أسطورة الرواية العربية .. نجيب محفوظ والأسطورة في رواياته - بقلم د.سناء كامل شعلان

أسطورة الرواية العربية .. نجيب محفوظ والأسطورة في رواياته - بقلم د.سناء كامل شعلان

شهد عقد الأربعينات من القرن العشرين تأسيس ملامح واضحة للجنس الروائي في الأدب العربي، وهي مرحلة تستمد أهميتها من شرطها التاريخي الذي بدأ ينزع بشكل واضح إلى الحديث عن الذات القومية، وعن الانتماء إلى العصر من جهة أخرى، وغدا الاتجاه نحو استلهام التراث والأساطير أداة مهمة في نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية والقيم الأخلاقية المتحولة.
ونستطيع الزعم بأن الاتجاه نحو استلهام الأسطورة ازداد طرديا مع الزمن، ليشكل ظاهرة في المشهد الروائي العربي.
وقد كان لنجيب محفوظ نصيب كبير من إبداع الروايات التي توظف الأسطورة، فأغنى المكتبة العربية بل والعالمية بأجمل الروايات التي استطاعت أن تزاوج بين الأسطورية والشكل الروائي، فخلق بذلك شكلا روائيا عربيا له خصوصيته وتفرده وتميزه، وهذا ما دعا الناقد السوفياتي ديمتري ميكولسكي إلى أن يعد نجيب محفوظ من أهم الروائيين في القرن العشرين، الذين استطاعوا أن يقدموا نماذج رائعة للأسطورة المستدعاة في الأدب الإبداعي.





نجيب محفوظ والأسطورة

ونجيب محفوظ شأنه شأن أي أديب، يتفاعل مع مجتمعه ومع تجاربه ومع ثقافته، ويتأثر بالظروف المحيطة به، ويمتح من فكره، ومن ثقافته، ومن موروثه، ويخصب إنتاجه بخلاصة ذلك التأثر. وتوظيف نجيب محفوظ للأسطورة في رواياته يحيلنا إلى سؤال مهم، وهو: لماذا لجأ إلى الأسطورة؟
وهكذا سؤال يوجهنا إلى جملة من البواعث التي دفعته إلى هذا الشكل الروائي غير التقليدي. ونستطيع أن نجمل تلك البواعث في ثلاثة بواعث رئيسية، وهي: الباعث الفني، الباعث الثقافي، الباعث السياسي.
أولا: البواعث الفنية
أ- البحث عن شكل روائي جديد
بدأ نجيب محفوظ حياته الأدبية واعيا لما يمكن أن يقع من تناقض بين أمرين: الأول ضرورة الالتزام بالتعبير عن الواقع الذي يعيش فيه، ويسيطر على ذهنه ووجدانه، والثاني يتصل بالتطور الفني العالمي في ميدان الرواية والقصة.وفي ضوء إدراكه لهذا التناقض الخطير انطلق نجيب محفوظ يبحث عن شكل جديد يلبي حاجاته الفنية، ويعبر عن واقعه، وواقع موضوعه الأول في روايته، وهو مصر. فالبحث عن شكل جديد للإبداع بات لا يقل أهمية أو تحديا عن البحث عن فكرة، فضلا عن القدرة على استيعاب الشكل لها ضمن جمالية إبداعية منسجمة، فنحن عندما نتكلم عن ميزة الروائي، فإنما تتمثل قبل كل شيء في قدرته على مزج فكرته بشكله الروائي. ونجيب المعني بالبحث عن شكل روائي جديد انطلق من قناعة خاصة مفادها أن الرواية العربية لم تقدم شكلا جديدا يميزها في إطار العالمية، لذا فقد سعى لهذا الشكل الجديد الذي عليه أن يكون شكلا ملتحما «بالموضوع والمضمون التحاما حتميا، كي تتحقق أصالة الفنان حسب رأيه. ويبدو أن نجيب محفوظ قد وجد في الشكل الأسطوري شكلا جديدا مميزا قادرا على تقديم موضوعه بقالب جديد يتفق مع موضوعه المحلي، ويعد بتميز وفرادة، في ضوء أن لا أحد يستطيع أن يزعم أن هناك شكلا ثابتا للجنس الروائي، وبهذا لا نستطيع الحديث عن أشكال ثابتة أو صور مقترحة لشكل رواية عربية يبقى الروائي العربي أسيرا لها، ويستغني به عن رحلة البحث عن أشكال إبداعية جديدة، فالتحرك والحراك هما صفتان لصيقتان بالنشاط الإبداعي الإنساني بغية الوصول إلى أشكال تجريبية تكمن جدارتها» في استجابتها لحاجات فنية جوهرية.
وقد كان نجيب محفوظ مهتما بالأبعاد الفنية للسرد منذ بدايته، ومثابرا بدأب على تطويرها في فنه، وإن كان قد اشترك مع معاصريه الروائيين في إبداع روايات متنوعة في أساليب السرد، وفي تناول مواضيع المجتمع المصري، وتناول قضاياه، فإنه قد عمل في الوقت نفسه على إحياء عناصر شكلية وأسلوبية من الأنواع السردية التراثية في عملية البحث عن طرق جديدة في كتابة الرواية العربية، وكان توظيف الأسطورة من أبرز تلك الأشكال المستولدة في ضوء التراث، وفي هذا الاستلهام محاكاة لأرفع النماذج الفنية، التي تتمتع بقدرة عالية على التصوير والتشكيل والتشخيص، وإنما القدرة على هذه المحاكاة ستحقق رغبة المبدع في خلق أساطيره الخاصة، في وقت رأى فيه بعض نقاد الرواية أمثال مالكولم برادبري أن الرواية الجيدة لا بد أن يكون حضور الأسطورة فيها كبيرا.
وهذه الرحلة الطويلة في سبيل البحث عن شكل إنما كانت بغية الوصول إلى أداة إبداعية روائية قادرة على حد تعبير نجيب محفوظ على «نقد المجتمع والحياة» لا سيما وأن الفن في رأي نجيب محفوظ صورة من صور الاحتجاج على ما هو كائن ليس غير.
وقد حرص نجيب محفوظ على أن يتجاوز القواعد الرتيبة في فن الرواية؛ إذ إنها «لا تهمه إطلاقا» فضلا عن أنه-وفق رأيه- لا يوجد شكل صحيح أو خطأ عليه أن يلتزم به في كتابة الرواية، وانحاز لموهبته ولأسلوبه الخاص الذي ابتكره، مما سمح له بأن يستخدم الأسطورة استخداما ينبع من حاجاته الإبداعية، ويتمشى مع رسالة فنه، ورؤيته للحياة والإنسان، فرؤية الأديب للحياة والإنسان عامل مؤثر، لا في اختيار الأديب لموضوع العمل الأدبي ومضمونه وحسب، ولكنها تشكل أيضا عاملا حاسما في تحديد أدوات التعبير التي يعبر بها عن مضمون عمله الأدبي، وقد كانت له رؤيته الخاصة للحياة والناس التي توسل بالأسطورة أداة للتعبير عن جزء منها، ويصبح حكمنا على تلك الأداة مستمدا من حسن اختيار الأديب لها ومن قدرته على توظيفها بأفضل صورة للتعبير عن رؤيته.
وإخال أن اهتداء نجيب محفوظ لتوظيف الأسطورة في بعض رواياته لم يكن حالة قسرية إجبارية فرضها على نفسه، بل هي حالة يفسرها قوله: «عندما تشرع في كتابة رواية فإنك لا تشعر مقدما بقيود يفرضها زمان أو مكان، وهذه الحرية لا تعني الفوضى أو السهولة بل على العكس من ذلك إنك بقدر ما تحظى بالحرية بقدر ما تعاني من مسؤولية، وهذه الحرية وتلك المسؤولية تفرضان على نجيب أن ينفرد بمزايا ذاتية تمثل ثقافة بيئته ليحظى بصفة الأصالة والتفرد، ولا يكون مجرد مقلد للرواية الغربية، وذلك في ضوء استطاعته بأن يزاوج بين الشكل والمضمون في عملية تلقائية غير خاضعة لتدبير مسبق.
اصطدمت محاولات نجيب محفوظ في البحث عن شكل جديد للرواية بصعوبات عدة، منها افتقار الرواية العربية لتراث تستند إليه، وترتكز عليه، لذا فقد كان عليه أن ينطلق باحثا عن الشكل المنشود، ولعله وجد ذلك الشكل في الروايات التي استثمرت الأسطورة، وكسرت الشكل الغربي للرواية، لاسيما في رواياته ملحمة الحرافيش ورحلة ابن بطوطة، وليالي ألف ليلة، وحكايات حارتنا، وأولاد حارتنا.
واهتداؤه إلى هذا إنما هو حلقة من حلقات رحلة المبدع العربي في البحث عن شكل في الأدب الحديث، وهي تجربة غير واضحة المعالم، ومن ثم فإن الشكل الذي يصور تجربته يتمثل في شكل رحلة موضوعية في عالمه الداخلي تكرس المغامرة لتصبح هي القاعدة، وتسمح بالتفاعل مع المنجز الحضاري الإنساني الذي يتمثل في الحوار الجدلي بين الأجناس الأدبية الفنية جميعا.
ب- قدرة الأسطورة على الترميز
يقال إن الجهد المنفتح أو الخلاق للمبدع لا يفصل عن وعيه لما هو فاعل، ونجيب محفوظ بتوظيفه للأسطورة في بعض منجزه الروائي يؤكد ذلك، فالمبدع الجاد ليس من لديه قصة يريد أن يحكيها، بل من لديه موضوع يريد أن يوضحه، ومحفوظ كان مثقلا بتلك القضايا الملحة التي لا تفارقه، ولعله وجد أن الأسطورة قد تكون نافذته على التواصل مع فكرته ومع المتلقي في ضوء تلك الخاصية الترميزية الكبيرة التي تتمتع بها الأسطورة، التي قد توافق في محمولها من التجربة الشعورية تجربة المبدع أو تجربة الجماعة، فتصبح عندئذ مؤهلة مرة أخرى لتكون الحامل للرمز الجديد، كما كانت حاملة للرمز الأول.
ثانيا: البواعث الثقافية
أ- تأثر نجيب بالفلسفة
قد يكون من حقنا، ونحن في معرض تفسير النزوع الأسطوري في بعض روايات نجيب محفوظ أن نتساءل أهناك علاقة بين الأسطورة والفلسفية الغيبية عموما وبفلسفة الحياة والوجود خاصة؟ لا سيما أنه تخرج في قسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة القاهرة (فؤاد الأول سابقا)، 1934، وبدأ حياته كاتبا للمقالات في مجلة (المجلة الجديدة) الشهرية التي كان يصدرها سلامه موسى، وكان عنوان مقالته (اختصار معتقدات وتولد معتقدات)، وذلك قبل أن يدرك أن ميله الحقيقي إلى الأدب، ويحسم قراره لصالحه، ويهجر الفلسفة إلى غير رجعة، متجها إلى الأدب عبر روايات بعضها ذات إيحاءات وإحالات فلسفية.
وقد صرح نجيب محفوظ نفسه غير مرة أنه تأثر في تجربته الروائية بالفلسفة تأثرا ملحوظا، وهذا ليس بالمستغرب فالأسطورة كالفلسفة، وليدة التصور الفكري، وهما معا على اتصال دائم ومباشر بأحوال الإنتاج وبنى المجتمع وتغيراته، بل إن الأسطورة تعبر عن الفلسفة البدائية لدى الشعوب، وهي بذلك حالة عقلية حضارية مبكرة، استطاعت أن تفرض نفسها على المجالات الفكرية المتأخرة، ومنها الفلسفة التي تأثر بها نجيب محفوظ وغيره، وكثيرا ما شكلت الأسطورة والفلسفة والسحر والدين متداخلة نمطا معينا من التفكير أو الأنساق الذهنية.
يرى نجيب محفوظ أن مهمة الفنان هي أن يؤاخي بين نفسه والعلم والفلسفة، وإن كانت هذه مهمته إذن فعليه أن يكون متسلحا ابتداء بالفلسفة والعلم ليؤدي مهمته على خير ما يرتجي، ويؤكد نجيب محفوظ تأثر ما يكتب بالفلسفة، إذ يقول: «أنا لا أتصور بعد دراستي للفلسفة أن أخلو من تأثيراتها العميقة.
ب- تأثره بجماليات المكان
يظهر المكان بشكل جلي في رسم اللوحة الإبداعية للفنان، ويزداد هذا الأثر عندما يكون المكان منفتحا على معطيات إنسانية وثقافية تغني تجربة الإنسان، وتدفعه إلى تشكيل المكان وفق علاقته معه، ووفق ذاكرة المكان ذاتها التي يختزنها في عقله ووجدانه وذاكرته، والحارة التي ولد ونشأ فيها نجيب محفوظ كانت خزانا مليئا بالذكريات والشخوص والأحداث التي متح منها، وأفاد إفادة صبغت إنتاجه الروائي بصبغته الخاصة.
فنجيب الذي عاش في الجمالية اثني عشر عاما ظل مشدودا إليها حتى بعد أن رحل إلى العباسية، فقد بقيت الحواري والأزقة والأقبية تعيش في داخله وتجلت بقوة في عالمه الروائي بل إن كثيرا من رواياته أخذت اسم بعض إحياء الجمالية التي أحبها جدا، مثل( خان الخليلي)، و(زقاق المدق )، و(بين القصرين )، و(قصر الشوق)، و(السكرية).
ويبدو أن نجيب محفوظ رأى في بيئة الحارة أنسب البيئات لابراز أفكاره الرئيسة ومعتقداته التي وعاها منذ الصبا، كالعدالة الاجتماعية، والحرية الشخصية، والحقائق العليا، ومن يريد أن يفهم مضامين رواياته عليه أن يتعرف أولا بالحارة التي ولد فيها، واستخدامه لها على مستويين : الأول واقعي يكاد يشابه الواقع، والثاني رمزي.
ج- تأثره بالترجمة
لقد شهد القرن الماضي حركة نشطة في الترجمة عن الغرب، ولم يكن هدفها تعريف المتنورين بالأدب الأوروبي والأدباء الأوروبيين بقدر ما هو تحقيق غايات تنويرية تتمثل في الإصلاح الاجتماعي والسياسي، الذي قد يؤمل في أن يمكن العرب من بعث أمجادهم الماضية وأحياء قدراتهم السياسية والاقتصادية والثقافية.
وصادف أن شملت الترجمة أعمالا روائية ذات نزوع أسطوري فضلا عن ترجمات الإلياذة، وأعمال فرانسوا فينيلون، وأنطوان تشيخوف، ومعظمها أعمال كانت تمثل الأسطورة أو الإشارات الأسطورية.
وإذا كان هذا شأن المشهد الروائي العربي منذ مطلع القرن الماضي، فمن المتوقع أن تؤثر الترجمة على روائي مبدع مثل نجيب محفوظ، اشتغل في بداية طريقه بالترجمة، وبالتحديد بالترجمة عن كتاب له نزوع أسطوري واضح، ترك آثارا في توجهه وفي أدواته فيما بعد.
فقد ترجم محفوظ كتابا واحدا (1931)، وهو في الحادية والعشرين من عمره. وعنوانه (مصر القديمة) ويقع الكتاب الذي ترجمه عن الإنجليزية لمؤلف مغمور يدعى جيمس بيكي أشهنهث، في ثلاثة عشر فصلا تصور الأوجه المختلفة لحياة المصريين القدماء بأسلوب قصصي بسيط، وأغلب الظن أن الكتاب الأصلي كان موجها لناشئة القراء الإنجليز، لترغيبهم في الاستزادة من درس الحضارة المصرية القديمة، فهو ليس كتابا في التاريخ بالمعنى الدقيق، إذ يخلو من التواريخ ومن تسجيل أحداث أو شخوص أو عصور بعينها، وإخال أن هذه التجربة الأولى والأخيرة في مسيرة نجيب محفوظ قد كان لها كبير الأثر في تجربته الروائية، فالكتاب كان له تأثير مهم في إطلاق خيال محفوظ في تصوير دقائق معاش المصريين القدماء اليومي على نحو ما فعل في رواياته التاريخية الثلاث، والأسطورة من أهم ملامح ذلك المعاش المصري، وهو بترجمة كهذه قد توافر على كثير من الأساطير المصرية القديمة إطار قصصي شحذ موهبته الروائية، واستفزها للظهور، ونستطيع القول إن الحبكة الأساسية في روايته الأولى عبث الأقدار مأخوذة بقضها وقضيضها من الفصل السابع من كتابه المترجم، وعنوانه بعض الأساطير.
د- التأثر بالأدب العربي والأدب العالمي
بدأ نجيب محفوظ قراءاته في التراث العربي في سن مبكرة، ودرس عيون التراث العربي من مثل (الكامل للمبرد) و(الآمالي) لابي علي القالي (والبيان والتبيين) للجاحظ، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه، وأمثالها من المؤلفات الموسوعية.
ثم اتجه إلى دراسة الأدب العربي، فقرأ الشعر لا سيما شعر أبي العلاء المعري والمتنبي وابن الرومي، وقرأ للمنفلوطي، وروايات بول كين وتشارلز جارفيس وغيرها، كما قرأ في الأدب الحديث والقصة التحليلية والمغامرات الأدبية الحديثة، كالتعبيرية والواقعية والنفسية، ثم بدأ اتصاله بكتب النقد، وأبرزها ما كتبه طه حسين والعقاد والمازني، وقرأ كذلك في علم النفس والجمال والأنثروبولوجيا وتاريخ الأقطار العربية، وبعض الكتب عن رأي الماركسية في علم الاجتماع، ثم اتصل بالشيخ مصطفى عبد الرزاق أستاذ الفلسفة الإسلامية، وسلامة موسى الصحفي والمفكر، وكان لهما بالغ الأثر في نجيب محفوظ؛ إذ علمه الأول احترام التراث العربي واللغة العربية، وكيف يفهم الدين فهما مليئا بالسماحة والاستنارة.
ويقول نجيب عن علاقته بسلامة موسى: كان لسلامة موسى أثر قوي في تفكيري، فقد وجهني إلى شيئين مهمين هما: العلم والاشتراكية.
أما أستاذه الثاني فقد ورث نجيب محفوظ عنه التحمس للحضارة الفرعونية، وترجم إثر ذلك كتاب (مصر الفرعونية).
كما قرأ في بدايته الأدبية (الحرب والسلام) لتولستوي و(الجريمة والعقاب) لدستويفسكي، والقصة القصيرة لتشيكوف وموباسان، وقرأ كافكا وبروست وجويس، وأحب سحرية شكسبير وفخامته، ويوجين يونيل، وإبسن، وسترندبرج، وعشق (موبي ديك) لميلفيل، وأعجب بروس باسوس، ولم يعجبه همنغواي عدا (العجوز والبحر)، كما أعجب بجوزيف كونراد، وشولوخوف، وحافظ الشيرازي وطاغور. وفي تنوع قراءات نجيب محفوظ يقول: وهنا نلاحظ أنني لم أتأثر بكاتب واحد، بل أسهم هؤلاء كلهم في تكويني الأدبي.
وهو فضلا عن أنه وعى تقاليد الرواية الغربية من قراءة الأعمال الروائية المترجمة، وتعرف على أشكال السرد العربية القديمة قد تأثر بأشكال التخييل الموجودة في الأدبين: الغربي والعربي، لا سيما تأثره العميق بالأشكال الأسطورية بعد أن قرأ ترجمة الإلياذة، وقرأ مرارا ألف ليلة وليلة بالسر دون معرفة أهله مع أصدقائه في حقول العباسية، وهو فتى يافع.
وقد فتن بقدرة ألف ليلة وليلة على التعبير عن عالم بأكمله، بعقليته وبعقائده وبخيالاته وبأحلامه لا سيما أنه قد استطاع أن يعبر عبرها عن اهتماماته الكبرى، ومزج فيها الواقعي السياسي بالتأملات الميتافيزيقية.
ومن يقرأ روايات نجيب بروية يستطيع أن يخلص إلى أنه أطلع على كثير من قصص الخرافات التي تحوي قصصا عن الغول والضباع والعفاريت، وقصص الرمز والحيوان، مثل: كليلة ودمنة، وقصص الأمثال بما تحوي من أساطير وخرافات، وأيام العرب، وكان له اهتمام واضح بالسير الشعبية، وبما تحمل من بطولات فاقت الحقيقة مثل: سيرة عنترة، وسيرة المهلهل وسيرة بني هلال وحمزة البهلوان. فضلا عن أنه قد أولى اهتماما خاصا للتراث الصوفي، الذي يقدم نماذج من هذه الخوارق التي تظهر في الكثير من الكتب التي تخلط الممكن بالمستحيل والشعوذة بالخرافات والغيبيات.
كما أنه أكب على قراءة كتب أدب الرحلات، وكتب البلدان وغرائب الموجودات والمخلوقات وكتب الحيوان، لما تحوي من تفاصيل عجيبة عن أصقاع من الدنيا وعن أناس وعن حيوانات أفاد منها في رواياته.
وهذا الكم من الثقافة ومن التجاور مع أشكالها وأنساقها كون فن نجيب محفوظ، الذي شأنه شأن غيره من الفنون تكون من خليط الحياة الخارجية والداخلية في نفس الفنان، فالفن هو التعبير عن الشعور، والشعور يتأتى من امتزاج الوجدان بالحياة الداخلية في النفس، والحياة الخارجية في الطبيعة والكون.
ثالثا: البواعث السياسية
أ- الظروف السياسية
ويبدو أن الواقع العربي المعاصر الذي شهد سلسلة من الخيبات والإنكسارات، بات المواطن العادي عاجزا عن استيعابه أو تقبله قد دفع بالأديب نجيب محفوظ إلى الانحياز بفنه إلى تمثيل واقعه تمثيلا هدفه إيجاد صيغة واقعية مباشرة لتحليل الأحداث ودراستها، لذا فقد شعر بأن واقعا كالواقع الذي يعيش فيه يحتاج إلى أداة جديدة تمثل على الأقل الجانب الخفي المضطرب، الذي سماه «غير المعقول بعد 1967، وكانت الأسطورة الأداة المرنة المخزنة بكثير من الغيبيات والجدليات والترميزات القادرة على تمثيل كهذا لواقع وصفه بالجنون عندما قال:إننا نعيش في الوطن العربي الآن فترة جنون، فأنا لا أتصور مطلقا ما يحدث، وخيالي عاجز عن تصور هذا الشقاق والخلاف والتنابذ، إننا نعيش بالتأكيد فترة جنون.
وتصوير قضايا اجتماعية وسياسية في واقع يكاد يرقى إلى مرتبة الجنون يحتاج إلى الأساطير التي تخضع لمنطق يقترب من الجنون.
ويبدو أن المنعطف التاريخي فضلا عن البيئي لانطلاقة نجيب الإبداعية ساهما في توجهه الأسطوري في الرواية، فقد بدأ التأليف الروائي في فترة كانت مصر فيها تتوهج بالمشاعر الوطنية، وفيها دعوة إلى إعادة الأمجاد الفرعونية، فقرأ نجيب من تاريخ مصر الفرعوني، وقرر أن يكرس حياته لكتابة تاريخ مصر الفرعوني بشكل روائي.
وقرار كهذا وإن كان انفعاليا غير مدروس، لم يحقق كاملا، إلا أنه جعله ينكب على دراسة العصر الفرعوني، الذي لا يمكن أن يفهم دون دراسة أساطيره وفكرة المثيولوجي، الذي يشكل المشهد الثقافي والفكري بل والعاطفي والديني في تلك الحقبة، واطلاع كهذا قد زود محفوظ بمعلومات أسطورية كثيرة، وشحنه بالرمز المثيولوجي، ووجهه إلى هذا البعد في رواياته لا سيما أنه يعيد صياغة عصر كانت للأسطورة فيه الغلبة على المشهد الفكري الثقافي، و قد استطاع أن يقدم تلك الأسطورة ببعد واقعي يعكس ظروف مصر إبان كتابته لروايته الثلاث الأولى، وفي معرض ذلك يقول نجيب: استوحيت رواية (رادوبيس) و(وعبث الأقدار) من أسطورتين، أما (كفاح طيبة) فكانت انعكاسا للظروف التي تمر بها مصر وقتئذ.
ب- الاضطهاد السياسي
يؤمن نجيب محفوظ بأنه من غير الممكن فصل عمل الأديب عن الدولة كما أنه يؤمن بأن المثقف الذي يعتزل السياسة هو مثقف مزيف الثقافة؛ لأن قيادة المجتمع ليست للساسة فقط، بل على المثقف لا سيما إن كان مبدعا أن يكون له دور في إدارة دفة الحكم.ومن هذه الفلسفة انطلق نجيب في رؤيته الروائية، لا سيما أنه قد عاصر أحداثا تاريخية مهمة في حياة مصر، فقد عاصر الصراع السياسي بين القوى الوطنية التي كان يمثلها حزب الوفد، وبين القوى الرجعية التي يمثلها القصر والاستعمار، كما عاصر الثورة، وانشقاق الأحزاب السياسية، وذاق مع شعبه وأمته العربية آثار هزيمة 1948، 1967 والعدوان الثلاثي على مصر، كما رأى السلطة تفتك دون رحمة بمعارضيها، وتزج بهم في المعتقلات، ولا اخال أن نجيب كان سيسمح لنفسه بأن يلاقي مصيرهم، كما أنه كان يتحاشى أي رفض للسلطة له، لأنه يحاول أن يحمي موهبته لكي يتفرغ لإبداعه بعيدا عن الإضطرابات، ولذلك نستطيع أن نفهم مثلا كيف أنه توقف عن كتابة مقاله المعتاد في الأهرام الذي كان عنوانه (من مفكرة نجيب محفوظ) لمجرد علمه بغضب السادات من مقاله، لذا فإن الأسطورة كانت تضمن له غطاء يتخفى خلفه، ولا يواجه السلطة وجها لوجه، وبذا يعفي نفسه من وزر ما يقول بل ويلقى «التكريم» على حد قوله؛ لأنه وفق تصريحاته ليس من أعداء الثورة أو البلد، بل هو مجرد مواطن يقول رأيه. وهو يقر بحقيقة أن المبدع المثقف والسلطة هما ثنائية تؤدي إلى مصب واحد تقريبا، وهو مصب الصدام أو الاحتواء أو القمع أو الإغفال أو الحوار أو المشاركة بين صاحب الأفكار والمالك لأدوات تنفيذها أو قمعها.ولا شك في أن نجيب محفوظ يدرك أنه يعيش في واقع عربي كثيرا ما يضيق الخناق على الكاتب، ويسلبه حريته، التي هي المناخ الطبيعي للإبداع، فضلا عن الرقابة المفروضة على النتاجات الأدبية والإبداعية، في حين يقف وراء الحرية المتطلعون إلى غد أفضل، والحالمون بمدينة أجمل وإنسانية أعمق، الذين يعلمون تماما أنهم في حربهم مع القوى الأخرى قد يعرضون أنفسهم لمصاعب لا حصر لها، قد تضطرهم إلى التضحية بأنفسهم.
إن هذه الظروف دفعت المبدع العربي للالتفاف والتحايل على قوانين الرقابة من خلال استخدام الرموز الخافية عن عقل الرقيب، فكان له أن وجد في الأساطير والتاريخ مادة غنية في الأحداث والدلالات التي يمكن إسقاطها على واقعنا المعاش في سبيل بلورة شرعية سياسية لها دلالات اجتماعية ورمزية في ضمير اللاشعور الجمعي.
ونستطيع القول إن نجيب محفوظ قد اختط لنفسه طريقا خاصة للعلاقة مع السياسة، دون أن يسلك دربا وعرا، بل قدم أدبا يوصف بأنه نوع من المقاومة بالحيلة على القهر الذي تمارسه السلطة على الجماهير، أو مجالا لتنفيس المثقف عما يكنه في ضميره تجاه السلطة، ولا يستطيع أن يقوله مباشرة خوفا من المساءلة، وكان استلهام الأسطورة نوعا من تلك الوسائل التي تساعد على مجابهة الإذلال والقهر والحرمان والإهانات.
بل إن نجيب محفوظ يعزو كثرة الإبداع الأدبي في الستينات في مصر إبان القمع والاضطهاد مقارنة بتراجعه في السبعينات على الرغم من اتساع هامش الحرية إلى القمع الذي يقود إلى إنجاز الأعمال الإبداعية بما فيها من رموز وإسقاطات للتعبير عما يريده المبدع، فقد كان القمع في بنية المجتمع الثوري السابق على هزيمة 1967 مادة خصبة للأدب المصري السابق بهذا التاريخ بمختلف اتجاهاته وأنواعه، بل كان موضوعا مشتركا بين تيارات الفكر الاجتماعي والسياسي على وجه العموم.
والمفارقة المحزنة أن نجيب محفوظ الذي كان يؤكد دائما أن الأزمة قبل كل شيء هي أزمة أخلاقية، مردها إلى القهر الخارجي والقهر الداخلي، والذي اعتقد جازما بأن العدالة هي الطريق لاحتواء أزماته، والذي طوع كل موهبته، وبنى من الأسطورة جزءا من معماره الروائي هروبا من المساءلة والاضطهاد وسوء العاقبة، قد كاد يجد حتفه في ما أبدع، إذ تعرض عام 1994 لمحاولة اغتيال على يدي شاب متدين متطرف لم يقرأ شيئا من روايته، ولكنه شحن بالباطل على نجيب على هامش الضجة التي قامت حول روايته (أولاد حارتنا)، ولكن عناية الله تدخلت، وأنقذته من إصابة بليغة في الرقبة كان الهدف منها ذبحه. وكأن سخرية القدر جعلت الرجل المتستر بالرمز والأسطورة في رواياته هربا من الاضطهاد، يلاقي الاضطهاد بسبب ما تستر به!!


* كاتبة أردنية