ما تزال آثار المسرحي السويسري ادولف آبيا ونظرياته حاضرة بقوة في المسرح المعاصر. فقد طور آبيا مجموعة من النظريات في كيفية التعامل مع خشبة المسرح على صعيد الديكور والاضاءة.
ظهرت ميول آبيا نحو المسرح منذ طفولته فما كان منه الا ان اخذ موافقة والده لدراسة الموسيقى حتى يستطيع ان يتقدم نحو مشروعه المسرحي. درس ادولف آبيا الموسيقى في جامعة (Vevey) في جنيفا كما درس الموسيقى في كل من باريس وليبزغ ودرسدن.
كان آبيا مأخوذا باوبرات واغنر (Wagner) ونظرياته في كيفية تجسيد الاوبرا، الا انه لم يكن معجبا في تطبيقات واغنر في واقع الممارسة العملية سواء بعرضها بمسرح البروسينيوم او باستخدامه الملابس المعقدة او المناظر المرسومة التي كانت تستخدم كديكور انذاك. عوضا عن ذلك اقترح آبيا ان يتم استخدام فضاء قوي يحقق وحدة فنية بين عناصر العرض المسرحي حيث تتكون هذه الوحدة من مزج ودمج كل من الممثل والفضاء المسرحي والاضاءة والموسيقى في وحدة متجانسة واحدة. لقد استنتج آبيا بأن عدم الوحدة في عروض واغنر ناتج عن استخدام العناصر المرئية بشكل يوتر الاعصاب حيث انه يوجد صراع بين كل من الممثل المتحرك والديكور العمودي والارض الافقية والاضاءة ، صراع بين كل عنصر مع الآخر. قام آبيا بالتنظير حول كيف ان الديكورات المكونة من المناظر المرسومة يجب ان تستبدل بها ديكورات تحتوي على الستائر والادراج والمصطبات والمنحدرات المائلة وهذه كلها يجب ان تنصهر مع حركة الممثل والارض الافقية.
اضافة الى ذلك اعترض آبيا على واغنر من خلال نقده له بأنه كان مقيدا في مفاهيمه حول كيفية تجسيد الاوبرا مسرحيا حيث كان يعتقد آبيا بأن واغنر كان ساذجا في توقعه بأن الطبيعية يمكن ان تمثل على خشبة المسرح بتأثيرات واقعية حيث ان واغنر كان آنذاك متأثرا بالمذهب الواقعي والطبيعي، كما انه كان منظرا للرمزية على خشبة المسرح كما فعل جوردون غريغ من بعده. اي ان الديكور والاضاءة يجب ان يكونا موحيين ومعبرين بعيدا عن المباشرة وان المتلقي هو طرف بالعملية الابداعية يكمل المشهد في خياله. أيضا ترك لنا آبيا مبدأ آخر مهما جدا حول حيثية تصميم الديكور لغاية اليوم، الا وهو تنظيره حول «وجوب ازالة كل الاشياء غير الضرورية وغير الموظفة من على خشبة المسرح» . هذا هو ما يجعلنا احيانا نقول حين نحضر مسرحية ما ممتلئة باشياء جميلة ولكنها غير موظفة بأن مصمم اليدكور قد فشل في تصميمه لوضعه الزوائد غير الموظفة على الخشبة، وهناك تعبير يصر عليه المسرحيون بانه لا يوجد شيء مجاني على خشبة المسرح وهذا التعبير اتى من آبيا ومن وافقه الرأي لاحقا.
وتميزت تنظيرات آبيا بالنسبة للديكور المسرحي في التحويل الجذري لما كان سائدا بداية القرن العشرين من حيث استخدام المناظر المسرحية المرسومة (ثنائية الابعاد) واستبدال ديكورات ثلاثية الابعاد بها. كان تنظيره في هذه المنطقة ينص على ان الممثل الذي يعتبر اهم عنصر على خشبة المسرح هو ثلاثي الابعاد فلا بد ان يكون الديكور الموجود على الخشبة ثلاثي الابعاد ايضا حتى يخلق تجانسا مع العنصر الاهم على الخشبة. وقد رأى آبيا ان الاضاءة هي القادرة على ان توحد كل الاشكال ثلاثية الابعاد في البيئة المشهدية سواء المتحركة او الثابتة. كان الممثل برأي آبيا هو شكل نحتي يجب ان ينسجم مع جميع العناصر المنحوتة الاخرى. ومن اجل تحقيق الوحدة الفنية اقترح آبيا ايضا اسلوبا للتمثيل يكون الممثل فيه من خلال حركاته الايقاعية وايماءاته اقرب الى الرقص وليس متقمصا للشخصية. هنا يلتقي آبيا مع الروسي فيسفولد ميرخولد في مفهوم التمثيل المعارض لمفهوم الروسي ستانسلافسكي الذي كان مسيطرا في بداية القرن العشرين ولغاية يومنا هذا باستثناءات قليلة.
اما التنظير الاخر المهم الذي تركه لنا آبيا في ميراث المسرح فكان تنظيره حول ما يتعلق بالاضاءة، بداية حرر آبيا الاضاءة من وظيفتها الاولى المنحصرة في تسليط الانارة على الممثل والديكور وذلك باضافة مجموعة وظائف اخرى:
اولا: ان الاضاءة قادرة على تحديد الزمان في فضاء المسرح ليلا نهارا وصيفا شتاء.
ثانيا: ان الاضاءة قادرة على اثارة العواطف تماما كالموسيقى، فكما ان الموسيقى تعبر عن المزاج العام للمشهد و تعكس المعاني العميقة للحدث كذلك هي الاضاءة: حين تسلط الانارة على كتلة ما فان خاصية الضوء المتمثلة بالكثافات المتراوحة تستطيع ان تلبس الكتلة بكل التضمينات والتلميحات العاطفية.
ثالثا: استخدم آبيا قابلية الاضاءة المسرحية لأن تكون مرتبطة بشكل اساسي مع كل حركة يقوم بها الممثل فالاضاءة تستطيع ان تتحرك وتنتقل مع الممثل وتساعد على التأكيد الدرامي المطلوب بتغيير اللون او الكثافة: اي ان الاضاءة تستطيع ان تظهر او تخفي اي جزء من الممثل او الديكور حسب الاهمية الدرامية. بهذا الشكل يكون آبيا قد حدد شكلا لاستخدام الضوء لا يختلف ابدا عن النوتة الموسيقية.
رابعا: الاضاءة تستطيع ان تعلق على الحدث وتأخذ موقفا منه.
نستخلص من هذه النظرية بأن الاضاءة لغة مسرحية لا تقل قيمة عن اللغة المنطوقة او اللغة الموسيقية ولكن لكل منها ادواته الخاصة لتوصيل الرسالة الى المتلقي.
ولد ادولف آبيا في مدينة جنيفا بسويسرا عام 1862 وتوفي عام 1928م. كان والده لويس آبيا يحتل مركزا اجتماعيا مرموقا حيث كان يعمل طبيبا وينسب له انه اول من اسس الصليب الاحمر في العالم. الا ان هذه المكانة الاجتماعية لم تعكس نفسها في واقع تربية ابنائه اذ انه كان من النوع الصارم الذي يترك مسافة بينه وبين ابنائه حيث كان يتم منعهم من رؤيته. لقد تركت هذه التنشئة اثارها على ادولف آبيا حيث وصف بأنه شخص خجول ومرتد الى ذاته اضافة الى ان آبيا كان يعانى من مرض الفأفأة الذي ساهم ايضا في تحديد شخصيته الانعزالية.
* ممثلة ومخرجة مسرحية أردنية