كتابة وتصوير ـ جهاد جبارة - في الأيام الأول من شهر شباط تلبستني حالة غريبة، ورغبة عارمة في عبور الصحراء الجنوبية بحثا عن ذلك الموقع الموغل في العمق والذي يطلق عليه البدو «قلبان بني مرة» وبعضهم يسميه «أبيار بني مرة»....
أما بعض الذين التقيتهم ممن خبروا الصحراء من البدو القاطنين هناك نصحوني بألا افعل ذلك وان اتريث حتى تجف أرض القيعان التي امتلأت او كادت بمياه الامطار الغزيرة التي تساقطت على تلك الرقعة، لكن هذه النصيحة زادت من اصراري وذلك لشدة ولعي في التقاط ذلك المشهد الذي يغيب طوال العام وقد لا يتكرر.
ان البحث عن «قلبان بني مرة» يتطلب الترحال نحو قضاء «الجفر» والذي يضم المواقع التالية: بلدة الجفر، قرية المدورة، الشيدية، كبد، كبيدة، سهب، العناب، مشاش حدرج، باير، الشهباء.
ويقع هذا القضاء في الجزء الجنوبي الشرقي من المملكة وتراه يمتد الى الحدود السعودية شرقا وغربا الى حدود محافظتي الكرك والطفيلة اما جنوبا، فمحافظة العقبة والحدود السعودية، وتقدر مساحة قضاء الجفر بحوالي 28 ألف كيلو مترا مربعا وبهذا فانه يشكل ما نسبته ثلث مساحة المملكة الأردنية الهاشمية، وهو اكبر الاقضية من حيث المساحة.
ان سكان هذا القضاء هم من عشائر الحويطات والذين منهم: التوايهة، النواصرة، الدمانية، الفتنة.
ان المناخ الذي يغلب على تلك المنطقة الشاسعة هو المناخ الصحراوي حيث يميل الى الارتفاع صيفا لتصل درجات الحرارة في بعض الأحيان الى 45 درجة مئوية في حين تتدنى هذه الدرجات شتاء لتصل الى ما دون خمس درجات تحت الصفر.
مسار الرحلة
ان هدفي كان الوصول الى منطقة «سهب» والتي قيل انها المكان الذي يضم ذلك السر الذي كنت ابحث عنه الا وهو «قلبان بني مرة» لهذا خرجت من بلدة الجفر متجها شرقا في صبيحة نهار لم تعبر سماءه الا بعض سحابات باهتة موغلة في الارتفاع بينما بعض نسمات صحراوية تنخر العظم غير آبهة باللحم الذي يغطيه.
كانت تلك الاراضي في بداية الامر جافة لا اثر لماء على سطحها، وبعد مسير يقارب الساعة لاح لي في الافق البعيد هناك خيط فضي، كان كأنه ابرة ضخمة استلقت على تلك المساحة بينما الشمس ترتفع رويدا رويدا لتسقط اشعتها على جسد تلك الابرة لتزيد من لمعانها وبريقها الاخاد.
وعندما اقتربت اكثر وجدت ان تلك التي بدت لي كأبرة ممدة لم تكن الا قاع الجفر العظيم.. وبالمناسبة فان «الجفر» في اللغة تعني «البئر العميق» وذلك لكثرة وتعدد المياه الجوفية فيها.
لقد كان على عجلات العربة الصحراوية ان تدور بحذر على ارض تلك المنطقة المحيطة بالقاع، حيث كانت طينية لزجة ذات سطح ناعم املس، ان خطأ في اختيار موقع الدواليب على تلك البقعة قد يكلف الكثير من العناء خاصة ان الشبكات الخلوية هناك تغيب عن شاشة الجوال مما يشعر الانسان بالوحدة، والابتعاد عن اي عون الا ذلك الذي لا يبخل به الله جلت قدرته.
ولالتقاط بعض صور لمشهد القاع الممتلىء بالماء كان لا بد لي من الهبوط من العربة والسير باتجاه اطرافه القريبة الملامسة لمائه علني احظى ببعض اللقطات النادرة والموحية غير ان أقدامي تثاقلت فوق ذلك الوحل وراحت ساقاي تغوصان فكان لا بد من التراجع حيث ان ذلك الوحل قادر على ابتلاع الجسد كاملا ان كانت تربته قد تشبعت بالمياه الى عمق يزيد عن المترين.
ان عددا لا يستهان به من الاودية ينتهي ماؤها في قاع الجفر ومنها «وادي ابو سراويل» الذي ينحدر ماؤه من تل «طويل شهاق» غرب الجفر وواي «العيرية» الذي ينحدر ماؤه من ذات التل، وهناك ايضا «وادي الهرار» القادم من «جبل كزيمة» والذي يقع شمال القاع ومثله ايضا وادي «الشومري» وهناك «واديا الغوير» الآتيان من جبل «الغوير» الواقع الى الشمال الشرقي من القاع، ووادي «العذرية» القادم من «عذرية ام طور» الواقعة الى الشمال الشرقي من القاع، وكذلك «وادي العرفا» الممتد من «جبال العرفا» الواقعة الى الجهة الشرقية من القاع واخيرا «وادي العناب» القادم من «تل عناب» الى الجهة الجنوبية من قاع الجفر.
خرجت من موقع القاع مكملا المسير شرقا باتجاه «سهب» فعبرت منطقة شاسعة من اراضي الحشاد، والحشاد هو وصف للاراضي المنبسطة التي تتناثر عليها قطع صغيرة من حجارة الصوان، وبعد مسير تجاوز الساعة راحت تلوح سلسلة تلال «العرفا» ولعلها سميت بهذا الاسم لشدة شبهها بالعرف الذي ينتصب على رقبة وظهر «الضبع» حين يتوجس او يصاب بحالة من الهيجان او حين يهم بالانقضاض على عدوه، وفي الطريق لاحت لي مجموعة كبيرة من شجيرات «الدويد» فاتجهت ناحيتها لأجد ان هذه الشجيرات كانت تحيط بماء أطلق عليه «سحل ابن ازهير» و«السحل هو تجمع للماء اصغر حجما من الغدير.. ولعل ثمة علاقة بين اسم ذلك الوعاء الذي يستعمل للشرب والمسمى «اسحله» وبين موقع الماء المسمى «السحل».
سهب
وبقي اتجاهي شرقا على طرق احسست انها توجع اجساد دواليب العربة التي لا تعرف كيف تشكو مثلما شكا حصان عنتره «وشكا الي بعبرة وتحمحم»، حين ازور من وقع القنا بلبانه!
وصلت اطراف وادي سهب ورحت انحدر فيه حتى ظهرت تلك المشاهد التي تخطف الالباب والتي تبرهن على ان للصحراء الأردنية بهاء لا يشابهه اي مكان اخر.. لقد انتشرت على سفوح التلال وفي مجاري المياه الجافة حيث الرمال الناعمة - انتشرت - حجارة بيضاء مستديرة تشبه الى حد كبير حبات البطيخ، لقد كانت ملساء ذات استدارة يخالها من يتفحصها انها ربما تعرضت الى عمل فني متقن من الهندسة والتشذيب فسبحان الذي ابدع في هندسة هذا الكون.. لقد سمي هذا الوادي «بسهب الابيض» نسبة الى هذه الحجارة البيضاء الأخاذة ، في حين ان واديا اخر يقع الى الجنوب منه سمي «سهب الاسمر» نسبة الى حجارته السمراء وسطحه المعتم.
وهناك على ضفاف الوادي رحت اتفحص المكان بحثا عن «قلبان بني مرة» وقد افادني الاستاذ الدكتور زيدون المحيسن من جامعة اليرموك «ان المناطق الجنوبية والوسطى والشرقية كانت هامة في العصور القديمة، وتنبع هذه الاهمية من وجود مجموعة من الواحات كواحة الجفر، والازرق والعديد من الواحات من شمال غرب المملكة العربية السعودية، وكانت هذه الواحات سببا في استقرار مجموعة من القبائل العربية التي كانت تنعم بالاستقرار، فشكلت حضارة راقية ومتمدنة خاصة فيما قبل الاسلام، وقد سكنت هذه القبائل العربية العديد من الاودية واهمها «وادي السرحان» الذي يمتد من جنوب شرق الاردن حتى «دومة الجندل» في الجوف السعودي كما سكنت غيره من الاودية «كباير» و«الجفر» حيث كانت هذه الاودية في فترة ما قبل الاسلام تفيض بالمياه.
وقد ادت المسوحات الاثرية في عدة مواقع مثل الجفر وشرق الجفر على ان قبيلة «بني مرة» ومجموعة اخرى من القبائل منهم «الضجاعمة» و«السليح» و«بني جلق» وهي الغساسنة حيث حكم الملك الغساني «جفنة بن عمر» الذي حكم بين عامي 491م - 513م وقد كان هذا الملك يحكم مجموعة من القبائل ذكر منها بني مرة، وقد كانت وظيفة هذه القبائل العسكرية حماية القوافل القادمة من الجزيرة العربية باتجاه بصرى التي كانت عاصمة المقاطعة العربية الرومانية، كما كانت هذه القبائل تحمي المقاطعة العربية ومنها الاردن من النفوذ الفارسي «الساساني» وقد وجدت مجموعة من الفرق العسكرية التي كونتها تلك القبائل بحيث شكلت جزءا من الفيلق الثالث الروماني.
ويقول محيسن ان الاثار المادية الموجودة في الجفر فلم يظهر منها الا الكسر الفخارية، وبعض الكهوف والمدافن التي تظهر بطريق الصدفة، اما عن طريق الانجرافات، او تكشف عنها التيارات الهوائية حيث ان هذه المناطق تعرضت الى الرصف الصحراوي بعد انهدام سد مأرب وغطيت بالاتربة والرمال بعد ان انقطعت عنها الموارد المائية وتم تدمير البيئة المحيطة وخاصة الاشجار التي استعملت وقودا وحطبا.
قلبان بني مرة
وخلال تجوالي وبحثي هناك ظهر ذلك الموقع الذي كنت ابحث عنه، انه شعور خفي ينتاب الانسان حين يقف على موقع كان مكتظا بالحركة، والنار، والقهوة، وثغاء الابل، وصهيل الخيول.. اين ذهب هؤلاء؟ وما هذا الذي اراه من حجارة سوداء ضخمة بعضها كان يحيط بقبور مهيبة وبعضها الاخر كان يخفي اسفله آبار مياه نضبت وما عادت تطرقها الصبايا العربيات اللواتي كن يحملن اوعية الماء او يقدن قطيعا اضناه العطش؟
لا ادري ما سبب تسمية هذا الموقع «بقلبان بني مرة» فهل ان هذه القبيلة او احد فروعها سكنوا هذه البقعة قبل الاف السنين؟ ولعل اشكال الحجارة الضخمة السوداء التي انقلبت بفعل حدث لا زلت اجهله هو ما دعا البدوي على اطلاق اسم الوصف «قلبان» على المكان.. علما ان هناك من يسميها بأبيار بني مرة ويزعمون ان معركة وقتالا شرسا نشب بين افراد القبيلة من اجل الماء واحقية تملك تلك الآبار.
ان الرقعة التي انتشرت عليها تلك القبور وحجارة الابار بدت لي بعد ظهيرة ذلك اليوم بانها تكاد ان تفشي سرا من اسرار الصحراء حدث هذا عندما وقفت طيرة جميلة يطلق عليها «ام سلمى» على حافة احد القبور وراحت ترسل من خلال منقارها الحانا فيها من الحزن والكآبة ما يوحي برسالة غامضة لا يمكننا قراءة حروف واشكال نوتاتها.. انه لمكان يشعر فيه الانسان بضآلة معرفته بما قد حدث امس.
طريق العودة والانكسار
لعل تلك الدمعة التي لم تتحكم النفس في اغلاق مدمع العين خشية من اندلاقها هي التي عجلت في تركي للمكان عائدا غربا علني أصل الى «طويل شهاق» ذلك التل العظيم الذي يقع الى الجهة البعيدة المعاكسة لموقع بني مرة وفي طريق العودة بدت شجيرات جافة تتطاير متسارعة على سطح الصحراء مما ينذر باقتراب عاصفة رملية اعتاد اهل المنطقة هناك على استضافتها برحابة صدر. فالبدوي لا يمل الضيوف حتى لو كانت رمالا تثقب الجلد وتعبر في عمق المسامات.
لاحت لنا تلك العاصفة من بعيد على هيئة سحب رملية كثيفة ما أحال الرؤية الى شبه معدومة، مما يشكل احد المخاطر المتوقعة وهو عبور العربة احد المواقع التي اختزنت المياه، وفاضت مما يجعلها تغوص في عمق الوحل اللزج.. فتوقفت هناك مغلقا النوافذ مستسلما للعاصفة في الوقت الذي فقدت فيه الاتصال على الرغم من جوال غدت شاشته خالية من أية اشارة الى شبكة اتصال ما، بينما غابت ملامح الصحراء ولم اعد ارى غير زجاج النوافذ التي راحت تمتلئ بالرمال التي كان صوت ارتطامها بجسد العربة يبعث على الخوف والملل والعطش، والصقيع.