فيلم الأسبوع .. «ليلة سقوط بغداد» النوايا الطيبة لا تصنع فيلما .. بقلم : يحيى القيسي*

فيلم الأسبوع .. «ليلة سقوط بغداد» النوايا الطيبة لا تصنع فيلما .. بقلم : يحيى القيسي*

ما الذي اراد المخرج والمؤلف المصري محمد أمين أن يقوله لنا في فيلمه الجديد «ليلة سقوط بغداد»..؟
وكيف عالج الرجل بكتابته وإدارته لفريق العمل جرحا طريا ما يزال ينز إلى اللحظة ؟
كنت أحسب أني ذاهب لمشاهدة فيلم وثائقي مثلا، وخطر في ذهني عمل الأميركي مايكل مور عن أحداث (11 ايلول)، وأسرار بوش والحرب على العراق، ولكني وجدتني وسط فيلم كوميدي الملامح، فانتازي الصياغة، يجتهد في أن يوصل إلينا رسالة ما، ذات بعد جاد، وسط سيل أفلام الموجة التجارية في مصر، التي تجتهد في تقديم ما يرضي جمهور المراهقين أولا وأخيرا، وكسب شباك التذاكر.. ولكن السؤال: هل نجح في ذلك ؟
شغل فيلم «ليلة سقوط بغداد» السينمائيين في مصر هذه الأيام، ودفع بعضهم الى تصنيفه بأنه للكبار فقط تجنبا لمنعه، أو حذف مشاهد منه وهذا ما ساهم في الإقبال عليه، وهو الفيلم الذي مثل مصر في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير، و خرج بجائزة الجمهور والنقاد، وهو من أداء الممثلين حسن حسني، أحمد عيد، بسمة، هالة فاخر، نبيل الهجرسي، وغيرهم، وهذه هي التجربة الثانية للمخرج أمين بعد (فيلم ثقافي)، ومن الواضح أن الرجل اختار السير في حقل صعب، حيث المواضيع الجريئة، أما حكاية الفيلم فهي تتناول عائلة مصرية يقودها شاكر (حسن حسني)، وهو مدير مدرسة ثانوية، ولديه ابنة (بسمة)، وزوجة (هالة فاخر)، والرجل واقع تحت تأثير ما شاهد من أحداث حربية أطاحت ببغداد، بثتها التلفزيونات، وفيما تتواصل بين الحين والآخر الإشارات إلى الضغط على دول مثل سوريا وإيران وغيرها، تبدو هواجس الرجل ذاهبة إلى أن مصر مرشحة لأن يدخلها المارينز أيضا، وتبدو صور «أبو غريب» المؤثرة القشة التي قصمت ظهر طمأنينته، والرجل يحاول أن يفكر بأمر ما ينقذ فيه مصر قبل أن يصلها الطوفان الأميركي، وهكذا يبحث عن أبرز تلميذ كان في مدرسته ذات يوم في مجال العلم والاختراعات، وهو طارق (احمد عيد) ويجده غارقا في التحشيش، فيلجأ إلى تبني قدراته، ودعمه عله يصنع سلاحا قويا يتجنب به الهجوم على البلاد، ولكن الحكاية كلها لا تصمد أمام الواقع، ولهذا نأخذها على محمل التخيل أو الفانتازيا رغم أن صياغة الفيلم لم تنجح في إظهار طرق مقنعة لزجنا كمشاهدين في هذه الحكاية، وعموما فإن شاكر الوطني، يتبنى طارق، الغارق أيضا في خيالاته الجنسية كشاب مكبوت، والذي يلجأ لحلها عبر الزواج من ابنة شاكر (بسمة)، وتصل حكاية الاختراع العجيب إلى المخابرات الأميركية، التي تحاول أن تتبنى طارق، وتثنيه عن عزمه، ولست ضليعا في نقل الحكاية حتى النهاية، ولا راغبا بإفساد متعة المشاهدة لمن يرغب، ولكن أود أن أطرح الملاحظات التالية على هذا العمل :
لجأ (الناظر) المتحمس إلى شراء المخدرات ليزود بها طارق، على نظرية أن «الغاية تبرر الوسيلة»، وأن القضايا العظيمة تحتاج إلى تضحيات، ولكن هل يكون ذلك بالوسائل غير الشريفة لا سيما وأنه أهلك عمره في تربية الأجيال، ثم لجأ إلى تزويج ابنته أيضا بطارق، ثمنا لاختراعه المرتقب إنقاذا لمصر..، كذلك بدت زوجته وأمه وابنته (المجتمع النسوي) عاجزات عن أداء أي دور إيجابي يذكر، وكان يقوم بقمعهن بفظاظة عند أي محاولة منهن لإبداء الرأي في مشاريعه، فهو «سي السيد»، أما الأجهزة المصرية فقد كانت غائبة تماما عما يجري في بيته من تدريب على السلاح، والرماية، وغير ذلك، وفقط انتبهت له السي آي إيه...، وعلى فرض قبولنا بأن كل ما جرى هو عبارة عن كابوس أصاب الرجل، فهل يستمر الكابوس مثلا بكل هذا التنظيم، وحتى نهاية الفيلم، وهل كل الشخصيات إذن مخترعة بالكامل لصالح هذا الكابوس، ألا يستيقظ الواحد منا من الكابوس أحيانا..؟
أما ثيمة «الجنس» بديلا عن الصراع الحربي أو الثقافي، فقد بدت غاية في الطرافة، والتطرف، وهل علينا أن نعود إلى رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، ونرى مصطفى سعيد وهو يغزو الإنجليز بفحولته بدلا من البحث عن طرق أخرى..!
إن ما يبدو لنا إذلالا لكرامتنا، قد يكون عند غيرنا من الثقافات والأمم متعة، وسيبدو لهم الفيلم هنا متهافتا، ومثيرا للشفقة من هذه الناحية.
ولكن ما هو موقف المخرج محمد أمين من هذه المسألة، يقول في المؤتمر الصحفي الذي تلا عرض الفيلم في القاهرة «إن الآخر هو من دفعني إلى الرد عليه بنفس أسلوبه، الأمريكيون سربوا صور أبو غريب لكي يكسروا أعيننا، وأنا أعرف أن داخل كل منا رغبة في الانتقام منهم بنفس الأسلوب».
إذن المسألة متعلقة بما يسمى «كسر العين»، وهو مصطلح شعبي، يعتقد فيه الذكور أن الجنس إهانة، وفتح عسكري موجه ضد المرأة، وليس عملا إنسانيا ينتمي إلى اللذات الممتعة، التي خلقها الله، لهذا جاء المخرج بممثلة مجهولة، بدت خريجة إحدى الكباريهات، من رقصها المتهافت بالبكيني، وأقنعها بأن تلبس في دورها لباس فتيات المارينز الأميركيات في أحد المشاهد الساخنة ، وهذا فقط ما جعل عريسها العنين ينتفض لرد شرفه المستباح، ويقدم على «اقتحام أسوارها المنيعة»، وربما ينادي «يا لثارات العرب»..!
لم تثر إعجابي أبدا طرح مثل هذه القضايا العظيمة بمثل هذه الحلول الوضيعة، وكنت قد تورطت مؤخرا بفيلم «السفارة في العمارة»، وظنه بعضهم فيلما في النضال العتيد، ولكنه سقط أيضا في مستنقع السخرية، وتتفيه ما دفع الشهداء دماءهم لأجله..!
إن النوايا الحسنة لا تصنع فنا عظيما، ولا حلولا سحرية لمشاكلنا، ولا تكون مقبولة إذا ما تبنت القضايا الكبرى بطريقة ضعيفة، لقد بدا الممثلون منساقين وراء فكرة عاطفية بناها الكاتب في خياله، ورغب في أن يطرحها كما هي من دون تشذيب، ولا إخضاع للمنطق، ولا إلى الفن أيضا..!
لجأ المخرج إلى توظيف بعض الأغاني الحماسية مثل «خلي السلاح صاحي»، وغيرها أثناء عرس، وفي بعض مقاطع الفيلم، وبالفعل بدا الأمر ثقيلا، وغير قابل للاحتمال، ولكن الأمر سار بغير ما هو في الوضع الطبيعي إذ انطلق أصحاب العرس والحضور هاتفين في ما يشبه المظاهرة، وهكذا بدا أننا قوم يحركهم طبل، وأن العاطفة وحدها ما نستند عليه، وهناك إشارات كثيرة لهذا الأمر من الفيلم.
أخيرا أسوق لكم رأي المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد بعد مشاهدته الفيلم مخاطبا المخرج أمين بأنه تفوق على الأمريكيين أنفسهم، وأن مثل هذا الفن الذي تقدمه السينما المصرية تبرهن به على أنها لم تصبح تجارية فقط، بل هي أقوى سلاح رادع.
بقي إذن الرأي في النهاية للجمهور ليعرفوا أين تكمن الحقيقة عبر المشاهدة المباشرة، وليكتشفوا أيضا كيف يمكن لموضوع واحد عندنا نحن العرب أن ينال الرضا والسخط معا، في ظل مقاييسنا الفضفاضة، وميلنا الجامح الى المجاملات والوقوع في السفسطة..!
* كاتب اردني