عمان ـ محمود الزواوي - قد لا يكون هناك مخرج سينمائي أميركي يجسد نظرية «المؤلف» التي تعتبر المخرج المؤلف الفعلي أو القوة الدافعة الخلاقة الرئيسة للفيلم كما يجسدها المخرج مارتن سكورسيزي الذي تتضح بصمته السينمائية المميزة في كل إطار من كل فيلم من أفلامه. وهناك اتفاق عام بين النقاد على أن مارتن سكورسيزي هو أفضل المخرجين الأميركيين المعاصرين، وهو رأي يشاركهم فيه معظم أقرانه المخرجين وغيرهم من السينمائيين داخل الولايات المتحدة وخارجها. ومن بين من يؤيدون هذا الرأي المخرج الأميركي الشهير ستيفين سبيلبيرج، أنجح مخرج سينمائي على شباك التذاكر في تاريخ السينما. واحتل مارتن سكورسيزي المركز الرابع بين أعظم المخرجين في تاريخ السينما في تصويت أجرته مجلة «إنترتينمنت ويكلي» الفنية الأميركية، مما يجعله المخرج الوحيد على قيد الحياة في قائمة أعظم خمسة مخرجين في تاريخ السينما. كما ورد اسم المخرج مارتن سكورسيزي في قائمة أعظم عشرة مخرجين في تاريخ السينما في تصويت أجرته مجلة سايت أند ساوند السينمائية البريطانية المرموقة بين مخرجي السينما أنفسهم، وهو أحد ثلاثة مخرجين أحياء في القائمة، والآخران هما المخرج الأميركي فرانسس فورد كوبولا والمخرج السويدي إنجمار بيرجمان، علما بأن الأخير اعتزل العمل السينمائي.
وتتميز أفلام مارتن سكورسيزي بعرضها الواقعي لقسوة الحياة في المدينة الكبيرة، وبجرأته في معالجة موضوعات غير شعبية دون أن يأخذ بعين الاعتبار مدى تجاوب الجمهور مع تلك الأفلام على شباك التذاكر. فهو يخرج معظم أفلامه لقيمتها الفنية وليس لأغراض تجارية. ولهذا السبب تعرضت بعض أفلامه لخسائر مادية أو لم تحقق أي أرباح في حين لقي بعضها إقبالا جماهيريا كبيرا. ويبدو تأثره واضحا بأفلام مخرجي الموجة الجديدة الفرنسيين وببعض المخرجين الأميركيين المستقلين، وخاصة المخرجين الراحلين جون كاسافيتيس وروجر كورمان اللذين تتلمذ على يديهما.
ويتخصص المخرج مارتن سكورسيزي في معظم الأحيان بالأفلام التي تقع أحداثها في مدينة نيويورك، وبالتحديد في أحيائها الإيطالية التي ولد ونشأ ولا زال يعيش فيها. وهو - إلى جانب المخرج فرانسس فورد كوبولا المتحدر من أصل إيطالي مثله - أبرع من نقل في أفلامه قصص الأميركيين المتحدرين من أصل إيطالي، ومن صور التفاعلات والعلاقات وأعمال العنف التي تقترن بقصص عصابات المافيا. ويقدم هذه القصص بأسلوب واقعي لاذع في كثير من أفلامه المميزة مثل «شوارع دنيئة» (1973) و«رفاق طيبون» (1990) و«كازينو» (1995). ومن أفلام المخرج مارتن سكورسيزي المميزة الأخرى التي تظهر قسوة الحياة في المدينة الكبيرة فيلم «سائق التاكسي» (1976) وفيلم «الثور الهائج» (1980). وقد ارتبط فيلم «سائق التاكسي» بتأثر أحد مشاهديه، واسمه جون هينكلي، بقصة الفيلم وإعجابه ببطلة الفيلم الممثلة جودي فوستر حين كانت مراهقة وقيامه بمحاولة اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريجان لإثارة إعجابها. أما فيلم «الثور الهائج» الذي يتعلق بحياة الملاكم الأميركي الإيطالي الأصل جيك لاموتا فيعد معلما في واقعية أفلام السيرة الشخصية. وقد وقع اختيار النقاد على هذا الفيلم كافضل فيلم أميركي أنتج في عقد الثمانينيات. ومع أن هذا الفيلم رشح لثمان من جوائز الأوسكار وفاز باثنتين منها، فإنه لم يفز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم. ويمثل فيلم «الثور الهائج» العديد من الأعمال الفنية التي تكتسب قيمة فنية متزايدة مع مرور الوقت، كما حدث بالنسبة للفيلم الشهير «المواطن كين».
وتتميز أفلام المخرج مارتن سكورسيزي باهتمامه بالتفاصيل التي تعكس الأصالة في نقل الأحداث، كما تتميز ببراعة ممثلي أفلامه. وهو يمثل نخبة من المخرجين المعروفين «بمخرجي الممثلين» الذين يوجهون عناية خاصة نحو أداء ممثلي أفلامهم الذين يهيمنون عادة على الجوائز السينمائية. وقد رشح 16 من ممثلي أفلامه لجائزة الأوسكار، وفاز خمسة منهم بتلك الجائزة، وهم روبرت دينيرو وبول نيومان وإيلين بيرستين وجو بيشي وكيت بلانشيت.
وقد ولد المخرج مارتن سكورسيزي في مدينة نيويورك، وأظهر ولعا بمشاهدة الأفلام السينمائية منذ الطفولة. وكان يرغب في دراسة علم اللاهوت ليصبح قسيسا، وانضم إلى أحد الأديرة بالفعل، ولكن هواية السينما غلبت عليه، فدرس السينما في جامعة نيويورك. وبعد التخرج منها في العام 1966 مكث في الجامعة ليعلم فيها، ولم ينقطع عن التدريس فيها حتى هذه الأيام رغم انشغاله المستمر في أعماله السينمائية التي تشمل الإخراج والإنتاج وكتابة السيناريو. ومن أشهر طلابه المخرجان أوليفر ستون وسبايك لي. وقد أخرج مارتن سكورسيزي أثناء دراسته الجامعية عددا من الأفلام القصيرة اللافتة للانتباه. وفي العام 1968 قدم الفيلم المتميز «من يطرق على بابي» الذي يتعلق بتجربته في صباه، ثم أخرج فيلم «بوكسكار بيرثا» (1972). إلا أن الفيلم الذي لفت انتباه النقاد هو فيلم «شوارع دنيئة» (1973) الذي كان نقطة تحول في مشواره السينمائي، فقد أظهر فيه براعته كمخرج مبتكر في استخدام الكاميرا والمونتاج والسرد السينمائي.
وقدم مارتن سكورسيزي منذ ذلك الوقت عددا من الأفلام المميزة الأخرى، إلى جانب الأفلام المذكورة سابقا، ومنها «أليس لم تعد تعيش هنا» (1974) و«نيويورك، نيويورك» (1977) و«ملك الكوميديا» (1983) و«لون النقود» (1986) والإغراء الأخير للمسيح» (1988) و«كوندون» (1997) و«عصابات نيويورك» (2002) و«الطيار» (2004)، وأحدثها الفيلم الجديد «الراحلون» (2006) الذي ما كاد أن يعرض في دور السينما حتى بدأ النقاد يتحدثون عن توقع ترشيحه لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم. إلا أن فيلمي «سائق التاكسي» و«الثور الهائج» يظلان أعظم عملين سينمائيين قدمهما المخرج مارتن سكورسيزي حتى الآن، كما يظلان معلمين مهمين في السينما الأميركية.
وقد تم تكريم المخرج مارتن سكورسيزي وتقدير إنجازاته السينمائية في عشرات المحافل السينمائية. ورشح لمائة وثلاث عشرة جائزة فنية وفاز بواحدة وستين جائزة. ورشح لجائزة الأوسكار ست مرات، منها خمس عن الإخراج وواحدة عن التأليف السينمائي، كما رشح لجائزة الكرات الذهبية ست مرات وفاز بالجائزة مرة واحدة. وفاز مارتن سكورسيزي بجائزة مهرجان كان السينمائي مرتين وبجائزتي مهرجاني البندقية السينمائي ومونتريال السينمائي.