مشكلة الفكر البشري، بعامة، إن جميع من تعاطوه ومن يتعاطونه أنهم يضعون أمامهم «حلاً مثالياً نهائياً» ويرون في النهج الفكري الذي يطرحون سبيلاً موصلاً إلى ذلك «الحل»!الأديان، وحدها، خرجت على ذلك. صحيح أن كل دين يرى أن مضمونه هو المضمون الأصح ولكن «الحل النهائي».. حل العدل المطلق.. سوف يتحقق لكل إنسان «يوم القيامة» على يد الله سبحانه وقبل «يوم القيامة»، فإن ما نراه في عالمنا ليس نهائياً وأن ثمة «حكمة» إلهية لحدوثه، ولكن علينا الإنتظار إلى يوم الحساب، }فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون{ - سورة البقرة - « الآية 3».هذا على الصعيد الديني، أما على مستوى الفكر البشري فمنذ أفلاطون إلى كارل ماركس، فالحل المثالي النهائي «اليوتوبي» ممكن في واقع العالم، سواء قامت «جمهورية أفلاطون» أو تحققت سيطرة «البروليتاريا» على الدولة. ومنذ سنوات قليلة، بعد تفكك الإتحاد السوفياتي، وتخلي روسيا عن النهج الماركسي، خرج علينا فوكوياما الياباني الأصل، الأمريكي الجنسية، بمقولة «نهاية التاريخ» زاعماً انتصار النهج الليبرالي - الرأسمالي نظراً لغياب النقيض الماركسي متمثلاً في الديمقراطية واقتصاد السوق. ولكن الثورات الحالية في العالم، المطالبة بالعدل، ومن بينها من رفع شعار «احتلوا وول ستريت» في الولايات المتحدة، ومن تجمهر عند كاتدرائية سان بول بلندن، والتي اضطرت إلى إغلاق أبوابها لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، وقال أحد كهنتها - الذي قدّم استقالته منها - تضامناً مع المحتجين: لو عاد السيد المسيح إلى عالمنا، لأنضم إليهم - يقصد المحتجين.وذلك قول لا يخلو من وجاهة، فالسيد المسيح عليه السلام كان داعية عدل مثالي، ولكن كما قال المرحوم عبد الوهاب البياتي - وكان شيوعياً في شبابه :-عدالة المسيح، في التاريخ، لن تقومأي أن تلك العدالة المثالية لايمكن أن تقوم في خضم الصراع بين المصالح البشرية في تاريخ العالم وتلك هي المأساة.. مأساة الفكر البشري والبشر الباحثين عن الحلول المثالية العادلة والنهائية في واقع عالمنا هذا.. أنه واقع قائم على تحكم القوي في الضعيف، وكما قيل، أنه منطق «الناب والمخلب» في الغاب حيث الحيوانات المفترسة تأكل الحيوانات الضعيفة، والسمك الكبير، في البحر، يأكل السمك الصغير.. وهلم جراً.. إن المحتجين في عالمنا اليوم يقولون بحق أن خيرات الأرض يتحكم بها 1% من البشر، وأنهم يمثلون 99% منهم، ولابد من العدل في التوزيع فالديمقراطية المنضبطة لم تفرض انضباطها، مثلاً، على المصارف التي تتحكم في اقتصاد العالم، كما قال جوزيف ستجلتز Joseph E. Stiglitz، الأستاذ في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل في الإقتصاد، ومؤلف كتاب: الأسواق الحرة وسقوط الإقتصاد المعولم Free markets and the Sinking of the Global Economy.وقد تابع البروفسور ستجلتز هذه الحركة الإحتجاجية العالمية منذ بدأت في تونس، ثم مصر، ثم أسبانيا إلى أن امتدت للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا.. ووصل صداها إلى نيوزيلندا !.. ولكن متى كان هذا «الظلم» في توزيع الثروة غير ذلك ؟!ولو تأملنا في «فكر» هذه الحركة الإحتجاجية، خاصةً في جانبها الغربي، لوجدنا أنها حركة «تحتج» على سوء التطبيق الرأسمالي في بلدانها ولا تحمل فكراً اشتراكياً. فعندما تأزمت المصارف الكبرى مالياً في الغرب، سارعت الحكومات إلى نجدتها بمليارات الدولارات. لكنها تحسب حساباً عسيراً إذا كانت المسألة مسألة انفاق على الخدمات العامة لصالح الغالبية من الناس الذين هم ليسوا في ثراء مديري أو مالكي المصارف الكبرى! فلماذا هذا التمييز ؟وما يؤجج مثل هذه الحركة عاملان: التقنيات الحديثة في التواصل، كالتويتر والفيس بوك، حيث تنتشر التحريضات، وفي الغالب ليست قائمة على أساس صحيح.. ووجود «ثوريون محترفون» في العالم كمنظمات «حقوق الإنسان» وأمثالها، وهؤلاء ليست لديهم أيدولوجية غير أيدولوجية إسقاط المؤسسات القائمة. «ولكن» ماذا بعد؟هذا سؤال لم يطرحه أولئك على أنفسهم ! وما يهمهم هو «النجاح» في إحداث الإسقاط.. «ومن بعدي الطوفان»!ويبدو إن ما يحدث في العالم الغربي هو محاولة لتصحيح الرأسمالية وليس لإسقاطها.فالمحتجون كانوا «إجراء» لدى المؤسسات الرأسمالية، والآن بسبب الأزمة الإقتصادية التي مستهم بضائقة معيشية وغدوا دون أعمال يحتجون ويتظاهرون، وعندما يعود الإزدهار الإقتصادي سيعودون إلى وظائفهم.. وكأن شيئاً لم يكن! وهم في الوضع ذاته التي كان فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما.. عندما انتزع من المؤسسة التشريعية الأمريكية موافقتها على مشروع التأمين الصحي العام الذي كان تفتقر إليه الرأسمالية الأمريكية.ويلاحظ أن على الرغم من «مواعظ» الحكومة البريطانية بشأن حركات الإحتجاج في الدول الأخرى، فإنها لا تتسامح إطلاقاً مع حركة الإحتجاج في بريطانيا ومن يتابع ما تفعله مؤخراً مع تجدد احتجاجات الطلاب بشأن رفع المصروفات الجامعية يستطيع أن يدرك ذلك إن الإحتجاج الغربي، بإختصار، ما هو إلا محاولة لتحويل الرأسمالية التي تبدو للمحتجين «متوحشة» إلى رأسمالية ذات بعد اجتماعي إنساني كالرأسماليات في اسكندنافيا !فهل ينجحون ؟عندما يتأمل المرء في واقع العالم يجد أن التدرج في الإصلاح هو السبيل الوحيد لإصلاح الأوضاع في عالمنا هذا.. It is evolution not revolution!وفي مرحلة سابقة كانت الحماسة للثورة.. وكان الفكر التطوري يوصم بالرجعية والتخاذل.. الخأما اليوم، فإن مختلف مدارس الفكر ترى في التطور المتدرج هو «الثورة» الحقيقية الصحيحة. وتغيير العالم ممكن فقط عن طريقه.. لكنه التطور غير المؤجل وغير المتعثر !وهذه المسألة، أي استكشاف الخطوة التطورية المنشودة هي «التحدي» الذي يواجه الفكر البشري في مختلف البلدان.
المثالية (الجديدة).. هل تحمل (جديداً)؟
12:00 17-11-2011
آخر تعديل :
الخميس