إبراهيم السواعير* - ينطلق الفنان البحريني محمود الملا من أنّ الخطاطين والخيّاطين إنما يأكلون من أعماق عيونهم! ؛ وأنّ الصبر والأناة في تعلم الخط العربي لا بد ينعكسان في انطواء الخطاط على تفاصيل حرفه، كجزءٍ من رومانسية مكوناته وأسراره التي تتكشف عقب كلّ محاولة.
ويسعى الملا، الذي افتتح معرضه مؤخراً في اتحاد الكتاب الأردنيين ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي البحريني، إلى أن تتعاضد نهايات الحروف الدالة مع إيحاءات اللون، ودلالات التشكيل، مستأنساً بآي الذكر الحكيم، التي حملت معناها صور الحرف، وذهنيته في آيات سورة: المنافقون - مثالاً، لا حصراً- إذا جاءك المنافقون... الآية ، مشيراً إلى ثعابين تتحرك بالحرف، وخطوط تستقيم أو تتعرج.. وهكذا... ذاكراً لوحةً لخّصت قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرقوا.. محمّلاً النجمة المثمنة والأحرف الستة ما يرمي إليه؛ في تبيان تجربة دول مجلس التعاون الخليجي في التكامل والوحدة.
يقول الملا، في شرح مسمّى حدائق الوهم ، معرض الخط الأخير في عمّان: لن تجدَ حرفاً واحداً بعينه؛ ولكن، يمكن أن تلمّ شعثَ حروفٍ تتبعثر كحالنا المتشظية!... وعند إنعام النظر في اللوحات لا بدّ أن ننصف النقطة الحمراء... ومرموز الصفر، الذي يتخللها.. وهو ما اكتشفناه، نحن العرب، ولم نستفد من موارده الهائلة التي يتضمنها! ... ويذكر الملا في هذا السياق شجرة الأرز الحزينة الباكية ، ومنظر الغروب الأشد كآبةً وحزناً.. وهو ما ضمنه لوحةً العام 1975 في لبنان، بما تحمله من مرامي التفكك والحروب الأهلية، آنذاك.
ويستند الملا، الخطاط بالديوان الملكي البحريني منذ العام 1972، إلى أنّ الخط، ليس مجرد حروفٍ تستهوي رائيها، أو تعرجاتٍ تنساب بذائقة المهتمّ؛ بل هو دنيا تجمع ما بين الجمالي والاجتماعي (الرسالة)، وتزخر بمتناقضاتٍ وعوالم تتباين أو تتوافق تبعاً لمنطقة العماء أو مساحة التأويل لمتلقيها. ويرى الملا أن روح الخط لن تبخل على الباحث عنها؛ فهي عروسٌ غالية المهر تحتاج دربةً وتمرساً وفهماً عميقاً بالمداليل .
الملا، الذي تأثر بالخطاط اللبناني كامل بابا قبل أن يراه، من خلال مدونات الخط التي ضمّنها كتاب روح الخط العربي ؛ يعود على حدائق الوهم بإشارته إلى أن الورد والسمك، والخيال غير المنته، وملاحقة الرسم الإشاري، تتعزز بنهايات حرف الحاء مثالاً، والألف الممدودة،..
وأنّ العنوان استوحاه من قصيدة لم يسمعها لصديقٍ عربيٍّ مقيمٍ في ألمانيا،... ويشير إلى أن الفكرة، قد تأتي هكذا؛ من دون أدنى تخطيط، ذاكراً لوحة السفينة والقمر ، وحرف الألف الشامخ، وسارية السفينة، وكتلة السفينة الأمامية، والأمواج المتلاطمة بضراوة؛ في حين أن السفينة تظلّ ثابتةً على حالها، لا تتحرك!... مشيراً إلى أن ضوء القمر يعكس شفافية الحرف، والحلم، المتضمن بحال الأمة العربية التي تتقاذفها عاتيات الموج. ولد الملا، العام 1952 ، بمدينة المحرّق في البحرين، وكلّف العام 1973 بخطّ نسخةٍ من دستور البحرين، وكانت بداياته مع هذا الفن بتقليده خطوطاً احتفظ بها أخوه الهاوي، ومحاولاته تحدي كراسات الخط -في ذلك الحين- وبانت موهبته في الخط خلال الإعدادية، وكان يتابع ما تروّس به مجلات الحائط، وكتب المؤلفين، وينفق وقتاً كثيراً، وورقاً أكثر في سبيل المطابقة.
وحول ثنائية الرسم والخط، يرى الحائز على الجوائز التقديرية في معرض الفنون التشكيلية السنوي السادس، والسابع في البحرين للأعوام 1977، 1978 .. وجائزة مسابقة ملون السعودية في جدة 2003 .. أنّ الخطاط يمكن أن يكون تشكيليّاً؛ بينما ليس بالضرورة أن يكون التشكيليّ خطاطاً ...
ويذكر الملا من رسامي البحرين الفنانين: إبرهيم بوسعد، وأحمد غلوم.... ويشير إلى انّ على الفنان أن يدعم ذائقته الجمالية والذهنية بالاطلاع والمتابعة و التجديد.
ويصف الملا، المشارك في 17 معرضاً فنياً منذ منتصف السبعينيات، أنواع الخطوط بأنها تتميز، وهي بالنسبة للخطاط أبناء يصعب التحيز لأحدها؛ بالرغم من أن الهوى لا بد يميل قسراً؛ ومن واقع خبرته ينظر للخط الفارسي على أنه يرمز للانسيابية، والديواني من حيث خفته ورشاقة تركيبه،... ويرصد حالات الإبهار في الجلي الديواني؛ في حين أن خط النسخ يتجلى فيه عنصر الانشراح، الذي يقابله عنصر الجد في خط الرقعة. ويحترم الملا خط الثلث، فيما يعترف بأن الخط الكوفي يحمل مفهوم العراقة والأصالة. ومع أنّ الملا يتهيّب الخط الثلث، وما ذاك إلا لأنه يتذوقه..
فإنه يعترف بهندسة الجلي الثلث، الذي ما زال يستعصي على كثيرٍ من مستسهليه.
الملا، الذي شارك في معرض جمعية البحرين للفنون التشكيلية (سعف النخل) العام 1984، وفي معارض بحرينية: فرنسية، مصرية، سعودية، كويتية، لبنانية، بريطانية... يعود للتأكيد على أن الخط هو محمول همّه، ورجائه، وقنوطه.... سارداً قصته مع الحمى، وتلاوته آية ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع.... الآية .. مشيراً إلى أن دعاء سيدنا إبراهيم أوحى له بلوحة تضمنت خطين متوازيين؛ تماماً كسكة الحديد التي لا انحراف فيها... وفراغاً، ووحشة جبال، وليلاً، وقمراً.. وكل تلك المفردات الدالة تغلفت بأرضيةٍ ذهبيةٍ للجلي الديواني.
ينوّع الملا بالطرق على النحاس، والألمنيوم، والحفر على الزجاج، واستخدام الألوان الزيتية والمائية والرصاص.. وهو مهتمّ بالمسرح والتصوير الفوتوغرافي.
* شاعر وصحفيأردني
