الجرة.. رمز للخصب وملهمة العشاق

الجرة.. رمز للخصب وملهمة العشاق

''حفنة من التراب وضعتها في فخارة صغيرة اشترتها لي أمي ذات عيد، كانت أجمل ذكرى حملتها من الوطن، ما زلت محتفظاً بها مع أشيائي الخاصة، فهي التي بقيت لي في حين ذهب الآخرون''.. بهذه الكلمات يستحضر رجل مشاعر جياشة رافقته في بداية مشوار اغتراب امتد لأكثر من أربعة عقود.
ويحمل التراب أكثر من حنين جارف للوطن، وتعلن الازدواجية المتناقضة ما بين تراب يمثل جذور الحياة والخصب، وآخر ينهال على البشر في رحلة اللاعودة حالة نادرة من العطاء والفناء، تجسد قيمة حياة تبدأ من التراب وتنتهي فيه.
وفي ألفة زاوجت بين التراب والماء تشكل الطين الذي سخّره الإنسان منذ آلاف السنين في صناعة الأواني الفخارية التي تستخدم لطهي الطعام وحفظ الماء والحبوب والزيت والخمور، فيما مثلت بعض التماثيل الطينية المنقوشة بصور طيور وحيوانات وزخارف مختلفة رموز عبادة لدى بعض الشعوب.
ومثلت الفخاريات بأنواعها، جزءاً من المشهد التقليدي لبيوت الناس أيام زمان في المدن والريف والبادية في الأردن، في حين احتلت ''جرة الماء'' الأولوية.. وبرغم انها كانت من أهم المقتنيات، إلاّ أن كثيرين كانوا ينذرون في لحظة غضب وانفعال بأن يكسروها وراء شخص يبغضونه إذا ما تحقق الأمل بمغادرته حتى تكون ''بلا رجعة''!.. وبمنتهى الجدية كان البعض يقذف جرة فخار بحجم صغير وفاء لهذا النذر..
ومن شروط الحصول على ماء بارد، وضع الجرة في مكان أقرب ما يكون لمجرى الهواء خلف الأبواب أو تحت النوافذ على أن ترتفع قليلاً عن الارض على قاعدة من الاسمنت أو المعدن ليرشح الماء من قعرها.. فيما كان البعض يلفها بقطع من الخيش. أما غطاؤها فكان في أغلب الأحيان من الفخار، يوضع عليه كوب (كيلة) من الألمنيوم تعلق بواسطة حبل باحدى أذني الجرة، أما عدد وحجم الجرار فكان يعتمد على عدد أفراد الأسرة..
وهناك من كانت لديه أكثر من جرة. وفي القرية كانت ''الجرة'' أكثر من مشهد فلكلوري يرتبط بالتراث الجميل؛ فقدوم فتيات يتمايلن لملء جرارهن من الينابيع أو قنوات المياه الجارية، مثّل حالة من الغزل والعشق بطقوس مختلفة أطلقت العنان لقصائد وأغان وعواطف وجدت في ''الريفية'' التي تحمل الجرة فتاة الأحلام وملهمة الشعراء.. في حين كان معظم أهل القرية يعتمدون على الجرار في تخزين الزيت قبل أن تعرف التنكات والجالونات.
أما ''شربة الماء'' فهي شكل مختلف من الجرار ''صوت الكوز بالجرة''، وكانت ضمن ''الزوادة'' التي يحملها المزارعون معهم الى الحقول.
وبين الأمس واليوم صور مختلفة لتلك الاواني الفخارية.. أباريق، مزهريات، قوارير، قدور طبخ، شلالات، نوافير، حصالات لـ''تحويش النقود''، صحون متعددة الاستعمالات اشهرها ما كان يستخدم لاعداد ''المريس'' من خلال دعك قطع الجميد فيه جيداً حتى تذوب وتترك مخلفات أشبه بالحصى الصغيرة والتي غالباً ما كان يتسلى بقضمها الكبار والصغار أو يتم تنشيفها في الشمس لاستعمال آخر..
وتتوزع هذه الفخاريات في أماكن مختلفة وعلى جنبات الطرق، بشكل اقرب ما يكون معارض في الهواء الطلق، وفي تعريفه للفخار يقول أحد المهتمين بتصنيعه وبيعه منذ اكثر من عشرين عاماً ''لبيب الفاخوري'': هو مزيج من تراب بنسبة (40% أحمر و60% أخضر) يضاف إليها 20% من رمل صويلح و3% من الملح الذي يساعد في تماسك الخلطة، وتحتاج الجرة الواحدة ما بين (3-5) أيام، حيث يوضع الطين المجبول على دولاب خاص بتصميم الفخار وفق الشكل المطلوب، ثم يتم ادخالها لفرن خاص ولمدة تصل أحياناً الى (20 ساعة). ويضيف: كان الفخار تجارة رائجة في الماضي، لكثرة استعمالاته وسهولة تعرضه للكسر، إلا أنه لم يعد يستهوي الناس هذه الايام، وبخاصة في ظل غزو كبير للمستورد منه والذي يباع باسعار في متناول الجميع وباشكال جميلة واكثر عصرية، غير إن الاقبال على القوارير لايزال جيداً في فصل الصيف، في حين اقتصر استعمال الجرار وشربات الماء على عمال الورشات وبعض العزاب من المغتربين بخاصة وان اسعارها لا تزال رخيصة لا تتجاوز ثلاثة دنانير، في حين كان سعر الجرة متوسطة الحجم قديماً لايتعدى ديناراً واحداً..
ويقول بائع أوان فخارية ''السيد عبد العال'': بالاضافة لكونه أصل الإنسان كما ورد في القرآن الكريم لقوله تعالى: ''وخلقنا الإنسان من صلصال كالفخار''، فهو من التراث الاصيل الذي مازال يحظى باقبال مختلف الشرائح الاجتماعية، وبخاصة القوارير التي تستخدم لزراعة النباتات والازهار، برغم وجود بدائل من النحاس والبلاستيك، فالبعض يرى فيها جمالية مختلفة باعتبارها جزءاً من الماضي. أما السياح فتستقطبهم القطع الصغيرة التي يحملونها معهم كتذكار عند عودتهم الى بلادهم.
ويضيف: هناك تطور على هذه الصناعة فلدينا شلالات ونوافير مختلفة الاحجام والاشكال تلبي حاجة الناس هذه الايام الذين يميلون لوضع هذه ''الاكسسوارات'' في بيوتهم، في حين كان في السابق الاعتماد على ''الجرات والشربات والقوارير'' فقط.
وفي كتابه (الطفيلة منذ العصر الحجري حتى 1930) يشير الباحث سليمان القوابعة إلى جغرافية فريدة تميزت بها المدينة التي تقوم على طبقات من الصلصال وبألوان مختلفة، فيما شكلت أتربة ''الطفل'' الرمادية المادة الخام لصناعة الفخار والخزف، والتي أبدع فيها الادوميون والأنباط الذين استوطنوا المدينة في عهود ماضية.
وعرفت الجرة بأسماء مختلفة مثل (الزير، الزلعة). أما سر النكهة المميزة لـ''القدرة الخليلية''، الأكلة الشهيرة في فلسطين، فهو طبخها بقدر من الفخار، في حين يلعب المثل الشعبي ''طب الجرة عَ تمها تطلع البنت لأمها'' دوراً كبيراً في اختيار العروس من خلال سيرة والدتها!

كريمان الكيالي