سيد درويش.. فنان في وجدان الأمة .. بقلم : غازي انعيم

سيد درويش.. فنان في وجدان الأمة .. بقلم : غازي انعيم

«مثل سيد درويش كمثل واضع اللغة وجامع المفردات، ومثل اللاحقين به كمثل المترجم الذي ينقل عن هذه اللغة عبارة بليغة يفهم كلماتها ويبحث لها عن عبارات فنية، وقد تكون عباراته أبلغ من أسلوب سيد درويش في تعبيره، ولكن درويش بعد ذلك صاحب فضل في تأسيس اللغة الموسيقية مهما يرتفع صرح البناء على ذلك الأساس. إن سيد درويش قد علم الأنغام كيف تعبر تعبيرها، فتعلمت وتعلم منها الموسيقيون اللاحقون به على هداه، ولن يسبقوه إلى فضله وإن زادوا عليه، فإن السبق لا يرجع إلى الوراء».
هذا ما كتبه عباس محمود العقاد الذي عرفناه «جادا إلى حد القتامة»، عن سيد درويش الذي مرت مؤخرا الذكرى الثالثة والثمانون لوفاته، وإذا كان العقاد وصف سيد درويش بأنه مؤسس اللغة الموسيقية ومن علم الأنغام كيف تعبر تعبيرها، فإن أحفاد سيد درويش طبقا لما يذكره حسن درويش خربوا إرثه وضيعوا تراثه.
وبغض النظر عن تلك الخلافات العائلية، فإن الأمر المؤكد هو ضياع جانب كبير من تراث الراحل الكبير، والأمر المؤكد أيضا أن الأجهزة والمؤسسات الثقافية شاركت بهذا القدر أو ذاك في ضياع هذا التراث.. ويكفي أن نعلم أن معهد الموسيقى العربية «حرم» تدريس تراثه، بل وكان يعاقب كل من يضبط من الطلبة وهو يغني ألحانه.. كما اغتصبوا ألحانه واستبدلوا بالكلمات كلمات أخرى مثلما حدث مع لحني «أحسن جيوش في الدنيا جيوشنا» ولحن «كيكي كيكي كوكو»، وقام وكيل وزارة التعليم والفنون الجميلة في العام 1947 بشطب اسم سيد درويش من قائمة عظماء المصريين الذين فكرت الوزارة في إقامة تماثيل شمعية لهم في متحف الشمع.


ولد سيد درويش في 17 آذار 1892 بحي «كوم الدكة» بالإسكندرية، القريب من معسكرات الاحتلال البريطاني، الذي كان يمارس أشكالا من التخريب في الحياة الثقافية والفنية مثلما كان يفعل في السياسة والاقتصاد المصريين، وكان أبناء «حي كوم الدكة» كلهم عمالا بسطاء من شريحة البناءين والنجارين، وكان أبو سيد فقيرا يعمل بالنجارة لاكتساب لقمته بعرق جبينه، وكان كثير التقوى، ولا يلذ له شيء أكثر من أن يرى ابنه حافظا لكتاب الله الكريم، ولهذا ما كاد يبلغ الخامسة من عمره حتى أدخله أحد الكتاتيب، وهناك واصل سيد حفظ القرآن الكريم وتجويده، وحين شب عن الطوق، كان يشاهد جنود العدو يروحون ويجيئون حاملين بنادقهم.. يذلون الأهالي، ويستبيحون حي كوم الدكة، ويعيثون في أرضه فسادا، وكان السكندريون يرددون آنئذ الأزجال التي يطلقها ثائرهم عبد الله النديم، باعتبارها سهاما نافذة في صدور الغزاة.
وقبل أن يتجاوز سيد درويش السابعة من عمره توفى والده، واضطر إلى السعي لكسب عيشه من قراءة القرآن ومن غناء الموشحات والقصائد التي كان يحفظها من الشيخ ندا والشيخ حسن الأزهري بجامع الحي، وأحيانا كان يعمل صبيا لعمال الدهان الذين كانوا يقومون بالعمل عنه مقابل غنائه لهم، فكان هذا العمل بداية اقترابه من الأغنية الشعبية التي يمتزج فيها اللحن بالكلمات بشكل يصعب فصلهما، وكانت حلاوة صوته سببا في أن يشتهر بينهم، ولأن أمه كانت تريده أن يتم تعليمه فقد ألحقته إلى جانب عمله، في مدرسة «شمس المدارس» التي التحق بها وعمره يناهز الثامنة، وفي تلك المدرسة، التقى الطفل بالمعلم «سامي أفندي» ومعه معلم آخر لا يقل عنه شغفا بحب الأناشيد وتلقينها للطلاب هو «نجيب أفندي فهمي». ويتولى الأستاذان الطفل معا بالروح نفسها والاهتمام نفسه، فتحلق معنوياته عاليا، خصوصا حين يجد نفسه على رأس المدرسة التي تؤدي هذه الأناشيد.
وبعد المدرسة التحق سيد درويش بالمعهد الديني بالإسكندرية ليتعلم تجويد القرآن، وفي المعهد ارتدى الزي الأزهري (العمامة والجبة والقفطان) حتى لقب ب«الشيخ سيد درويش» وعمره 13 عاما. وقد صقلت مدرسة التجويد العبقرية والحس الموسيقي للصبي، الذي كان يكد في محاكاة ترتيل وإنشاد كبار المقرئين والمنشدين، ويلتفت القوم إلى موهبته فيوكلون إليه الأذان للصلاة عاما كاملا. ولكن مواهبه في الغناء جعلت شيوخ المعهد ينكرون عليه اتجاهاته التي رأوا فيها ما يتعارض مع وقار الدراسة بالمعاهد الدينية في مسجد أبي العباس، وانتهى الأمر بفصله نهائيا من المعهد، وهو لم يكمل الدراسة بالصف الثاني.
وكانت حاجة الشيخ سيد درويش إلى المال، خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية العالمية السيئة (فترة 1907) قد دفعته إلى أن يطرق أبوابا عديدة.. فبعد العمل مع الحرفيين بدأ يتكسب في ركاب شيوخ المقرئين منشدي القصائد والتواشيح الدينية في الأفراح والموالد، وتارة في صحبة أهل الفن الشعبي من فناني الأفراح والليالي الملاح، وأكثر هؤلاء كانوا يكونون فرقا هزيلة قوامها التهريج المرتجل والأغاني الرخيصة التي تناسب مجتمعا تتفشى فيه الأمية والفقر..
ولكن الفتى بحكم دراسته في المعاهد الدينية كان يستيقظ بأحاسيسه ومشاعره فيحن إلى ترتيل القرآن وإنشاد المدائح في صحبة أهل التلاوة والإنشاد، حتى أسلمته المقادير إلى شيخ من أعلام المنشدين بالمدائح النبوية والموشحات والأدوار القديمة وهو الشيخ «علي الحارث»، فتعدل اتجاهه من حياة الصخب والتهريج إلى الإنشاد الجاد والفصيح، ومن خلال هذه الجدية ارتفع ذوقه وإحساسه الفني فغذى وجدانه ومشاعره بالقصائد والموشحات والأدوار القديمة، خصوصا مما كان يؤثر حينذاك من غناء عبده الحامولي ومحمد عثمان وإبراهيم القباني.. وما كان يترقى بوجدانه حتى وجد في غناء الشيخ سلامة حجازي ومنافسه علي فياض ضالته المنشودة، فاستجاب بأحاسيسه العميقة إلى فن الغناء المسرحي، وبدأ يوقظ مواهبه الكامنة التي كانت ترتوي من مختلف بيئات المجتمع في المدينة الكبيرة العامرة.
ورغم توجه سيد درويش للغناء إلا أنه لم يترك مهنة البناءين، حتى أنه تنقل من عمل إلى عمل، فعمل في محل لبيع الدقيق، ثم عاملا في محل لبيع الأثاث ثم عاملا لطلاء جدران المنازل، لكنه في أثناء ممارسته لكل هذه الأعمال، كان يغني، وكانت الموسيقى والغناء هما كل حلم حياته، وكان الحظ حليفا لسيد درويش، حيث صادفه أثناء جلوسه على إحدى المقاهي بين العمال ممثلا يدعى أمين عطا الله، وعندما سمع صوته أعجب به واقترح عليه أن يعمل في فرقة تمثيلية متنقلة بين مصر والشام يملكها شقيقه سليم عطا الله، متكفلين له بأجر مناسب يفوق حصيلته مما يكسبه من عمله..

رحلة إلى الشام
وبالفعل التحق بالفرقة التمثيلية، واصطحباه في رحلة إلى الشام في العام 1908، استمرت نحو عشرة أشهر، وهناك التقى درويش ببعض رجال الفن المجيدين من أمثال الشيخ عثمان الموصلي الذي يرفعه أهل العراق والشام إلى مصاف الفارابي وإسحاق الموصلي وزرياب لما كان يتميز به من العلم والفقه والمعرفة العميقة بالأدب والشعر وفنون الموسيقى. ورغم قصر هذه الرحلة وفشلها ماديا، إلا أن المكاسب الفنية التي وعاها سيد في الموسيقى والغناء لا يحددها مدى.. فلقد عاد وفي صدره الكثير من الألحان والموشحات، واجتاز في رحلته دراسة عميقة في أسرار الموسيقى ولحنها وإيقاعاتها ومقاماتها.
رجع من الشام كسير النفس يملؤه الحزن واليأس، مما اضطره إلى استئناف حياته الفنية في جوه السابق متنقلا بين الحانات والمقاهي، لكن زوج شقيقته أقسم ألا يسمح لدرويش بدخول منزله إلا إذا اعتزل الغناء بصفة قاطعة، ورضخ الفنان مكرها، وقبل العمل في متجر لبيع الأثاث.
لكن أعباء العمل الجديد جعلته يتململ في أسى واضطراب.. فترك عمله والتحق مرة ثانية بفرقة سليم عطا الله، ثم شد الرحال إلى الشام العام 1912، فتجددت صلته بالأصدقاء والأساتذة الذين عرفهم خلال الرحلة الأولى، وطال به المقام في الشام عامين متتالين اكتسب خلالهما خبرة واسعة بأسرار الموسيقى، وارتقت معارفه إلى الإلمام بالكثير من الألحان التركية والفارسية والموسيقى العربية.. واكتسب من رجال المسرح دراسة لنفسية الجماهير، والانفعال بالألحان إلى المعنى الذي يساير مفهوم الكلمات.
وقد كانت تلك الرحلة نقطة التحول الكبرى في حياة الطفل الذي عاد إلى الإسكندرية طاويا بين جوانحه، موسوعة من الألحان والأنغام، بعد أن نضجت خبراته، ونمت معارفه، ورسخت أقدامه في الفن.. خصوصا في العزف بالعود وأداء الغناء، في الوقت نفسه كان سيد درويش أول من يدون ألحانه بالنوتة الموسيقية، منهيا بذلك عصر الارتجال في الغناء العربي، وجعل اللحن هو الأساس وليس المطرب ليتصرف فيه كيفما شاء.
وفي الإسكندرية التي تحفل بالمقاهي التي تعتمد على تقديم طائفة من الفتيات اللاتي يقمن بإلقاء بعض الأغاني الخفيفة من الأهازيج وأغاني السهر والمجون، بدأ يعرض مواهبه في اللحن والغناء، فقدم طابعه الجديد الذي لم يجعل من التطريب وحده هدفا أساسيا في الغناء، وإنما بدأ يعبر باللحن عن المعنى، مستخدما في ذلك موهبته ومعلوماته في النغم والإيقاع، ولكنه في الوقت نفسه كان حريصا على مسايرة النهج القديم في الاعتماد على غناء الموشحات التي زادت حصيلته منها فأبدع ولحن موشحات كثيرة على نهجها، منها: «يا صاحب السحر الحلال»، «يا عذيب المرشف»، «يا شادي الألحان»، «صحت وجدا»، «منيتي عز اصطباري»..
كما أبدع سيد في تلحين الأدوار، حيث كان الدور في تلك الحقبة عماد الغناء وجوهره، وقد تجلت موهبة سيد درويش في إبداع أدوار قيمة خالدة نذكر منها: «ياللي قوامك يعجبني»، «يا فؤادي ليه بت عشق»، «في شرع مين»، «الحبيب للهجر مايل»، «عشقت حسنك»، «عواطفك أشهر من نار»، «ضيعت مستقبل حياتي»، «أنا هويت وانتهيت»، «أنا عشقت»، «يوم تركت الحب».
بعد تقديمه لهذه الأدوار والموشحات عرفه أهل الإسكندرية ثم بدأت أمواج الحياة ترفعه إلى أعلى، فذاع صيته وتردد اسمه في الأوساط الفنية حتى جاء الشيخ زكريا أحمد بتكليف من الشيخ علي محمود ليتعرف عليه وسافر معه إلى القاهرة، وقدمه للشيخ سلامة حجازي، ورغم فرحته بالقاهرة التي رأى فيها دنيا جديدة تموج بالمتناقضات، فهناك مستمعون يتعصبون للقديم لا يبغون عنه حولا، ولا يطيقون غيره، وإلى جانبهم مستمعون آخرون ينظرون إلى الموسيقى نظرة امتهان وازدراء، ولا ينصب تمجيدهم أو تقديرهم إلا لكل ما هو أجنبي أوروبي، وكلتا الطائفتين معتدة برأيها، مسرفة في التعصب لذوقها، متنكرة لكل ما عداها.
عاش سيد درويش بين هاتين الفكرتين المتعارضتين متخذا لنفسه طريقا جديدة لا ينحاز فيها لأحد، يستمد منها غذاء عبقريته، إلا أن الجمهور لم يرض عنه، مما أصابه بإحباط شديد ففضل أن يعود إلى الإسكندرية التي أصبحت مدينته الوحيدة التي تعترف به. وفيها لحن أغنية «زوروني كل سنة مرة» للمطرب حامد موسى، وما كان الفنان جورج أبيض يستمع إلى تلك الأغنية حتى هرع إلى مقابلة ملحنها الشيخ سيد درويش وأخذ يغريه بضرورة الرحيل إلى القاهرة، حيث المجال الموسيقي أكثر اتساعا لعبقريته، ووعد بأن يعهد إليه بوضع الألحان لمسرحيات غنائية اعتزم تقديمها من باب التجديد في الفن المسرحي.

الرحيل إلى القاهرة
وهكذا اقتنع سيد درويش بالرحيل من الإسكندرية إلى القاهرة في العام 1917، وفي تموز 1918 قام بتلحين أول رواية له، لفرقة جورج أبيض الذي قرر أن يتحول المسرح الغنائي كوسيلة لإخراج الناس من هموم الحرب العالمية الأولى، فقدم سيد درويش في أول لحن له في مسرحية «فيروز شاه». وقد فوجئ درويش بترديد الناس لألحانه التي تقول:
«أنا رأيت روحي في بستنان..
كانت وقتها البدر يلالي
وكنت أشوف بين الأغصان..
نور القمر يكحي عزالي
شميت أنا ريحة الريحان
ما عرفش إيه اللي جرالي
وبقيت كده زي السكران
لوحدي خايف على حالي».
ورغم فشل هذه المسرحية إلا أنه استعاد عزيمته للعمل والإنتاج إلى جانب عمالقة التلحين المسرحي في عصره، فأسس فرقة مسرحية خاصة به قدمت مسرحيات «البروكة» لعبد العزيز أحمد، و«العشرة الطيبة» لمحمد تيمور، و«شهرزاد» لبيرم التونسي، ورغم النجاح الفني لفرقته فقد لاحقه الفشل المالي، حيث لم تكتمل لديه الإدارة الحازمة، فتضاعفت الخسائر حتى أفقدته كل ما اقتناه في أيام الرخاء والنجاح.. فأغلق الفرقة وعاد إلى التأليف الموسيقي وهو أكثر إصرارا على أن تترك ألحانه بصمة في الفرق الأخرى.
وكانت هذه المسرحيات بما فيها من ألحان وطنية وقودا يشتعل بالثورة ضد الاستعمار والرجعية.. وكان الشعب في تلك المرحلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تملؤه المآسي والنكبات، حيث كانت مصر تقدم شبابها وأموالها وغذاءها لجيش المستعمر، الذي كان يقيدهم ثم يرسلهم بعد ذلك إلى الشام وتركيا والعراق وأوروبا ليكونوا في خدمة الجيش الإنجليزي أثناء الحرب، وآباء وأمهات هؤلاء الشباب لم يكونوا يعرفون عن مصيرهم شيئا، ولا يملكون إلا البكاء، وذات يوم صحا المصريون على أغنية حزينة غاضبة تتحدث عن محنتهم:
«يا عزيز عيني... وأنا نفسي أروح بلدي
بلدي يا بلدي...
والسلطة خدت ولدي بسرعة البرق».
كان اللحن يسري في مصر كلها، كما تسري النار بالهشيم، كما قال توفيق الحكيم عن أغاني سيد درويش بعد ذلك. كانت مصر كلها تغني مع الشيخ سيد.. يا عزيز عيني.

التمهيد للثورة
وفي 19 آذار 1919 أيقظ المناخ الثوري وجدان سيد درويش، الذي كان أحد أكبر الذين مهدوا للثورة وأحد أكبر صناعها بألحانه التي سبقتها.. حتى أنه قيل إن لثورة 1919 زعيمان: سعد زغلول، وسيد درويش.
ومع الثورة أبدع سيد بعضا من أكثر أغانيه الوطنية خلودا.. ومنذ اليوم الأول للثورة، كان هذا المشهد مألوفا في القاهرة الثائرة: عربة حنطور يقف فيها منتصبا سيد درويش وبجواره بديع خيري، كان الناس يعرفونه ويحفظون أغانيه، يهتف سيد درويش بأغانيه الوطنية، ولمصر وسعد، ويهتف خلفه المتظاهرون، لحنه الهادر:
«قوم يا مصري... مصر دايما بتناديك
خذ بنصري... نصري دين واجب عليك».
وتقدم سيد درويش طليعة الفنانين الذين أنتجوا ألحانا ذات صبغة جماهيرية لمقاومة المستعمر، والتمرد على الفساد.. ووجد الفقراء والصنايعية، وكل أبناء البلد يضجون بالشكوى من سوء الأحوال وضيق ذات اليد، والمغلوبون على أمرهم، فنانا يغني معهم ولهم، فيصحون على ذلك اللحن الآسر الذي يقول:
«الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية
والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية
يالله بنا على باب الله يا صنايعية
يجعل صباحك صباح الخير يا أسطى عطية
طلع النهار فتاح يا عليم
والجيب مفيهشي ولا مليم
مين في اليومين دول شايف تلطيم
زي الصنايعية المظاليم».
وتنطلق الدعوة لمقاطعة السلع الأجنبية، سلع المحتل الغاصب، فيشارك سيد في الحملة ويغني: «خسارة قرشك وحياة ولادك... على اللي ما هوش من طينة بلادك». ويحاول المحتل إثارة فتنة طائفية وشق الصف الوطني، فيبدع سيد ألحانا كثيرة تدعو للوحدة الوطنية، ويقول في واحدة منها «اللي الأوطان بتجمعهم... عمر الأديان ما تفرقهم».
وعند تلحينه نشيد «قوم يا مصري» الذي كتبه بديع خيري لفرقة الريحاني، انتهز سيد درويش الفرصة ليفسد على الإنجليز مخططهم الذي استهدف وحدة المجتمع، فاستبدل بالجزء الثالث من النشيد، كلمات من تأليفه ضمنها بعض المعاني التي رأى أهميتها، لتحذير المجتمع المصري من مخطط التفرقة العنصرية، فقال:
«شفت أي بلاد يا مصر في الجمال
تيجي زي بلادك اللي ترابها مال
نيلها جى السعد منه حلال زلال
كل حي يفوز برزقه عيشته عال
يوم مبارك تم لك فيه السعود
حب جارك قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى ومسلمين قال إيه يهود
دي العبارة نسل واحد م الجدود».
وعندما نفي سعد زغلول وزملاؤه إلى مالطا، أعد سيد درويش نوعية جديدة من المنشورات الوطنية في شكل غنائيات سهلة، لقنها للشعب، واعتمد فيها على شخصية بائع البلح المتجول، الذي أنهكه الكبت السياسي، والاستبداد الاستعماري، في طقطوقة «يا بلح زغلول»، وتقول هذه الطقطوقة:
«ماعنتش أبكي/ وفيه مدبر/ مين بس ينكر/ زغلول يا بلح/ يا روح بلادك/ ليه طال بعادك/ تعا صون بلادك/ زغلول يا بلح/ سعدي وقال لي/ ربي نصرني/ وراجع وطني/ زغلول يا بلح..».
وقد أبدع سيد درويش ألوانا متعددة من الألحان السياسية ما بين أغنية خفيفة أو ديالوج أو نشيد، واستخدم الرمز في البداية، ثم تخلى عنه وأسفر عن وطنيته باستخدام أسلوب المواجهة الصريحة، متحديا بذلك سلطات الرقابة الاستعمارية، فكان له لحن:
«مصر يا أم العجايب
سعدك أصيل والخصم عايب
خلي بالك م الحبايب
دولا أصحاب القضية
أهو دا اللي صار وأدى اللي كان
مالكش حق تلوم عليه».
ومن أشهر أعماله الوطنية لحنه للنشيد المصري الوطني الذي كتبه أمير الشعراء أحمد شوقي، والذي نال عليه الجائزة الأولى في مسابقة التلحين التي أقيمت العام 1921، وكان تلحين سيد درويش لهذا النشيد هو السبب في انتشاره وتقبل الشعب له.
وقبل رحيله، انتهى سيد درويش من آخر أعماله التي أعدها لاستقبال سعد زغلول عند عودته من منفاه، ويقول حسن درويش عن هذا العمل: «وكان آخر ما قدمه من تلك المقطوعات تأليفا وتلحينا الأنشودة التي أبدعها تحية لسعد زغلول عند عودته إلى الوطن سنة 1923، وبعد أن أتم الفنان تدريب المنشدين والعازفين على أدائها استعدادا لحفل الاستقبال، عاجلته المنية، واستقبل سعد بالمقطوعة بعد وفاة مؤلفها بيومين اثنين، وهي أنشودة سعد زغلول، من أبيات هذه الأنشودة:
مصرنا وطننا سعدها أملنا
كلنا جميعا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا
أن تعيش مصر عيشة هنية
وحفظهم أيضا لحنه الخالد:
بلادي بلادي بلادي... لك حبي وفؤادي».
استقبلت الأمة سعد زغلول، وأنشد الشعب بأسره: «بلادي بلادي»، حين انتهى الاستقبال، سأل سعد: «من صاحب هذا اللحن العظيم كي أحييه وأشد على يده؟»، قيل له: «إنه سيد درويش.. وقد رحل إلى جوار ربه منذ ساعات فقط».
عندما رحل سيد درويش في 15 أيلول 1923 لم يشعر به أحد ولم يحضر جنازته سوى عدد قليل وفجأة انتبه البعض إلى قيمة هذا الفنان الكبير الذي صاغ بعبقريته (وخلال حياة قصيرة لم تتحاوز 36 عاما) أعظم إنجاز موسيقي عربي في العصر الحديث وأطلق عليه اسم «فنان الشعب» و«خادم الموسيقى».. ومع ذلك فإن د.سميحة الخولي المؤرخة الموسيقية تقول: «إن الراغب في المعرفة يعجز عن العثور على كتاب علمي دقيق يعرض لإنتاج سيد درويش تحليلا ونقدا، أو يعثر على نسخة كاملة من مدونات ألحانه يمكن أن تعد مرجعا للأعمال الكاملة لسيد درويش ليطلع عليه الدارسون للموسيقى ويرجع إليه الباحثون في تاريخ الموسيقى المصرية الحديثة».
* فنان تشكيلي أردني