تكتب الصديقة الكاتبة سميحة خريس في افتتاحية الملحق الثقافي لصحيفة الرأي أفكاراً واقتراحات مصاغة بعاطفة مؤثرة عن إربد عاصمة للثقافة في الأردن، وتقترح، من ضمن ما تقترح لإربد عاصمة الثقافة، إنشاء دار للسينما.
ماذا يمكن أن نفهم من تعبير دار للسينما؟ ما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى هو افتتاح صالة لعرض الأفلام، أي صالة سينما. وهنا، وانطلاقاً من واقع الأمور باتجاه تحقيق فائدة مرجوة مرتبطة بإشباع حاجة ثقافية، يبدو لي أن من المفيد التفريق بين الدار والصالة.
قبل ما ينوف عن الخمسين عاماً كانت صالات السينما في بلادنا، وهي كانت توجد في أكثر من مدينة كبيرة، تشكل ظاهرة نشاط اجتماعي تساهم فيه مختلف شرائح المجتمع المدني، وكان رواد الصالات يتشكلون من عشاق السينما الذين يذهبون لحضور الأفلام فرادى أو مجتمعين، وكذلك من جماعات العائلات الذين كانت تخصص لهم صفوف مقاعد محددة. أما الأفلام التي كانت تعرضها صالات السينما، فكانت متنوعة يناسب كل منها أذواقاً مختلفة وفئات عمرية واجتماعية وثقافية مختلفة. وكان من الشائع في حينه تقسيم الأفلام إلى أنواع، فهناك افلام اجتماعية وأخرى عاطفية، وغيرها: تاريخية وحربية وبوليسية وكوميدية وكذلك غنائية. وهذا التقسيم كان ينطبق على الأفلام العربية والأجنبية سواء بسواء. ونضيف إلى ذلك خاصية مهمة كانت تتمتع بها صناعة الأفلام في حينه، وهي أنها كانت متحفظة، متحفظة في عرضها للعلاقات العاطفية فلا يوجد فيها جنس مثير وعري إباحي، متحفظة في تقديم حالات العنف وفي تصويرها للصراعات بين الأفراد، فلا توجد فيها دماء تنفر من الأجساد أو أشلاء أجسام الضحايا التي تتناثر بشكل مقزز فتصدم المشاعر المرهفة.
بدأت هذه الحال تتغير منذ الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم، إذ بدأ الزمان يجور على صالات السينما فصارت تغلق أبوابها واحدة تلو الأخرى، بداية في المدن خارج العاصمة وصولاً إلى صالات السينما في العاصمة نفسها التي أغلقت أبوابها جميعاً واحدةً تلو الأخرى سواء منها صالات السينما الراقية الحديثة العهد آنذاك، أو صالات وسط البلد الشعبية القديمة العهد والتي كانت تعدّ راقية ذات يوم وكانت تؤمها حتى جموع العائلات، وكان ذلك يحصل بالتزامن مع العزوف المتزايد عن ارتياد صالات السينما، خاصة من قبل جماعات العائلات، لأسباب عدة، أي أن العلاقة مع صالات السينما لم تعد تشكل نشاطاً اجتماعياً عاماً.
ورافق التغير في أوضاع صالات السينما تغيرٌ في طبيعة الأفلام التي بدأت تفقد مع الأيام تحفظاتها فصارت تبالغ في تصوير وعرض العنف الدموي والعري المباح، وأصبحت الأفلام الكوميدية تتجه نحو الابتذال بتسارع مطرد، وتخلت الأفلام الموسيقية عن الألحان الجميلة والأغنيات التي تطرب لها الآذان لصالح الموسيقى الضاجة والأغاني الشبابية الراقصة، وتراجعت نغمات البيانو أمام دقات الطبول، وتلا ذلك تقلص أنواع الأفلام التي كانت تناسب مختلف الأذواق أو المستويات الثقافية، وما تبقى منها صار مشمولاً تحت مظلة نوع الآكشن، وصارت الأفلام من النوع الذي لا يمكن أن يحنّ إليه المشاهدون المعاصرون بعد سنوات مثلما صار المشاهدون السابقون يحنّون إلى الأفلام التي أحبّوها ذات يوم وصارت تسمّى أفلام أيام زمان.
مع اقتراب القرن العشرين من أفوله، وفي ظاهرة غير مفهومة في ظل الحديث حول تراجع الإقبال على صالات السينما، وفي أعقاب إغلاق صالات السينما الموجودة، استعاد المستثمرون المهتمون بتوزيع الأفلام، وجلُّهم من أصحاب صالات السينما المنقرضة، قواهم، وأسسوا صالات سينما جديدة افتتحوها ضمن مجمعات تجارية ضخمة أو فنادق راقية بحيث يضم كل مبنى مجموعة صالات تعرض الأفلام الحديثة ترفيهية الطابع، الموجهة في معظمها لجيل الشباب، خاصة الجيل الأقرب إلى سن المراهقة، الجيل الذي بات لا يستمتع بمشاهدة الأفلام إلا إذا اقترنت هذه المشاهدة بابتلاع حبات الذرة المحمصة (البوشار) وترطيب الأفواه بالمشروبات الغازية من نوع الكولا.
إذن، وضمن هذه التطورات المستجدة في طبيعة ونوعية الأفلام، وفي عالم صناعة وتوزيع الأفلام السينمائية، هل يمكن الحديث عن ربط إنشاء صالات سينما جديدة بمشروع ثقافي؟
لم تذكر الصديقة الكاتبة سميحة خريس في تعليقها تعبير صالة سينما، بل استخدمت تعبيراً آخر، إذ أشارت إلى ضرورة إيجاد دار للسينما. والدار هنا يمكن أن تختلف عن الصالة، ففي أحضان الدار ألفة لا نعثر على مثلها في مساحة الصالة، وللدار وظيفة تختلف عن وظيفة الصالة، وعروض الأفلام في صالة للسينما هي استثمار تجاري؛ في حين أن عروض الأفلام في ما يمكن عدّه داراً للسينما يمكن بالتأكيد أن تكون ذات طبيعة ثقافية وجزءاً من استراتيجية تنمية ثقافية، لا شك أن عروس الشمال إربد، وأيضا بقية المدن الأردنية قادرة عليها، وهذا يعني أننا لسنا، وضمن مشروع التنمية الثقافية، بحاجة لصالة سينما جديدة تعرض الأفلام الترفيهية التافهة وأفلام الآكشن، بل بحاجة لقاعة لعرض الأفلام وفق أسس لا تجارية بل فنية ثقافية، خاصة مع توفر الأفلام على أشرطة دي في دي، وأن تقنيات عرض هذه الأفلام صارت متاحة بواسطة أجهزة عرض صغيرة الحجم، رخيصة الثمن، سهلة الاستخدام، إضافة إلى نقاء صورتها وصوتها. وكمثال على دار للسينما فاعلة في ربوع عمّان يمكن أن نشير إلى قاعة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان، التي تؤدي دورا ثقافيا متواصلا ومنتظما في مجال السينما منذ سبعة عشر عاما.
عشت شخصيا تجربتين في إربد ترتبطان بعروض أفلام ثقافية. كانت الأولى عندما دعيت في أوائل تسعينيات القرن الفائت من جانب أستاذ مادة السينما التسجيلية لعرض واحد من أهم أفلام كلاسيكيات السينما على طلاب كلية الإعلام في جامعة اليرموك مع إلقاء محاضرة حول الفيلم وقيمته التاريخية والفنية، إذ تبع ذلك حوار مثمر غني شارك فيه حتى بعض الأساتذة. اما التجربة الثانية فكانت عندما دُعيت إلى إربد من جانب الدائرة الثقافية في المحافظة في العام المنصرم، وذلك في فترة احتفالات المدينة بعيد تأسيس المحافظة الذي مر عليه قرن وربع القرن من الزمن، لإقامة حوار مفتوح مع الجمهور المحلي حول فيلم حديث جرى عرضه قبل الحوار مباشرة في قاعة واسعة في مبنى المحافظة، وهو فيلم الجنة الآن الذي تنافس على جائزة الأوسكار، للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، إذ كان الحوار المتبادل حول الفيلم غنيا، حيويا ومتشعبا استمر طويلا دون حسبان لتأخر الوقت واقتراب الليل من منتصفه.
* ناقد سينمائي أردني