امتد الوجود العربي الاسلامي في اسبانيا عموما وفي الاندلس خصوصا مدة 903 سنوات، ابتداء من سنة 711م حين دخلها طارق بن زياد فاتحا في عهد الخليفة الاموي الوليد بن عبدالملك، وحتى عام 1614 حين هاجرت آخر المجموعات العربية المسلمة «المورسكين» من الاندلس الى المغرب العربي، وقد برز الانتاج الثقافي والعلمي على وجه الخصوص خلال القرون التسعة هذه متمثلا: بالنهضة العلمية والفكرية، وبالانجازات الهندسية والمعمارية، التي بقي منها الشواهد العديدة والرائعة حتى يومنا هذا، كما في مسجد قرطبة، والقصر والصومعة الذهبية في اشبيلية، ثم قصر الحمراء في غرناطة.. وغيرها الكثير.
وتنم هذه الشواهد الحضارية والمعمارية التي استخدمت فيها اساليب بارعة، وتفاصيل دقيقة عن الذوق الفني الرفيع، وتمثل بمجموعها ازدهارا للفن العربي الاسلامي، في هذا التراث العربي الاندلسي تظهر بوضوح اصالة الامويين وعراقتهم.
ومن خصائص المعمار الاندلسي اعتماد البساطة من الخارج مع كثرة الاعمال الزخرفية من الداخل، كما نرى ذلك واضحا في قصر الحمراء، عكس ما هو الحال في المعمار القوطي اجمالا، كما في النوتردام على سبيل المثال.
ومن خصائصه ايضا الابتعاد عن الضخامة والارتفاع العمودي نسبيا في العهد الاندلسي، والاعتماد على نسبة معقولة بين حجم البناء والوظيفة التي يقوم بها مع حجم الانسان نفسه، على غير ما جاء في العهد العثماني حيث ظهرت ضخامة البناء والقباب والارتفاع العمودي للمساجد بشكل عام.
كما كانت الاعمدة في المعمار الاموي الاندلسي بعيدة ايضا عن الضخامة، وجاءت دقيقة ورشيقة تعلوها تيجان في غاية التناسق والانسجام، مخالفة الاعمادة اليونانية والرومانية التي كانت ضخمة الحجم نسبيا وعالية الارتفاع.
وقد شاد الامويون في الاندلس تسعة اشكال من الاقواس هي: العادية، البيضاوية، نعل الفرس، المنتفخة، المروسة، المسننة، المقرنصة، المتداخلة والمتعانقة. ولم يجر في اي حقبة تاريخية معمارية او هندسية في العالم اجمع استعمال هذا العدد من الاقواس بشكل متقن كما هو في قصر الحمراء، فالاقواس على شكل نعل الفرس نجدها فوق باب العدل، المقرنصة داخل قاعة العرش، والمسننة حول باحة الاسود، والمتداخلة فوق الحمامات.. وهكذا.
واعتمد الفنانون العرب والمسلمون في الاندلس على خاصية الهروب من الفراغ، فكسوا الجدران الداخلية -بالكامل في اغلب الاحيان- بزخارف موزعة باتقان من اسفلها الى اعلاها.
ومن العناصر المهمة في الزخرفة الأموية الاندلسية ما عرف بالتوريق، وهو فن زخرفي تشكيلي يعتمد على تراكم الاوراق والعناقيد وتكثيف الازهار باشكال جمالية متناسقة.
كما استعملت الخطوط والكتابات المنقوشة من آيات قرآنية واشعار واقوال مختلفة يغلب عليها الخط الكوفي، وكان لها دور جمالي كبير في الفن العربي الاسلامي.
واكثر ما ابدع فيه الامويون في الاندلس هو استعمالهم الزخرفي للفخار المطلي بالخزف، الذي عرف عندهم باسم الزليج، باشكال هندسية متداخلة بالغة الدقة والاتقان، واطلق عليها بحاثة الغرب فيما بعد فن الارابسك Arabesque الذي يعتبر بحق اصل الرسم التكعيبي والتجريدي الحديث. ويدخل الزليج في زخرفة واجهات الابواب والنوافذ، وجوانب الغرف وقاعات القصور، وعند قوس المحراب وافاريز المآذن وغيرها.
ومما لا شك فيه ان فكرة رسم المضلعات والاشكال الهندسية القائمة على الخطوط المتشابكة ذات الزوايا المتعددة، خاصة بالفن العربي الاسلامي، ولا مثيل لها في اي فن آخر، وتأتي الرسوم الهندسية هذه بشكل نجوم متعددة الزوايا: فمنها ما هو بثماني زوايا، ومنها باثنتي عشرة او ست عشرة زاوية. وفي قصر الحمراء يكثر الارابسك في بهو بني سراج وغرفة الاختين وعلى جدار قاعة السفراء.
ومن خصائص المعمار الاندلسي الاكثار من برك الماء، والماء الجاري في قنوات وفي نوافير جميلة والتي كان بعض منها داخل صالات القصور للتزين وللتبريد، كما كان الكثير منها في الحدائق والباحات كما في جنة العريف بغرناطة.
وقد جاءت السقوف الخشبية عند الامويين في الاندلس مطعمة بالعاج، ومزدانة بزخارف هندسية ملونة، تمثل اشكالا نجمية مزينة بخيوط ذهبية وفضية ونحاسية يحيط بها افاريز خشبية او جصية مكسوة بتوريقات وكتابات متنوعة.
غير ان اهم ما يميز السقوف الاموية الاندلسية هي تلك المقرنصات المتدلية من زوايا بعض السقوف والاقواس، والمقرنصات هي في الاساس من الجص الذي يفرغ في قوالب خشبية صنعت بشكل فني دقيق، ثم نزعت هذه القوالب وتم بعد ذلك النحت والزخرفة عليها، وهذه المقرنصات هي محاكاة لما نشاهده في بعض المغاور الطبيعية في الهوابط والصواعد الساحرة.
وعموما، فقد جعل الفنانون الامويون في الاندلس من البناء الجاف تحفة تقيد الالحاظ في كل معلم من معالمها، وتسحر العيون في كل جزء من تفصيلاتها، فلا تنتقل الى غيره قبل ان تستكمل متعتها من الجمال، ولا بد من الاشارة هنا الى ان الفن المعماري الاندلسي قد ابتدأ بمحاكاة الفن المعماري في بلاد الشام، غير انه تطور في بعض اساليبه واغراضه ليصبح له بعض من خصائصه المميزة، ويعتبر الفن المعماري في بلاد المغرب العربي في العصر الراهن، كما نراه في الاندلس او في مدينتي فاس ومراكش على سبيل المثال امتدادا فنيا وتاريخيا للفن المعماري الاموي في الاندلس.
ولقد كتب الشاعر نزار قباني عندما كان سفيرا لبلاده في اسبانيا قائلا: «بمحبة دخل العرب اسبانيا.. وبمحبة خرجوا منها تاركين دموعهم في نوافير الماء في حدائق جنات العريف بغرناطة، وحنينهم نقوشا من الذهب على جدران قصر الحمراء، وسقوفه واقواسه الرائعة.. ان القرون التسعة التي قضاها العرب في اسبانيا لا يمكن ان تفسر الا بمصطلح العشق وحده، وان العرب جاءوا الى اسبانيا عاشقين لا فاتحين».
* اكاديمي أردني
