ابتداء، حبذا الإشارة إلى أن الدراسات التي خصصتها حركة النقد الحديث في العالم العربي للأسلوب قليلة جدا من الناحية الكمية، بل هي قليلة إلى الحد الذي يثير الشعور بالاستهجان. وأما من الناحية النوعية، فإن تلك الدراسات أقرب إلى الترجمة منها إلى التأليف، إذ قلما يتبدى عليها أنها نتاج لتأمل متأن عميق، أو لتحليلات طويلة، هدفها استنباط الصلات القائمة بين اللغة والأدب، أو بين الشعور والكلمة.
ومن الغرائب أن يستتب هذا القصور، مع أن النص الأدبي هو نسيج لغوي سداة ولحمة، بل هو لا يسعه إلا أن يكون لغة، وإلا فإنه لن يكون بتاتا. وبالإضافة إلى هذا، فإن التراث العربي القديم مشهور بشدة اهتمامه باللغة وبالدراسات اللغوية، وذلك نظرا لحاجة الإنسان العربي إلى استيعاء القرآن الكريم محكم الصياغة من الناحية الأسلوبية أو اللغوية. والحقيقة أن كتاب «أسرار البلاغة» لعبد القاهر الجرجاني قد أرسى الأسس الأولية لدراسة الأساليب، وعلى نحو مثير للإعجاب.
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى مفكر أدبي فذ قادر على أن يبين لنا متى يكون الأسلوب أصليا، ومتى يكون زائفا خلبا وبغير قيمة، أو أن يكشف عن السمات التي يؤدي حضورها إلى الجودة اللغوية مثلما يؤدي غيابها إلى رداءة النص الآتية من فساد الذوق.وأيا ما كان جوهر الشأن، لا بد من تعريف معياري للأسلوب، أقصد أن يكون التعريف وثيق الصلة بالمزايا والمثالب في آن واحد، أي شديد الارتباط بمفهوم القيمة حصرا . ولهذا أراني على الدوام أقدم هذا التعريف: إن الأسلوب هو الحيازة الخاصة لما هو عام، أي اقتراب فردي من اللغة التي هي ملك جماعي مشاع يشمل الناس كلهم. ويترتب على ذلك أن الأدب العظيم، أو الفريد، قلما يكون له وجود ما لم يكن هنالك توظيف خاص للغة، أو لطاقاتها التي لا يحوزها أحد إلا بواسطة غريزة سرية خاصة لا يؤتاها إلا من اصطفته الأقدار على نحو مستور. وفي الحق أن الأسلوبيين العظام طوال التاريخ، سواء عندنا أو عند غيرنا، هم حفنة صغيرة من الأفراد.
* * *
مما هو معلوم أن الكلمة التي يستعملها الغربيون لتدل على الأسلوب مأخوذة من كلمة لاتينية معناها «القلم». وهذا اشتقاق مناسب للمعنى المقصود، أو قل إن هنالك صنفا من أصناف القرابة بين القلم والأسلوب. ولكنني أتساءل عن أصل كلمة «الأسلوب» العربية فهي تبدو للوهلة الأولى كما لو أنها مشتقة من «سلب». وهذا فعل ثلاثي لا يتضمن سوى معنى السلب والنهب والابتزاز. ولهذا، فإنه لا يتناسب مع الفحوى الذي تتضمنه كلمة «الأسلوب». إذن، كيف أمكن لهذه اللفظة أن تجئ من فعل السلب؟ ترى هل الكلمة العربية مأخوذة من أصل بابلي، أو أكادي أو سومري؟ أهي من جذر عربي وقد التبس أمرها؟ لست أحسب أن في حوزة المكتبة العربية ما يكفي من الدراسات المتخصصة بأصول الألفاظ العربية نفسها. ولهذا، لا يبقى سوى التخمين.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن كلمة «الأدب» العربية، على ما أتوهم وأخمن، ذات منشأ سومري. فقد اعتاد السومريون أن يطلقوا على المكتبة اسم «إيدبا» أو ربما «إدبا». وهذه كلمة سومرية مركبة من كلمتين: إي ومعناها البيت، ودبا ومعناها الحكمة: فكلمة «إيدبا» السومرية معناها بيت الحكمة . وأغلب الظن والتخمين أن هذه الكلمة قد تطورت مع الزمن وغيرت لفظها، كما غيرت معناها في الوقت نفسه، فصارت «الأدب»، وما عادت تعني بيت الحكمة، وإنما الحكمة نفسها. وربما مرت باللغة الأكادية أولا، ثم باللغة السريانية ثانيا، وهما لغتان كانتا واسعتي الانتشار في آسيا الغربية قبل اللغة العربية بكثير. ومما هو جد محتمل أن تكون كلمة «الأسلوب» قد دخلت إلى اللغة العربية بهذه الطريقة، وربما جاءت من لغة قديمة كانت واسعة الانتشار في منطقتنا خلال طور من الأطوار التاريخية الغابرة.
* * *
وأيا ما كان الحال فإن في ميسور المرء أن يظن بأن لكل فرد، ولا سيما لكل كاتب أدبي كبير، أسلوبه الخاص الذي تندرج فيه جميع الصفات الكبرى لشخصيته أو لفرديته. بيد أن هذه الحقيقة ليست أهم ما في الأمر، لأن أهم ما في الأمر أن لكل عصر تاريخي أسلوبه الكتابي الخاص. ولكن، مع أن ثمة أسلوبا عاما لأي جيل من الأجيال الأدبية، فإن هنالك أساليب متباينة بقدر تباين الكتاب المنتمين لذلك الجيل نفسه. فمثلا، يسعك أن تتحدث عن أسلوب أموي عام، ولكنك تملك، في الوقت نفسه، أن تبين الفروق الناصعة بين كل من جرير والفرزدق وذي الرمة، على مستوى الأسلوب حصرا. فالأول أسلوبه دمث أو ناعم، والثاني شديد الصلادة، والثالث إنابة إلى الأسلوب الجاهلي الخشن كتضاريس الصحراء التي أفرزته أو جعلته ممكنا .
وقد لا يفوتك، إذا ما قرأت شعر ذي الرمة بأناة، أنه يكتب بأسلوبين متباينين: الأسلوب الجاهلي، وهو الأكثر حضورا في ديوانه، والأسلوب المدمث الناعم الشبيه بأسلوب جرير، والذي أسس لأسلوب كل من بشار وأبي نواس وأبي تمام. ولا ريب في أن هذا الأسلوب الثاني متأثر بالقرآن الكريم، أو حصرا بالأسلوب التصويري غزير الحضور في الآيات الكريمة. ولعل أهم ما أود قوله في هذا السياق هو أن أسلوب عصرنا الشعري، الجانح نحو التجريد، أو نحو الجفاف اللغوي الذي ينتجه ضعف في الذائقة، أو في النزعة التلقائية، قد لا يصلح كثيرا لإنتاج أدب خالد عظيم، أو صالح للقراءة بعد مئات السنين. وعلة ذلك أن أسلوب شعرنا الراهن يفتقر إلى المزيتين اللتين لا بد منهما لكل لغة أدبية متميزة. أما أولاهما فهي الرشاقة، وأما ثانيتهما فهي النصوع أو الإشراق.
وبالسمة الأولى تتخلص اللغة من ثقلها أو من بلادتها. وبمثل هذا الفعل تتخلص النفس حصرا من تجهمها، أو مما يستتب فيها من ثقل وجلافة وسوء حال. وبالسمة الثانية يضاء النص من الداخل ويتحول إلى قوة تحرير ، أو إلى قدرة على تسريح النفس من إسارها وإطلاقها في الفضاء الشاسع الرحيب. وهذا يعني أن المعيار لا يجوز إرساؤه إلا في النفس بالضبط.
فلعل مما هو مقبول أن سمات الأسلوب الحي هي سمات النفس المفعمة بالحيوية. فالنفس تعشق النضارة والإشراق في كل شيء، ولهذا كان لا بد للأسلوب الجيد من أن يضفي النضارة والحيوية الى جوف النفس. ولكن لا بد للمرء من أن يحذر كي لا تنطلي عليه الضحالة أو الهشاشة. ولهذا، لا بد من التأكيد على أن الأسلوب الحي البهي هو ذاك الذي يتصف بالمتانة واللدانة في آن معا. فالمتانة بغير لدانة لن تكون سوى تصلب أو تشنج، واللدانة بغير متانة ليست إلا غضاضة أو ميوعة يرفضها الذوق السليم. ولهذا كان لا بد من اتحاد الضدين في صيغة واحدة لكي تكون هنالك حيوية أو إنجاز جليل. وربما جاز القول إن تدهور الأسلوب الأدبي في عصرنا الراهن لا علة له سوى تدهور قيمة الإنسان الذي أعلنت الفلسفة الأوروبية عن موته منذ نصف قرن، أو زهاء ذلك. إن عصرنا شاحب موحش، وأحيانا مقزز، وإن أسلوب الكتابة فيه لا يملك إلا أن يكون مثله تماما، إذ إن العمل صورة العامل، وإن أسلوب كل عصر هو صورة عن ذلك العصر نفسه. وقد لا أبالغ إذا ما زعمت بأن في ميسور الناقد الألمعي الحصيف أن يستنبط الكثير من أحوال المجتمع والسياسة والاقتصاد إذا تأمل الأسلوب السائد في أي زمان أو مكان.
* * *
حبذا أن أقدم مثالا صغيرا يرمي إلى تبيان ما فحواه أن لكل عصر أسلوبه الخاص، سواء في الشعر أو في النثر. كما أن لكل مكان أسلوبه الخاص أيضا. وليكن هذا المثال بيتا من الشعر لمحي الدين بن عربي:
«سألتهم عن مقبل الركب قيل لنا
مقيلهم حيث فاح الشيح والبان»
قبل كل شيء سوف أعبر عن ارتيابي في أن يتمكن زماننا هذا من إدراك أصالة الحنين الراخم في هذا البيت الشعري النادر. ومما هو صادق في ذهني أن عنصر الحنين الذي يؤسس الشطر الجيد من الشعر التراثي هو عامل من أبرز العوامل التي كانت توجه الأسلوب في ذلك الشعر نفسه، أما عصرنا الذي يقيم الوزن للتجريد والتهويم، وليس للوجدان والعاطفة، فإن أسلوبه يتخذ صيغة أخرى، أو نمطا شديد الاختلاف.
قد لا يصادف المرء عبارة مثل «مقيل الركب» في نص أدبي ينتمي إلى أواخر القرن العشرين، وذلك لأنه لم يعد هنالك ركب ولا مقيل، ويصدق المذهب نفسه على هذه العبارة كذلك: «فاح الشيح والبان». فربما صح القول إن غالبية الناس في زمننا الراهن لا يعرفون الشيح ولا البان، بل قد لا يعرفهما إلا المختصون بعلم النبات. وهؤلاء قوم نادرون إلى حد بعيد. فمما هو مؤكد أن الشذرات التعبيرية التي تتلاحم كي تنسج النص الأدبي، إنما يستمدها كل عصر من نسيجه الخاص، أقصد من طبعه أو من مجمل ظروفه التي تشرطه دون سواه من العصور التاريخية.
* * *
قد لا يفوت المهتمين بالأدب العربي أن أسلوب العصر الجاهلي، الجانح صوب اللفظة الخشنة والجملة الصلبة المتينة، هو أسلوب شديد الاختلاف عن أسلوب العصر الأموي الجانح نحو صياغة جملة لها مزيتان، هما الرصانة واللدانة في آن واحد، وإن أيا من هذين الأسلوبين يختلف عن الأسلوب العباسي المبكر، وهو النازع صوب العبارة المصقولة التي لا تخلو من اصطناع. وقد تبدى التليف على الأساليب الشعرية والنثرية ابتداء من القرن الثاني عشر الميلادي. فمما لا يفلت من شبكة الذائقة أن نصف الشعر الذي تركه ابن الفارض مثلا يأكله التخشب أو النقص في الحيوية والفتاء. فلا خلاف على أن الروح الشاب له لغة شابة.
ومما يقبله الجميع تقريبا أن أسلوب الزمن الحديث مباين لجميع الأساليب القديمة، لأنه يمنح الأولوية في الشعر لمبدأ التلميح بدلا من التصريح، ولهذا فإنه بعيد جدا عن التلقائية التي لا حياة للنصوص الأدبية إلا بها. أما في مضمار النثر، ولا سيما الرواية، فثمة في الغالب الأعم، أسلوب شديد الشبه بأساليب الصحافة. وهو أسلوب غير أدبي، لأنه فقير إلى الشاعرية، أو إلى الانزياح. ولعل أهم تحد تواجهه الحركة النقدية العربية اليوم هو دراسة هذه الأساليب والكشف عن تباين خصائص كل منها، وكيفية نشوئه وتطوره، والعوامل التاريخية التي أدت إلى تشكيله، ثم علاقته بروح عصره، أو بالخصائص الكبرى لذلك العصر. وفي تقديري أن المؤسسات الثقافية لم تنضج بعد إلى الحد الذي يمكنها من النهوض بهذا العبء الباهظ، أو بهذه المهمة الجسيمة. ويبدو أنه لا بد من الانتظار.
*ناقد فلسطيني مقيم في سورية