بأصوات أردنية تتقدم منزلة مدينة الصخر الوردي نحو منحها شهادة أعجوبة من عجائب الدنيا، وهي بكل سحرها وغموضها تحضر منافسة وبقوة على تلك الشهادة الجديدة والاعتراف العالمي بذلك الكنز، منذ أن قدحت شرارة إزميل المبدع المعماري النبطي في جسد الصخر الأصم كتب الاعتراف بها وبإبداعه والأرض التي تحتضنها.
البتراء، سلع قديماً، مدينة تاريخية أردنية تقع جنوب العاصمة عمان إلى الغرب من الطريق الرئيسي الذي يصل بين عمان والعقبة. تعدّ البتراء من أهم المواقع الأثرية في الأردن وفي الشرق الأوسط، وهي عبارة عن مدينة كاملة منحوته في الصخر (ومن هنا جاء اسم بترا وتعني باللغه اليونانية الصخر) والبتراء تعرف أيضا باسم المدينة الوردية نسبة إلى لون الصخور التي شكلت بناءها، وهي مدينة أشبه ما تكون بالقلعة، وقد بناها الأنباط في العام 400 قبل الميلاد وجعلوا منها عاصمة لهم.
كانت البتراء عاصمة لدولة الأنباط، التي دامت ما بين 400 ق.م وحتى 106 م، والتي امتدت حدودها من ساحل عسقلان في فلسطين غربا وحتى صحراء بلاد الشام شرقا. شكّل موقع البتراء المتوسط بين حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام والجزيرة العربية ومصر أهمية اقتصادية، فقد أمسكت دولة الأنباط بزمام التجارة بين حضارات هذه المناطق وسكانها، وكانت القوافل التجارية تصل إليها محملة بالتوابل والبهارات من جنوب الجزيرة العربية، والحرير من غزة ودمشق، والحناء من عسقلان، والزجاجيات من صور وصيدا، واللؤلؤ من الخليج العربي.
كانت نهاية دولة الأنباط على يد الرومان سنة 105 وأسموها المقاطعة العربية. وفي سنة 636 أصبحت البتراء خاضعة للحكم العربي، وعاش من تبقى من سكانها على الزراعة، لكن الزلزال الذي أصابها سنة 746/748 وزلازل أخرى أفرغتها من أهلها.
وكانت البتراء اكتُشفت سنة 1812 علي يد المستشرق السويسري يوهان لودفيج بيركاردت، وقد احتوى كتابه المطبوع سنة 1828 والمعروف باسم رحلات في سوريا والديار المقدسة على صور للبتراء. ومن أهم الرسومات التي اشتهرت بها البتراء كانت الليثوغرافيا التي رسمها ديفيد روبرتس للبتراء ومنطقة وادي موسى أثناء زيارته سنة 1839 والتي تجاوز عددها عشرين لوحة ليثوغرافية، وقد طبعت نسخ كثيرة منها، مما أعطى البتراء شهره عالمية. ويوجد للبتراء عدد كبير من اللوحات والصور الأخرى التي تعود للقرن التاسع عشر، مما يدل على مدى الاهتمام الذي أضفته إعادة اكتشافها على أوروبا في ذلك الوقت. ومن الأعمال المشهورة للبتراء لوحة فنية بالألوان المائية لمناظر البتراء للفنان شرانز في سنة 1840، وأول خارطة مخطوطة للبتراء باللغة الإنجليزية من رسم الرحالة لابودي حوالي سنة 1830، وصور للبتراء تصوير فريت سنة 1830 وفي سنة 1896 زارها الويس موصل وكتب عنها كتاباً أكسب البتراء شهرة على صعيد أكبر.
والبتراء المحفورة في الصخر والمختبئة خلف حاجز منيع من الجبال المتراصة التي بالكاد يسهل اختراقها، تحظى بسحر غامض. إن المرور بالسيق، وهو ممر طريق ضيق ذو جوانب شاهقة العلو التي بالكاد تسمح بمرور أشعة الشمس مما يضفي تبايناً دراماتيكياً مع السحر القادم. وفجأة يفتح الشق على ميدان طبيعي يضم الخزنة الشهيرة للبتراء المنحوتة في الصخر والتي تتوهج تحت أشعة الشمس الذهبية. وهنالك العديد من الواجهات التي تغري الزائر طيلة مسيره في المدينة الأثرية، وكل معلم من المعالم يقود إلى معلم آخر بانطواء المسافات.
إن المساحة الكلية للمدينة علاوة على تساوي الواجهات الجميلة المنحوتة تجعل الزائر مذهولا وتعطيه فكرة عن مستوى الإبداع والصناعة عند الأنباط. ونتيجة للثروة التي حصلوا عليها، قاموا بتزيين مدينتهم بالقصور والمعابد والأقواس. والعديد منها التي تم بناؤها اختفت الآن، إلا أن العديد أيضا تم نحته في الصخر كالخزنة والأضرحة والمذبح العالي وما يزال قائما حتى هذا اليوم في حالة ممتازة وكاملة لدرجة تشعرك بأنك قد دخلت في آلة زمنية أعادتك إلى الوراء.
البتراء مكان ساحر يأسرك ويثير حواسك. كما إن حجمها الساحق وبنيتها الغنية وبيئتها المذهلة تخلق جميعها مشهداً يبدو من المستحيل وصفه. وحالما تنطلق من بوابة مدخل المدينة يبدو الوادي رحباً ومفتوحاً. هذا القسم هو مدخل ضيق يعرف بباب السيق. وأول ما تمر به هو مجموعة الجن، وهي عبارة عن مجموعة من ثلاثة مكعبات صخرية تقف إلى اليمين من الممر. ولدى عبور المزيد خلال الشق يرى الزائر ضريح أوبيليسك المنحوت في المنحدر الصخري. وفي لحظة يتحول الممر من عريض إلى فجوة مظلمة لا يتجاوز عرضها عدة أقدام. وفجأة وعلى بعد عدة خطوات تحصل على أول رؤية لأروع إنجاز للبتراء وهي الخزنة التي تبدو للعيان تحت أشعة الشمس الحارقة والمنحوتة في الصخر. وعند أعرض نقطة في خارج السيق، يوجد أخدود باتجاه الجنوب. ويأخذك الممر إلى أعلى نقطة في الموقع وهي الموقع النبطي الأثري لتقديم القرابين، المذبح المنحوت في الصخر. إن رؤية البتراء من ذلك العلو تعدّ أمراً جديراً بالاهتمام. وبعد المذبح يتجه الزائر إلى معبد الحديقة. وهنالك يوجد صفان من الأعمدة مصطفان أمام بقايا معبد.
ولدى المسير أكثر يمر الزائر بشق جداري قبل الوصول إلى معبد الجنود الرومانيين والتريكلينيوم. ويوجد في البتراء العديد من المواقع المقدسة. فعلى القمة التي تذروها الرياح كان الأنباط يمجدون آلهتهم في ذلك المكان العالي المسمى المذبح. وفي المنطقة المعروفة بشارع الوجوه، يمكن مشاهدة العديد من الأطلال النبطية.
ويخصص ملحق oالرأي الثقافيa لوحاته في هذا العدد لمدينة البتراء التي استلهمها عدد من طلبة قسم الهندسة المعمارية في جامعة العلوم التطبيقية، ورسموا بريشاتهم وأقلامهم الملونة من وحيها معجزة الإنسان في الحجر، حيث تُعرض أعمالهم في قاعة فخر النساء زيد بالمركز الثقافي الملكي.
* صحفي أردني
البتراء.. الإبداع لا يحتاج إلى شهادة .. بقلم : رسمي الجراح
12:00 9-3-2007
آخر تعديل :
الجمعة