفكرة ومخاطبة الناس بها ومن خلالها ولا يركزون بوضوح على طبيعة الخطاب وموضعه وقدرته العلمية والفكرية في معالجة المستعصيات من الإشكالات والصعوبات والمستجدات المصاحبة والمتولدة من الحركية السياسية والثقافية والاجتماعية و إفرازات الأوضاع الاجتماعية والسلوكية والنفسية للمجتمع و الذي تجلى من خلال الخطاب الإسلامي أنه بهذه الرؤية يتجه إلى العمومية والإجمالية في الرؤية ولا يتعدى القضايا التقليدية التي تحجب القضايا الأساسية فتتعقد المسارات وتميع الخيارات وتعوم المواقف بلا موقف بسطحية الرؤية والتشخيص والتحليل فحصروا الخطاب في التعبئة والتجنيد للفكرة و التسليم الفكري المسبق دون نقله إلى ساحات المحاورة والإقناع والفعل الفكري هذا يرسخ التبعية النفسية المعيقة للإبداع والتطور والإثراء وليس الخطاب مجالا للسجال والجدال العقيم وتبادل التهم والتقليل من شأن الآخرين فكرياً وسياسياً وثقافياً وزجه في سياق ردود الأفعال والانفعالية المترتبة عن التشرذم الفكري والسياسي والخلط الثقافي ، فيذهب الكثير من مروجي الخطاب الإسلامي إلى اعتماد منهجية الاستثمار في الصراعات والمواجهات المختلفة والابتعاد به عن ساحات المساهمة في الحلول وتذليل الصعوبات والمعالجات الموضوعية لمختلف الإشكالات التي تشكل تراكما مانعاً من التقارب بين مختلف التيارات السياسية والفكرية والثقافية وتحقيق المفاهمات السياسية والإجتماعية والتفاعلات الحضارية والتاريخية الإيجابية في المجتمع .
ضرورة التجديد لامفر منها
لايتأتى للخطاب الإسلامي الحضور في ساحة الفعل والقرار إلا بالتجديد والإثــراء وترقيته إلى مستوى النظر والتحليل الإيجابي والإستشراف المستقبلي مادامت هذه المسألة مسلمة في الواقع ويعمل بمقتضاها الجميع حتى من جمدت أفكارهم وتبلدت عقولهم فوجب حسمها على مستوى النظر عند الإسلاميين لتكون قناعة قائمة في منهجية المعالجة والحضور الكافي في ساحة الفعل الحضاري وهذا يدفعنا إلى طرح السؤال التالي والإجابة عنه هو لماذا نجدد الخطاب ؟ وكيف نجدده وفي أي سياق يكون التجديد ؟ إن تجديد الخطاب ينطلق من جهتين لا ثالثة لهما :
أولاً - جهة التصور
ثانياً - جهة الواقع
من جهة التصور أولا: نرى إن التجديد سنة من سنن الله في الكون والحياة فالإنسان و الكون الذي يحيط به تجري فيه وعليه تغييرات وتلمسه تطورات بحكم الفطرة أو بوقع الظروف الداعية للتجديد قال الله تعالى في طبيعة الإنسان '' لقد خلقنا الإنسان أطواراً'' فالإنسان إذا ما نظر في نفسه أو غيره فسيجد نفسه أنه مرّ بمراحل مختلفة ومتعددة فهي أطوار ومراحل حيث تتكيف معها وتنسجم فيها الأبعاد النفسية والعقلية والبد نية وأشار المولى عزّوجلّ لهذا بالبصر '' وفي أنفسكم أفلا تبصرون '' وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام لعملية التجديد في المفاهيم والعودة بالناس إلى الفهم السليم للإسلام كلما اعتراه الفهم الخاطيء أو القاصر لقوله صلى الله عليه وسلم '' إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها '' ثانياً : ترك أو رفض التجديد وعدم الإقبال عليه يؤدي حتماً ويقيناً إلى الجمود والإنحباس في موضع محدد وعدم التحرك إلى موضع أخر ومغاير فالتجديد يعطي الحيوية للأشياء ويدفع إلى الإبداع وكسر الرتابة والتآكل الذاتي في الخطاب ثالثاً: سنة التطوير والتجديد في الرسالات والأديان كانت قائمة وثابتة حيث ظهرت جزئية ثُمَّ تكاملت وتعاظمت ثم رأيناها توسعت وارتقت ثمَّ تمت لقوله تعالى '' اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ''
فالخطاب الإسلامي عندما نتابعه ونسمع له نراه يحتاج إلى التجديد والتطوير بحكم ما أعتــرضه من خلل وجمود في بعض مفرداته وسياقاته وموضوعاته وتجاوزته الأحداث والمعطيات في الواقع خاصة مع القضايا المعقدة التي وقعت في التشابك الفكري والسياسي والعرقي والمذهبي والسيسولوجي داخل المجتمعات والمستجدات التي لها علاقة مع التحولات العالمية و خاصة مع إنتفاء الحصانات الفكرية والعقيدية والسيادات الوطنية والإختراق الحاصل في المجتمعات الإسلامية بفعل العولمة ونضيف إليها تداخل الثقافات بين شعوب العالم
المآخذ على الخطاب الإسلامي
عرف الخطاب الإسلامي في فترات غلبة التيار اليساري العلماني والقومي على الساحة الفكرية والثقافية والأدبية والسياسية والفنية قوة وعمقا في تفنيد وإسقاط مبررات التوجه اليساري والعلمانية في رفع التحدي والعودة بالدولة الوطنية إلى موقع الاستقلالية والمقاومة فأتسم الخطاب بالعلمية والمجادلة الثقافية والفكرية والإيديولوجية الإيجابية فكان الخطاب يظهر من خلال المناظرة بالانفتاحية والاستيعابية لكل القضايا المطروحة منها حقوق الإنسان والحريات المختلفة والشورى والديموقراطية ونبذ الحكم الفردي والاستبداد السياسي وحق التملك وعرف الخطاب رواجاً في الساحة العربية والإسلامية وبدأ يتوسع في الأوساط الجامعية والمثقفين والنخبة ولكن بعد فترة من الغلبة والهيمنة الفكرية والسياسية له لم يتمكن الخطاب من مواصلة مسيرة الاستيعاب وسقط من فضاء التيار واستيعاب قضايا الأمة العربية الإسلامية إلى فضاء الحزبية والتنظيم السياسي و الفكري المصغر والتراجع في حمل هموم الأمة وعدم استيعابها وأنحصر الخطاب في المسألة الذاتية ومطالبها وتداعياتها المختلفة فأنصرف الخطاب الإسلامي إلى الكليات والعموميات وترك التدقيق والتشخيص وحصر المشكلات وتحديد الأفاق مع رسم المسارات الكبرى لنهضة الأمة والشعب فالحديث مثلاً '' أن الإسلام يمثل حلاً لمشكلات الأمة '' هو حديث كلي شامل ومقبول غير مرفوض و لكن الحقيقة التي يجب أن ندركها في العمق ماهية مشكلات الأمة ؟ و أين الأولوية في حل المشكلات ؟ ومن هو المؤهل في الأمة لتحديد المشكلات وتوضيحها ؟ الدولة أم الحركات الإسلامية أم النخبة المثقفة أم الأحزاب والجمعيات والمنظمات المدنية أم الكليات والجامعات والمعاهد أم الجميع ؟ وعند تحديد الجميع كيف يكون السبيل لهذه الحلول ؟ فتغلف الخطاب الإسلامي بالبعد العاطفي والوجداني -وذلك مطلوب - على حساب المنهجية العلمية الموصوفة بالدراسة والبحث والتحقيق وحسن التقدير بالإحصائية وأستغرقته الجزئيات والفروع واستنفدته الخلافات الفقهية والعقيدية والفكرية و المذهبية وغاب عنه للأسف الإطار المحدد لمقاصده ومعالمه فتحول من مسار الإبداعية إلى سياق الاجترار الماضي محاولاً حسم الخلافات التاريخية الموروثة من صرا عات الأمة فهو خطابٌ وقع في دائرة تعتبر خارج دائرة الفعل والزمن هل الخطاب هو المقصود بالتجديد ؟
البعد الوطني وتوافقه مع البعد العالمي
يخطيء من يتصور أن الخطاب هو المقصود بالتجديد فقط ولكن الحقيقة التي يجب أن ندركها جميعاً أن الخطاب يتناول قضايا ذات أهمية في حياة ونظام الشعوب فتنعكس في أسلوب الخطاب وأنماطه وأبعاده بالكيفية التي تطرح وتناقش بها القضايا الحساسة منها في المجتمع إن تجديد الخطاب الإسلامي يجب أن يبنى في سياق الاتصال بالأخر ودعوته إلى إقامة علاقة سليمة مبنية على أسس الاحترام والتعايش والتعاون فلا يجب إلغاء الأخر مهما كان فكره وخلفياته وإعتماد قبول الرأي والرأي المخالف ومن أبرز مظاهر تجديد الخطاب الإسلامي أن ينسجم مع الحقائق القائمة في المجتمع منها الحقائق العرقية والمذهبية واللغوية والطائفية والثقافية والتراثية والتاريخية فلا يمكن للخطاب أن يبقى جامداً و كل شيء من حوله يتطور ويبقى هو رهينة الرؤية الماضية التقليدية للأشياء منها مفهوم الدولة الوطنية تطور وتنوع وعرف تحولات كثيرة ومنها موضوع المشاركة السياسية والمساهمة في البناء الوطني وكذلك قضية حقوق الإنسان وحرياته المختلفة والمتنوعة والعمل على إثرائها ومن أكثر القضايا السياسية يتعثر فيها الخطاب الإسلامي مسألة البعد الوطني وتوافقه مع البعد العالمي للأمة الإسلامية وكيفية الترجيح في العملية السياسية الداخلية ومن القضايا التي مازال الخطاب يتعلثم فيها قضية المرآة ومشاركتها في الحياة العملية والسياسية والاجتماعية حيث لم يصل بعد إلى تقريب المسافات بين المنظور الشرعي السياسي والمنظور العرفي التقليدي المؤثر في ضبط العقلية الإسلامية أولا: على مستوى المنظومة الثقافية والشرعية للأفراد وثانياً: على مستوى ثقافة المؤسسات المشكلة للخطاب وحيثياته لانجدد الخطاب الإسلامي في التعبير والعبارة وإنما نتعدى ذلك إلى تجديده في الإثارة والإنارة ، ونقصد بذلك إثارة كل الإشكالات والإختلالات والقضايا الضاغطة علينا في ساحة التجاذب السياسي والثقافي و الاجتماعي ، وإثارة بالدرجة الأولى كل الإشكالات التي ساهم فيها الخطاب الإسلامي وأفرزها من تعاطيه للشأن السياسي والثقافي والاجتماعي والدولي والوطني وإلى جنب ذلك التركيز على الإنــارة ونريدها أن يستنير الخطاب الإسلامي بأبعاد المجتمع لأن المجتمع أسبق حضوراً من الخطاب والخطاب هو تعامل مع مجتمع قائم ولاتكون إنارة جيدة في التعامل مع القضايا الضاغطة إلا بإعادة القراءة فهي مدخل معرفي لكل شيء وتقويم له ومعالجة له ولا نقصد بالقراءة المطالعة في الكتب والصحف وإنما القراءة المقصودة هي التي تتعدى السطور إلى قراءة حياة الناس وأوضاعهم وحالة الأنظمة القائمة فيهم ومدى علاقتهم بأوطانهم وقيمهم وتراثهم وقراءة الأوضاع المستجدة في الأمة الإسلامية والعالم وإعادة النظر في كل ما من شأنه أن يعيق الاندماج الخطاب الإسلامي في مراحل بناء المجتمع وتجذره في العمق والحيز الجغرافي .
قراءة الاحداث والظروف الطارئة
إن أبلغ مظهر من مظاهر القراءة هو الزمن ، والزمن هو جزء من الحضارة و الفعل الحضاري فإغفال الفعل الحضاري هو ترك للحضور والأشهاد الحضاري في الأمة الإسلامية قال أحد العارفين بمكانة الزمن '' رحم الله من عرفَ زمانه فاستقامت طريقته '' ومن أبرز ما يحتاجه الخطاب الإسلامي في عملية القراءة هي قراءة الأحداث والظروف الطارئة والتحولات السريعة في العالم ولم يبق العالم بعيدا وإنما صار قرية صغيرة ومتقاربة غير متباعدة ولا يمكن للخطاب أن يتجاوز ما يقع ولا يفرز فيه رؤية أو موقفاً أو تحليلا لقد تعرضت إلى بعض الحاجيات في تجديد الخطاب الإسلامي ولم أتعرض إلى كل القضايا والحاجيات المختلفة والضاغطة في الوقت نفسه وقد اخلص إلى مسالة إن الخطاب الإسلامي اليوم يجب إن يتحرر من إرهاصات الواقع وإرهقات الماضي ويندمج بإيجابية مع حركية العالم والمجتمع الذي ينشأ فيه ويعمل على فك الاشتباك بين منطلق الأممية والوطنية وكذلك فك الاشتباك بين النصية والواقعية بإحداث توازن في مجال التواصل والانسجام وإثبات للمجتمع حق الاعتراض
* نائب رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية
[email protected]