عُرف جمال حمدان (1928-1993) بأسلوبه المتميز في الفكر الاستراتيجي الذي يقوم على منهج شامل معلوماتي وتجريبي وتاريخي من ناحية، وعلى مدى مكتشفات علوم: الجغرافيا والتاريخ والسكان والاقتصاد والسياسة والبيئة والتخطيط والاجتماع السكاني والثقافي بشكل خاص من ناحية أخرى.
ولا يرى جمال حمدان في علم الجغرافيا ذلك العلم الوضعي الذي يقف على حدود الموقع والتضاريس، وإنما هو علم يمزج بين تلك العلوم المختلفة؛ فالجغرافيا هي تلك التي إذا عرفتها عرفت كل شيء عن نمط الحياة في هذا المكان أو ذاك.. جغرافية الحياة التي إن بدأت من أعلى آفاق الفكر الجغرافي في التاريخ والسياسة فإنها لا تستنكف عن أن تنفذ أو تنزل إلى أدق دقائق حياة الناس العادية في الإقليم.
وإذا كانت الجغرافيا - كما يقول في تقديمه لكتاب شخصية مصر في الاتجاه السائد بين المدارس المعاصرة - هي علم التباين الأرضي، أي التعرف على الاختلافات الرئيسية بين أجزاء الأرض على مختلف المستويات؛ فمن الطبيعي أن تكون قمة الجغرافيا هي التعرف على شخصيات الأقاليم، والشخصية الإقليمية شيء أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتوزيعات الإقليم، إنها تتساءل أساسا عما يعطي منطقة تفرّدها وتميزها بين سائر المناطق، كما تريد أن تنفذ إلى روح المكان لتستشف عبقريته الذاتية التي تحدد شخصيته الكامنة.. ولئن بدا أن هذا يجعل للجغرافيا نهجا فلسفيا متنافرا يتأرجح بين علم وفن وفلسفة ؛ فيمكن أن نضيف للتوضيح: علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها.. والواقع أن هذا المنهج المثلث يعني ببساطة أنه ينقلنا بالجغرافيا من مرحلة المعرفة إلى مرحلة التفكير، من جغرافية الحقائق المرصوصة إلى جغرافية الأفكار الرفيعة.
وكانت رؤية جمال حمدان للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في المكان والزمان متوازنة، فلا ينحاز إلى طرف على حساب الآخر، ويظهر ذلك واضحا في كتابه المشار إليه آنفا، والذي تبرز فيه نظرته الجغرافية المتوازنة للعلاقة بين الإنسان المصري والطبيعة بصفة عامة والنيل بصفة خاصة، وكيف أفضت هذه العلاقة إلى صياغة الحضارة المصرية على الوجهين: المادي والروحي.
وفي سنة 1958 اصدر جمال حمدان كتاباً عنوانه: دراسات في العالم العربي، استند في معالجته لهذا الكتاب على نظرية ماكيندر، والتي تعدّ ان صراع القوى على النطاق الدولي قائم على اساس الصراع بين قوى البر وقوى البحر. رغم ان هذه النظرية تعرضت، كما يقول جمال حمدان، لا نتقادات كثيرة، ذلك انه اذا كان هناك استمرار تاريخي في الخطوط الاستراتيجية العامة للعالم، فإن هناك من الأدلة ما يشير إلى اننا نشهد بذور انقلاب استراتيجي خطير، لا يمكن التنبؤ به تماماً، واننا على عتبة حقبة استراتيجية جديدة تماماً في تاريخ الكوكب الارضي، هذه هي الاستراتيجية الذرية التي نقلت الصراع من الارض إلى الفضاء من الاستراتيجية الارضية إلى الاستراتيجية الفضائية، من المرحلة الكوكبية إلى المرحلة الكواكبية.
ويعدّ جمال حمدان، أن هذا الانقلاب يلغي الاستراتيجية التقليدية من قوة بر وبحر ومنطقة ارتطام، ويلغي فكرة الموقع إلى حد بعيد ويهدد بأن يضع نظرية ماكندر على الثالوث الاستراتيجي في ذمة التاريخ، وان يجعل معادلته لا تمثل ولا تتفق الا مع فترة معينة من التاريخ، مهما طالت وليست ابدية.
ولكن من الناحية الاخرى تؤكد التجربة التاريخية انه يندر ان يكون ظهور استراتيجية جديدة يلغي القديمة تماماً، بل تتعاصران لفترة تطول أو تقصر، وسيتعين على القوى الصغرى، خاصة لوقت طويل، ان تفكر وتخطط في ظل الاستراتيجية القديمة لحد بعيد، ولهذا ينبغي ألا ننبذ نظرية الثالوث الاستراتيجي كلية، أو على الأقل نتجاهل الدرس الذي تعلمه، كما ان تحديد الشخصية لمنطقتنا لا يتأثر، وتظل طبيعتها كإقليم اتصال قائمة على الرغم من هذه الانتقادات. ولذلك يفسر جمال حمدان التاريخ العالمي، والتاريخ العربي بناء على هذه النظرية، فيعدّ ان الوطن العربي منطقة ارتطام بين القوى البرية والبحرية في صراع القوى البرية والبحرية، كما عدّ ان المنطقة العربية لم تستطع الخروج من هذه الحتمية الا بظهور الاسلام الذي اخذت فيه المبادرة وهزمت القوى البرية والقوى البحرية في آن واحد.
ويوضح جمال حمدان استراتيجية الاستعمار والتحرير بالقول انها لمفارقة من الجغرافيا مثيرة ان يستطيع مليونان ومائتا الف ميل مربع هي كل مساحة غرب اوروبا ان تنشر نفوذها وظلها، وان تفرض استعمارها على اكثر من سبعة وخمسين مليون ميل مربع هي مساحة العالم المعمور وغير المعمور، وذلك في اقل من خمسمائة عام، ولا تقل غرابة عن ذلك جزيئات الصورة: فغداة الحرب الاخيرة (الحرب العالمية الثانية) كانت بريطانيا تملك قدر مساحتها 142 مرة، وفرنسا 22 مرة، اما هولاندا فنحو 27 مرة، وبلجيكا 50 مرة، وايطاليا 19 مرة.
وقد ميز بين الاستعمار اربع طبقات او انواع على اساس الموقع ومن منحنى التطور الاستعماري: وهي القوى العتيقة، وهذه تمثلها اسبانيا والبرتغال ثم القوى العتيدة التي هي احدث من العتيقة دخولا في الاستعمار وتشمل دولتين هما بريطانيا وفرنسا، ثم القوى الوليدة التي لم تصبح دولا موحدة الا بالامس القريب وتدخل فيها كل من المانيا وايطاليا والى حد ما بلجيكا وفي معنى خاص اليابان.
واخيرا القوى الجديدة، وهي تلك التي ظهرت متأخرة على مسرح الصراع السياسي الاستعماري دون ان تكون دولا جديدة في ذاتها كالقوى الوليدة او ان يكون فيها نفوذ سابق كالقوى العتيدة، ولهذا فهي لم تمارس الاستعمار بشكله التقليدي، بل تنكر صلتها بالاستعمار وتستنكره. الا انها مع ذلك تمارس اشكالا خاصة من الاستعمار الاقتصادي او الايديولوجي ويضم هذا النوع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وبعد الحرب العالمية الثانية اصبح الاستعمار المباشر يغطي حوالي 35% من مساحة العالم.
استراتيجية التحرير
اما حول استراتيجية التحرير فإن جمال حمدان يسجل مفارقة اخرى، ولكن هذه المرة من التاريخ وليس من الجغرافيا، اشد اثارة مما سبق وهي: ان ما بناه الاستعمار في خمسة قرون هدمه التحرير في عقدين اثنين. فبين 1945 و1965 هوت رقعة الاستعمار من 35% من مساحة العالم الى 4%. وان معدل سرعة المد التحريري يعادل عشرات المرات معدل الزحف الاستعماري ولذلك يقول جمال حمدان: اذا كان القرن التاسع عشر قرن الاستعمار فإن القرن العشرين قرن التحرير.
ويقسم عملية التحرير العالمي الى موجات ثلاث، هي: الموجة الآيوية التي استقلت فيها الهند وباكستان وبورما وسيلان، وشمال الفيتنام ولاوس وكمبوديا والملايو وايريان الغربية. الموجة العربية: في سنوات الخمسينات حيث استقلت سوريا ولبنان والجزائر وجنوب اليمن،وكانت سبقت ذلك مصر والعراق وليبيا والسودان. ما الموجة الاخيرة: فهي الموجة الافريقية في اواخر الخمسينيات، وخاصة في الستينيات.
الموقع العربي في حركة التحرير العالمية
يستنتج جمال حمدان من خلال تحليله لحركة الاستعمار والتحرير نتيجة مهمة تلقي ضوء كاشفا على مسألة تحرر الامة العربية ووحدتها، تفسر الى حد بعيد الضغوط التي تمارسها الدول الغربية المهيمنة على الامة العربية بشكل لا مثيل له وخاصة باقامة اسرائيل ورعايتها في السراء والضراء، لما لهذه الامة من تأثير عالمي وقيادتها لمناهضة الاستعمار والهيمنة واعادة تشكيل العالم على اسس العدالة وحرية الشعوب. لأن الدول الاستعمارية قديمها وحديثها تعتقد عن حق ان الامة العربية اذا تحررت فإنها ستغير موازين القوى على المستوى الدولي، لأنها ستجر وراءها نحو الحرية كل الشعوب المقهورة في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية.
يقول حمدان: كثيرا ما تفسر المتابعة الاولى، على ان التحرير العربي رد فعل تابع وظيفيا، تال تاريخيا للمد الاسيوي. ولكن هذا الترتيب انما هو ترتيب تواريخ الاستقلال الرسمي. والتحرير العربي يمكن ان نقول انه بدأ متى بدأ الاستعمار. فكل الثورات والانتفاضات في الجزائر والمغرب الكبير وفي مصر والشام والعراق والتي ترصع كل عقود القرن الماضي والحاضر دليل واضح.. من المحقق تاريخيا ان ثورة 1919 في مصر كان لها صدى هائل في الهند خاصة وآسيا عامة، وكانت وحياً لحركات تحريرية متلاحقة هناك... ومعنى هذا ان التحرير وان تأخر ظاهريا في العالم العربي كما في مصر والعراق وسوريا ولبنان عنه في آسيا الموسمية فهو اسبق واقعيا، أما افريقيا المدارية فإن المثل العربي كان مباشراً وحاسماً في تفجير وتحريك الثورة التحررية على تخومه الجنوبية الافريقية، بل تعدى التأثير إلى النطاق العالمي، بالمساعدة الايجابية.
وقد كانت حرب السويس علامة تاريخية واشارة بدء لافريقيا المدارية بالانطلاق نحو التحرير.
لقد وضعت مساهمة جمال حمدان اللبنة الاولى في البناء النظري للفكر الاستراتيجي الجغرافي لانه وجه الفكر العربي إلى افق عالمي واسع يستطيع فيه موضعة قضايا امته في السياق العالمي وصراعاته، كما انه كان لعبقرية جمال حمدان ونظرته العميقة الثاقبة فضل السبق لكثير من التحليلات والآراء التي استُغربت وقت إفصاحه عنها، وأكدتها الأيام بعد ذلك؛ فقد أدرك بنظره الثاقب كيف أن تفكك الكتلة الشرقية واقع لا محالة، وكان ذلك في العام 1968، وفي العام 1967 أصدر جمال حمدان كتابه اليهود أنثروبولوجيا الذي أثبت فيه أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية الخزر التترية التي قامت بين بحر قزوين والبحر الأسود، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي.. وهذا ما أكده بعد ذلك آرثر بونيسلر مؤلف كتاب القبيلة الثالثة عشرة الذي صدر في العام 1976.
* باحث وأكاديمي أردني