لم يشأ عباس أن يصارح صديقه الذي يماثله في اسمه بشعور الحسد الذي تسلل إليه، لما سمع منه أنه لم يعان في حياته ولو لمرة من أي أوجاع في أسنانه، وأنه اعتاد أن يزور طبيب الأسنان لتنظيفها وفحصها فقط. وكان الشعور الذي انتاب عباس حقيقيا وقويا من فرط ما يغالبه في حياته من مشكلات مع أضراسه، إذ طالما خلع وأصلح بعضها، وطالما ركب جسورا وأسنانا بديلة، ولم ينه ذلك كله قصته الطويلة معها.
قال صاحبه عباس له أنه كان عليه منذ صغره أن يعتاد على تنظيف أسنانه جيدا صباح ومساء كل يوم، وعلى استخدام المعاجين اللازمة والجيدة، وعلى مراجعة طبيب أربع مرات أو أكثر في العام، وعلى غسل أسنانه يوميا بالمحاليل الموصوفة من الطبيب، وعلى توزيع المضغ عند الأكل بين الفكين، وعلى تفادي المكسرات القاسية.
أسهب عباس في شرح هذه النصائح التي فات أوان الأخذ بها، ظل غيظ صديقه يزداد وهو ينصت لهذه اللوازم التي كان عليه أن يتبعها، فلا يصاب بالذي فيه من متاعب مع أسنانه وأضراسه، وهو في منتصف العقد الرابع من عمره. وفيما زيد على غيظه شعوره بالحسد، كان عباس يتطلع إلى أسنان صديقه، حين يزيد ويعيد في الكلام أو يبتسم أو يضحك : بيضاء تماما، لا صفرة فيها أبدا، منظمة ومنسقة وقوية ومكتملة.
تجيز علاقة عباس بصديقه عباس عادة أن يصارحه بما في خواطره، ذلك أن حبال المودة بينهما وطيدة منذ تعارفا قبل نحو عشرين عاما، لما كانا معلمين في المدرسة الإعدادية نفسها، حافظا على صداقتهما التي استمرت، وزادت متانة بعد أن غادر عباس مهنة التعليم نهائيا، وسلك سبيله إلى التجارة فصار له محل لبيع الأقمشة، يجلسان فيه في هذه الظهيرة التي يستمع عباس في أثنائها إلى ما كانت تستحقه أضراسه وأسنانه من عناية.
بقي عباس معلما، ولا يزال، يكفيه راتبه لمعيشته مع زوجته وبناته الثلاث ووالدته، يعتبر نفسه مستورا، ويحمد الله على نعمته، يؤدي الصلوات الخمس، ويقضي أوقاته فيما لا يغضب الله، يأنس إلى صاحبه عباس، ويراه رجلا وفيا، ما بخل عليه في حاجة، ولا ضن عليه بشيء إذا ما طرأ مكروه، يتبادلان الزيارات المنزلية، وكذلك تفعل زوجتاهما. لم يحدث أن أيا من بنات عباس سألت والدها عم يجعل منزلهم أقل سعة وبهجة من منزل عمها عباس، ولم يحدث أيضا أن زوجته طلبت منه أن تجاري في شيء ما تشتريه امرأة صديقه لنفسها.
لم يحدث مرة أن زعل أي الصديقين من الآخر، غير أن خاطرا جاء إلى عباس هذه المرة أنه إذا أبلغ صديقه أنه يحسده فعلا على قوة أضراسه ونضارة أسنانه، لربما ظن أن هناك أكثر من حسد في نفسه من أمور أخرى، فمن يحسد صاحبه على أسنان نظيفة وسوية، لربما تخامره حالة الحسد نفسها على معيشة هانئة ونعمة وفيرة. لم يشأ أن يبوح بالذي في نفسه، وكان قد فاتح صاحبه قبل أسبوع بوجوب أن يؤدي الصلوات الخمس، ولا يكتفي بصلاة يوم الجمعة وصيام رمضان فقط، قال له أن الله هو الرزاق والمعطي ويحب أن يحسن له عبده بالصلاة والدعاء، لم يشعر أن امتعاضا كبيرا تسرب إلى خواطر صاحبه، وإن أظهر شيئا من التبرم، لا سيما وأن الرجل صاحب سمعة طيبة، ولا يقصر في إعانة محتاج يسأله مساعدة يستطيع تأديتها.
ظن عباس أنه إذا فعلها هذه المرة وباح لصاحبه القديم تاجر القماش بحسده هذا، فإن أمرا ليس هينا سيعتري حبال المودة الطويلة بينهما، استمع مكرها إلى النصائح التي لم يقيض له أن يعمل بها ليحمي أسنانه وأضراسه، ثم استأذن بالانصراف، ونهض وودع صاحبه وعلى محياه تقطيبة، لم يسأل مضيفه عن أسبابها، ولم يحاول أن يزيل الغمة التي تلم بصديقه، بل سلم عليه مبتسما لما ودعه عند باب المحل، وكانت زبونتان فيه تهمان بسؤاله عن أنواع من الأقمشة وأسعارها.
حدث عباس نفسه، فيما خطاه على رصيف الشارع، متعجبا مما ظل عليه صاحبه تجاه أسنانه وأضراسه، داوم طوال سنين على غسلها وتنظيفها مرتين في اليوم، عدا عن مرات أخرى إذا ما لزم الأمر عند تناول أي حلويات أو سكاكر، كما جاء في حديث الظهيرة، عجب مما مكث عليه صديقه منذ أكثر من ثلاثين عاما. قلب المسألة على أكثر من وجه، وبان له أن الأمر قد يعود إلى ما يعرفه أصلا في صاحبه من دأب في سعيه إلى ما يريد. يتذكر أحاديثه إليه قبل سنوات عن نيته ترك التعليم ومغادرة الوظيفة الحكومية إلى ما يطور من وضعه في الحياة، إلى التجارة أو غيرها. ثم أعطاه الوهاب ما أعطاه، ووفقه في توسيع رزقه وتحسين عيشه، على غير ما ظل عليه حال الذي قنع بالمقسوم والنصيب، ورأى أن تربية بناته على الستر وتقوى الله خير وأبقى، فلم يعمل على تعديل مسار عيشه، ولا على تحرير أيامه من رتابتها، وكانت السنين تمضي لا تنغصها إلا الحاجة إلى إمساك اليد في بعض الظروف، فيما ظلت أوجاع الأضراس والأسنان تكدر المزاج في أثناء توالي الأيام.
* قاص أردني مقيم في الامارات
