يعتبر التجريب في القصيدة العربية الحديثة معلما بارزا من معالم حداثتها، وبغض النظر عن تجاذب التقييم لجدوى النزعات التجريبية، فإن التجريب الشعري لم يقتصر عند حدود تداخل الفنون بالإشكال الكتابية، بل تعددت مستوياته نحو تداخل أنساق أو تجاور أنماط شعرية معا إن جاز التعبير.
الديوان الجديد «عقيق مصري» للشاعر العراقي شاكر لعيبي والصادر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يثير إشكالات التجريب في تمازج قصيدة النثر مع قصائد التفعيلة والعمودي لجهة استجلاب القافية من الأنماط التقليدية ومحاولة الاشتغال على توطينها في قصيدة النثر بحيث يدعو الشاعر لعيبي إلى كتابة قصيدة نثر مقفاة. وهو أمر كان الشاعر قد نظر له وحاوله في ديوانه السابق أيضا (الحجر الصقيلي) الصادر عام 2001 .
الديوان يحيل القارئ إلى التساؤل عن جدوى إقحام القافية - باعتبارها معطى كلاسيكيا - في قصيدة نثر حداثية تتنفس خارج بنية الموسيقى التقليدية، الأمر الذي قد يعده البعض إقحاما لأنماط شعرية متفارقة في بناها وجواهرها.
في حديث خاص ب«الرأي» الثقافي وعند سؤاله عن جدوى القافية في قصيدة تتنفس خارج الموسيقى التقليدية، وفيما إذا كان ذلك نوع من إقحام أنماط شعرية متفارقة في مبناها قال الشاعر لعيبي: «طرح علي هذا السؤال منذ البداية بإلحاح، وعالجته في أكثر من مداخلة آخرها )المكتمل واللا مكتمل قي قصيدة النثر)، سؤالك الحالي قد يعترف بأن قصيدتي تتنفس خارج الموسيقى التقليدية خلافا لمن ربط آليا، حتى من دن أن يقرأ نصا واحدا، بين تجربتي في قصيدة نثر بقافية وكل ما هو بائد وميت، مطلقا في وجهي شبح (السجع) المنقرض. لأقل الآن من جديد بأنني متيقن تقريبا من أن القوافي والأوزان هي عناصر محايدة بطبعها في الشعر العربي والعالمي، فهي لن تتدنى بالنص إلى هاوية التقليدية ولن تتصاعد به، كما يظن التقليديون إلى مصاف رفيع. هذه العناصر يمكن أن تكون شكلية ومقحمة ويمكن أن تقوم بوظائف إثراء للقصيدة».
ويوضح لعيبي بقوله : «انظر لشاعر مثل رينيه شار الذي استخدم كل ما تضعه تقنيات القصيدة الفرنسية تحت تصرفه، من سلاسة قصيدة النثر، إلى القوافي المزدوجة، إلى الشعر الحكمي، إلى النثر الصافي، إلى الرباعيات وأوزانها السكندرية... الخ، في بناء نص حديث. اقرأ قصيدته الغنائية جوهريا (في نخب الأفعى la sant du serpent ) بالفرنسية لتتأكد مما أقول».
ويؤكد لعيبي أن «فرضية أن قصيدة النثر العربية تتنفس خارج الموسيقى التقليدية تحتاج إلى تدقيق». مشيرا إلى «إنها تتنفس خارج الفضاء المعرفي والروحي للقصيدة التقليدية». ويقول: «هل هناك شيء تقليدي أو محايث في الموسيقى نفسها؟ يا للسؤال! هل تنطوي قوانين الموسيقى الأوربية الكلاسيكية بحد ذاتها على أمر تقليدي بالمعنى الرديء للكلمة؟ هل أن قواعد الموسيقى الشعرية التي قعدها العرب تحمل بنفسها دلائل واضحة على انحطاط أو رقي ما؟ لا أستطيع الإجابة، لكنني أعتقد أن القواعد الموسيقية نفسها لا تحتمل طرحا يحملها ما لا طاقة لها به كهذا».
ويضيف لعيبي: «بالطبع ليست قصيدة النثر العربية هي خلاصة الشعر وزبدته الأخيرة الحاسمة، ودرته الفريدة، رغم أني من أنصارها كما تعلم. لو كان الأمر كذلك لتوجب علينا أن نرمي من النافذة شعر أدونيس الموزون والمقفى ودرويش ونزار قباني وعمر أبو ريشه والسياب وآخرين كثيرين».
ويدعو لعيبي في هذا الصدد إلى القيام «بخطوة تراجع متواضعة ولنر المشكلة الإيقاعية بعين أخرى من دون الكثير من الكبرياء». موضحا أن المشكلة الإيقاعية جوهرية في الشعر وفي السينما كما في المسرح«.
ويقول لعيبي : إن المصابين بمرض الحداثة على الطريقة العربية لن يستطيعوا القيام بخطوة حاسمة من هذا القبيل، ولن يستطيعوا رؤية أي أمر أخر سوى رؤاهم الواقعة ليس في المعرفة ولكن في الدرجة أو الموظة. عم يتحدث هذا الشاعر العراقي وهو يستجلب القافية في وقت نتحدث فيها جميعا وبصوت ثابت عن شيء آخر، واحد وحيد، غامض، جديد، نثري، منفلت من كل قيد؟ هذه الطريقة بطرح السؤال تتجاوز البصيرة وفيها إلغاء متعمد لأي نزعة تجريبية هي جوهر عمل قصيدة النثر. لكن فيها التالي: إن الفن الشعري الحديث يقوم، في تقديراتي، على رفض المنجز النهائي المستتب، محدد الملامح نهائيا والمكتمل Achev، والبقاء قدر الإمكان في اللا مكتمل inachev. وفي هذه العملية تبقى لغة الشاعر وخصوصياته الأسلوبية حاضرة بيقين ودهاء. هذه المفهومة صارت بداهة في فني الرسم والنحت الحديثين. من الواضح أن البقاء في إطار قانون واحد ولغة موحدة في كتابة قصيدة النثر العربية هذه يقود مرة أخرى إلى (إقامة عمود شعري ثابت)، لا تختلف نزعته المحافظة عن أي عمود معياري ثابت آخر، وفي ذلك نفي لفكرة الحديث والحداثة التي لا تقبل بطبعها الثبات على نسق واحد معياري. يقول بودريار «ليس للحداثة قوانين ولكن لها وجهات فحسب، إنها ليست نظرية ولكن يوجد منطق للحداثة». يوجد منطق داخلي للحداثة فحسب.
ويضيف : «يبدو لي أن الاكتمال يصيب النص الشعري بالمقتلة، ويجعل منه مراوحة في فضاء ثابت وتكرار مقيم لنص واحد وحيد بتنويعات عدة. اللا مكتمل هو إعادة تذكير بجميع العناصر الممكنة في انبثاق النص وتوظيفها من دون إعطاء مفاضلة نهائية لبنية منضبطة رياضيا وأبدية أو لعنصر منفلت بالمطلق. في صيغة اللا مكتمل نكاد أن نترك الأبواب مفتوحة لجميع العناصر المنقادة انقيادا طالما يمكنها إثراء النص. من حينها سيكون ممكنا إدخال أنواع أدبية أخرى بل العناصر البصرية المحض في صلب النسيج اللغوي الشعري».
ثيمات الديوان
قصائد الديوان الجديد مشغولة بالمرأة وقلق الكائن الوجودي، وهما ثيمتان أساسيتان تشكلان العصب الرئيسي لوحدة موضوعه. فالشاعر مقذوف في عالم شاسع يربطه به خيط دقيق لكن قوي. فهو يخاطب امرأته - نساءه، أو يستنطق قلقه الوجودي، معتبرا أن استدعاء المرأة يستدعي في المقام الأول حضور الذات، فهي مرآته التي يرى فيها صوره المتعددة، كما أنها موضوع بهجته ولذته ونحيبه في آن واحد. المرأة تنشطر في القصائد لتكون مرة عنوان الذات ومرات أخرى عنوانا للعالم وما وراء الطبيعة. إنها النافذة الأثيرة التي تنفتح على الوجود، وهي أيضا المسبار الذي يقود خطى الشاعر في مجاهيل نفسه وآباره السحيقة.
ويقول الشاعر لعيبي حول ذلك: «أخاطب في هذه المجموعة المرأة بوصفها طرفا وجوديا في كينونتي البيالوجية والإنسانية والجسدية، بحرقة حسية، ليست بالضرورة انتصابية ولا رومانسية. إنها النوع الذي لا نستطيع الإلمام بجميع أبعاده بسبب مفارقاتنا واختلافاتنا معه الممنوحة لنا قهرا. المجموعة مديح بصوت عال لعذاب الاختلاف مع نوع آخر والرغبة المهولة به. ثمة في الديوان امرأة محسوسة واحدة مقترحة، هي المجاز المستمر لاختلاف ما وكينونة مجسدة مشتهاة. ألم تقرأ قصيدتي (حجارة العربيات) حيث العربيات يغنين من أجل الماضي ويعضضن على المنديل من أجل ولادة المستحيل ويقترفن الجمال من أجل أبناء الرجل الجميل، وحيث العربيات مسحورات بالأبد ذي الوجوه السبعة، النائمات في كوكب ضائع بين المجرات. هذا المجاز عن امرأة مفترضة بوصفها (المرأة) عامة، يعلن عن امرأة تتنفس في مناخاتنا الثقافية التاريخية، على الأقل في ذاك النص. هنا يتمازج القلقان تمازجا لا نرى عبره فيما إذا كان الأمر يتعلق بالمرأة أم بالوجود الملتبس، المرئي عبر الحواس وخديعة الحواس».
وفي سؤال حول جواز القول بالوحدة الموضوعية للكتاب الشعري باعتبارها تأريخا للشاعر خلال فترة ما من تطور تجربته يقول لعيبي: «اعتقد أنني كتبت خلال ربع قرن مجموعات تتضمن وحدة واضحة في بناءاتها أو موضوعاتها. لن يستدرجني كتاب قصيدة النثر العربية المحلية للخوف من الموضوع، لصالح التهويمات التي تسعى جاهدة وعبثا للاقتراب من عالم الشعر. الشعر هو قلق وجودي ولهذا القلق موضوعات يتمحور حولها، وهو بذلك مثل الفلسفة بالضبط. لا يوجد فيلسوف من دون موضوع، أي إشكالية محددة ينحني عليها، لا يوجد شاعر كذلك بهذا المعنى. قد أستثني مجموعتي (استغاثات) من ذلك، بينما لن استثني مجموعتي الأولى (أصابع الحجر) رغم أني كتبتها في العشرين من عمري. لقد تابعت نفسي وذكرت القارئ بتلك الوحدة المبثوثة في هذه المجموعة وتلك، بطريقة وأخرى، لكن المشكلة الأعوص أن النقد العربي لا يتابع إلا ظله والشعر الذي يتلاءم مع ظله، وأن المنفى العراقي لا يسمح إلا بتعارف لن يتم قريبا أبدا. أفكر هنا ب (ميتافيزيك) و(نص النصوص الثلاثة) و(كيف) مثلا».
ومما يرد في «قصيدة للسائرة في نومها» نقرأ:
«أنت سوسن أضاءه البرق
قبل أن يمر ظل الغراب
على حفيرات الحديقة ذات التراب المجيد
هل تسمعين خرير الأرواح المرحة
الجارية في مياه الساقية قرب الحوش؟
هل ترين ظلي قرب ظلك الطويل الذي ينام المجد في برودته
يا صديقة الشجرة
وراعية الرعاة
التي يوسوس الماضي بين ضلوعها
يا عشيقتي المستسلمة
لذراع البطولة الذي يعلن بيارقه البيضاء بيارقه البيضاء
أيها المعلمة التي لم تعلمني إلا السهو
أيتها الفصيلة النادرة من شجر كوني».
شاعر أردني