صيدا - الرأي - راكان السعايدة - لم يكن قرارا سهلا صباح أمس أن نذهب من فورنا إلى العمق اللبناني في الجنوب وتحديدا إلى صيدا، فكل من تقول له انك ذاهب إلى الجنوب يمطرك بنظرات كأنها تستغرب منك أن يرتقي تفكيرك إلى مغامرة بهذا الحجم.. فأن تذهب إلى الجنوب فأنت حتما تحت مرمى النار وتحت القصف بأي لحظة.
لكنه قرار نفذ، وانطلق السائق (أبو محمد) بنا إلى الجنوب بعد أن وضع ما يكفي من الإشارات واليافطات على سيارته تثبت لمن هم على الأرض ولمن في الأجواء من طائرات الاستطلاع التي تحلق على ارتفاعات منخفضة أحيانا والطائرات الحربية الإسرائيلية أن في هذه السيارة صحفيين لعل هذه الإشارات تنفع إن جن جنون الطيارين وقرروا قصف كل من يتجه إلى الجنوب.
من اللحظة الأولى ينبهك السائق إلى أن المسافة من بيروت إلى صيدا تقدر بأكثر من (150) كيلو مترا وتستغرق ما يزيد عن الساعتين والنصف لأنه مضطر إلى أن يسلك طرقا فرعية وعرة ووسط جبال شاهقة.. ويشرح لك أن الطريق الرئيسية والجسور دمرت بالحرب ويستحيل السير عليها لصعوبة ذلك الأمر وخطورته، وأن هذه الطرق والجسور تختصر المسافة من بيروت إلى صيدا لتصبح (40) كيلو مترا يقطعها في غضون (40) دقيقة فقط.
المهم، تحرك السائق من وسط بيروت إلى الجنوب وما هي دقائق معدودة حتى بدأ مسلسل الرعب ليبلغنا (أبو محمد) أن الذهاب إلى الجنوب يعني أن تمر في الضاحية الجنوبية لبيروت.. وفصل أكثر بأن قال: يعني أن نمر ما بين المطار المدمر وبين حارة حريك أو ما يعرف بالمربع الأمني وأن المسافة التي علينا قطعها (24) كيلو مترا.
وما أن أنهى شرحه حتى كنا في أول هذه الطريق وفجأة انتقل عداد السرعة في سيارته من (100) إلى (170) وشعرنا أن السيارة أقلعت عن وجه الأرض فهذه المنطقة عرضة لقصف عنيف وهي مستهدفة بشكل يومي.. وما زاد الشعور بالتوتر أن مرافقنا الزميل مروان حمام من صحيفة المستقبل من فوره استل من حقيبته واقيا للرصاص وقام بلبسه لنكتشف أنفسنا عراة أمام تجهيزاته. ومع استحالة أن ترى أناسا يسيرون في الطريق ما بين المطار والضاحية الجنوبية باستثناء سيارات قليلة تنطلق بسرعات جنونية إلا أن أكثر ما يلفت انتباهك بقوة ما تشتم من الروائح التي تنتج عن القصف الجوي للضاحية والمطار.. فأجواء المنطقة كلها تلوثها رائحة البارود.
وخيل إلي أن سرعة السيارة التي تقلنا وصلت إلى حدودها القصوى ونحن ندخل نفق المطار خشية السائق من قصفه بأي لحظة فهو لم يقصف بعد واحتمالات قصفه واردة كون أعلى النفق مدرجا لمطار بيروت الدولي الذي استهدف أكثر من مرة لكن هذه الاستهداف لم يطل كامل المدرج أعلى النفق.
واعتقدنا بعد أن تجاوزنا المطار والضاحية أن الخطر قد زال لنكتشف أننا انتهينا من هاتين المنطقتين لندخل منطقة برج البراجنة والناعمية التي دمرت كل جسورها وطرقها الرئيسية وفيهما ترافقك أيضا روائح التفجيرات.. والمشكلة أن السائق عند كل نقطة تفتيش عسكرية أو موقع عسكري يزيد سرعة سيارته على قاعدة أن هذه النقاط والمواقع معرضة للقصف لمرات رغم أن بعضها قصف في الأيام السابقة.
وعلى طول الطريق ما بين وسط بيروت إلى أن تنتهي من منطقة الناعمة مرورا ببرج البراجنة فعلى الأقل تستطيع أن تحصي نحو (20) جسرا تم تدميرها تدميرا كاملا وحتى الطريق الساحلي استهدف بالغارات لضمان عدم استخدام أي جزء منه لغايات الذهاب إلى الجنوب.
وهذا يعني أن الذاهب إلى الجنوب سواء إلى صور أو صيدا أو بنت جبيل وكل مناطق الجنوب إجمالا مضطر لاستخدام الطرق الضيقة والوعرة وهي وإن كانت في بعضها نسبة من الأمان إلا أن هذا الأمان سرعان ما يتبدد لأن هذه الطرق تستخدمها شاحنات المساعدات وهي بالنسبة للطائرات الإسرائيلية أهداف للقصف.
وأن السير بجوار هذه الشاحنات يعني أنك قد تكون هدفا ثانويا إذ ما كان هناك قرار بالقصف الأمر الذي كان يثير غضب السائق (أبو محمد) ليصب جام غضبه على سائقي هذه الشاحنات ليفسحوا له الطريق كي يبتعد عنهم مسافة أمان مناسبة.
وعلى الرغم من اللحظات الصعبة التي يعيشها المار في تلك المناطق إلا أن في بعض محطاتها بعض الأمان خصوصا إن كانت هذه المحطات في مناطق للدروز أو السنة.. وهي لحظات تجعلك مأسورا لجمال الطبيعة الذي تراه في مناطق الشوف والدامور وكفر حيم ودوره ودير القمر وبيت الدين والمختارة وإقليم الخروب وضيعة شحيم لكن القلق سرعان ما يعاودك أن مررت بمناطق للشيعة كضيعة الوردانية.
بعد نحو الساعتين بدأنا ندخل صيدا وأول ما يصادفك جسر الرميلة الذي دمر في أول أيام العدوان ولا زالت تحت أنقاض هذا الجسر سيارة مارسيدس استهدفت بالقصف واستشهد كل من فيها وعند نفس الجسر استهدفت سيارة أخرى نوع جيب لكنها أخليت من موقعها بينما أخلي ركابها إلى المقبرة.
وعلى مسافة قريبة من جسر الرميلة دمر جسر آخر وهو جسر الأولي الذي سمي بهذا الاسم نسبة للنهر الذي يمر من تحته.. وهذا الجسر يعتبر بوابة الجنوب ويربط مابين صيدا وكل المناطق الشمالية.
في داخل صيدا يلاحظ أن القصف كان يستهدف مناطق محددة كمواقع الجيش اللبناني وخاصة مواقع الرادارات ومحطات الوقود وأكثر ما استهدف مرات عدة مجمع الزهراء وهو حسينية شيعية وفي محيط صيدا استهدف أيضا إقليم التفاح.
ويلاحظ أيضا بعض محطات الوقود التي لم تستهدف خالية من الوقود وبعضها الآخر فيه القليل من الوقود وتزدحم عندها الكثير من السيارات التي تريد أن تفول.. ومن الواضح أن في صيدا مشكلتين رئيسيتين وتنذران بكارثة مضاعفة للكارثة الحالية وهما أن الوقود بدأ ينفد وهذا يعني أن العديد من المستشفيات العامة والخاصة تخشى الاضطرار إلى الإغلاق كما أكد لنا ذلك معين أبو ظهر مدير عام مساعد لمركز لبيب الطبي الذي يتوفر فيها (80) سريرا وفيها (75) مصاب حرب.
والمشكلة الأخرى تكمن في تأخر وصول المساعدات على اختلاف أنواعها القادمة من بيروت نتيجة قصف الجسور والطرق الرئيسية واضطرار الشاحنات إلى سلوك طرق بديلة طويلة وصعبة علاوة على كونها خطرة.
ومن بين ما يلفت النظر الاهتمام الكبير الذي يلقاه النازحون إلى صيدا من مناطق صور وعيتا الشعب وبنت جبيل وغيرها وتقاسم أهل صيدا ما يتوفر لهم من طعام ومنازل مع النازحين.. ويظهر أن مؤسسة الحريري للإغاثة تقوم بدور كبير وفريد في إغاثة النازحين على مستوى جنوب لبنان كله وتقيم السيدة الحريري في بيتها غرفة عمليات تتابع عمليات الإغاثة وكل تفاصيل ما يحدث في الجنوب. يروي لنا أحد المطلعين في صيدا قصة يختلط فيها الخوف مع الفكاهة..
ويقول قبل أيام قليلة قام أطفال بالقرب من الساحل عند ساعات الغروب بإطلاق بالونات كبيرة وكثيرة كتبوا عليها عبارات تخص طفولتهم ومعاناتهم وما أن شوهدت في أجواء صيدا قرب الساحل اعتقد المواطنون أنها عملية إنزال إسرائيلية على الساحل.
وكان رد الفعل أن ساد صيدا توتر كبير والتزم المواطنون منازلهم وقام الجيش اللبناني بعمل نقاط غلق للمنطقة وتهيأ للمواجهة ليتبين لاحقا أن القصة ليست أكثر من بالونات ارتفعت في السماء وعادت إلى الأرض على نحو بدا وكأنه عملية إنزال.