الى بسمة النسور
على الرغم من كونـ(ي) كنت موصدا بفصاحة على نفسـ(ي) مثل البلاغة القديمة داخل هذه الغرفة الباردة اكثر من جسر صوب البحر، فلم اكن - كما تقتضي اعتباطية السياق والوهم المرجعي المصاحب لها - لوحد(ي) تماما:
فقد كان ثمة جهاز (V.C.D) يكشر عن شهقة الجاز. وكان ثمة كرسي يمد ارجله الاربعة على طريقة «ابو حنيفة».
ايضا، كان ثمة نافذة بقياسات محبطة. وكان ثمة ستارة بلغت من البياض ارذله.
اما الساعة الحائطية المعطلة منذ ما لا يدري احد والمروحة التي تذعن لاجازة مفتوحة، فقد كانتا مباشرة فوق دولاب مبقور البطن.
وبالاضافة الى الصنبور الذي كان يحرز ارقاما باسقة في التنقيط (لأنك نسيت - بخلاف العادة - احكام غلقه قبل ولوجك الى الغرفة على ما يبدو!)، فقد كان ثمة شراشف وملاءات شيمتها الفوضى.. صص جميلة كالمعاصي.. كتب ومزق جرائد بعشوائية لا تغتفر.. مشجب اجرد على الاطلاق.. وملابس من مختلف الفصول كالزغب المقصوص.
هذا دون اغفال حقيقة السفر المتزوية بعيدا في اقصى مهنة الظلام من اجل ممارسة افضل للعزلة.
وطبعا - وكما هو ضروري لديكور قصصي بالغ التجريب يدعي بوقاحة انه يندرج ضمن خانة «ما بعد السرد»: فقد كان ثمة - ايضا - دخان كثيف وسعال جيد.
هنا، وعلى بعد امتار وجيزة منـ(ي)، كنت تزاول السرير. النصف السفلي مضمر في سخونة البطانية. العمود الفقري ينعم بدعم لوجستيكي وافر من احدى الوسائط. والرأس مثل كوبرا مقلنسة تجسيد عملي لفكرة الاطراقة. اطراقة عميقة لرجل عاد لتوه من الايقاع الطاحن لآلة الحياة كي يجد الارق (شخصيا!) جالسا في المقعد الاول لقاعة جسده.
هنا، في كنف هذا الفضاء المكاني المستعار مع تعديلات طفيفة للغاية من النمط الحقيقي لعيش المؤلف. عرضة لمصباح جانبي يقترح ضوءا متعافيا وتحت رحمة الاحابيل الغامضة مثل الهيرمنوطيقا لرواية مدهشة («الحياة الجديدة» لاورهان باموف اذا لم تحنـ(ي) ذاكرة التلصص!)، كان من الممكن ان تسرف في القراءة الى ان يغزو يقظتك كل نعاس العالم وتنام. عندئذ كان كل شيء سينتهي بحياد مطلق وعلى نحو موضوعي خالص، لكن تلك البرهة الضئيلة التي اخرست فيها القراءة، ووضعت الرواية جانبا.
هل لتحرق سيجارة اضافية عن طيب رئة، وتطير عاليا.. عاليا في اتجاه السقف دخانها باجنحة لا مرئية؟!
اذا كان الامر كذلك، فشكرا للسجائر!
هل لتشغل ورشة يدك القاتلة، وتسدد ضربة دامغة.. دامغة للذبابة التي جنحت الى ارنبة انفك؟!
اذا كان الامر كذلك، فشكرا للذباب!
هل لتبحث عن قرص اسبرين طائش، كي تطفىء حفنة من بلدوزرات رأسك الهادرة.. الهادرة؟!
اذا كان الامر كذلك، فشكرا للاسبرين!
ام هل لتتيقن - كعادتك المرضية في الحرص - انك وضعت فـ(ي) المفتاح فعلا، واغلقتنـ(ي) جيدا.. جيدا على نحو لا يقبل الدحض؟!
اذا كان الامر كذلك او حتى اذا لم يكن كذلك، فشكرا.. شكرا جزيلا للابواب!
المهم، ان تلك «البرهة الضئيلة» كانت كافية بالنسبة لـ(ي) للاسترسال في الحكي. وهي ذاتها التي جعلتك ترفع عينيك على نحو عرضي صوب اللوحة المسندة الى الجدار قبالتـ(ي) في مواجهة سريرك بالضبط. لوحة مستنسخة لـ «فرناندو بوتيرو» غرستها هنا بمسمار الرومانسية يد انثوية عابرة، ثم مضت ذات خصام تاركة اياها في مهب الغرفة مثل جملة ناقصة. لوحة كثيرا ما مررنا عليها نحن - الاثنين - ببصرينا مرور البخلاء ككل الاشياء التي تنمو بالقرب منا دون ان نقرئها كسرة انتباه او ننشب التخمين في حيواتها السرية.
لكن في هذه الليلة تحديدا وكما يجب ان يحدث فيما بعد حسب رسيمة الحبكة، كان ثمة وازع جمالي ملح وملتبس سوف يستدرجك تدريجيا وسيدفعك خلسة لتكرس لها نظرك وتعيث فيها تحديقا. مركزا - اولا - على المقاييس اللاموضوعية او بالاحرى على ذلك التشويه الفيزيائي الذي عرض له هذا الفنان الكولومبي المهووس بالسمنة كلا من المرأة والرجل حتى اضحيا اشبه ببطاطتين عملاقتين، ثم - ثانيا - على التضاد اللوني الصارخ بين كل من الخلفية والمنزل الريفي الواقفين على بعد خطوات محترمة منه (المرأة والرجل اقصد!) المنزل احمر/فاجر/وكاريكاتوري مثل حنجور مائع دعكته اصابع لا آدمية. اما الخلفية فليلكية/جادة/ومنارة بعين قمر يهرع في المشهد كجديلة شعر ناصع السواد عليه ندفة ثلج.
ودون ان تفارقك عيونـ(ي) الساهرة بسنتميتر سهو واحد. واصلت بدورك الاختلاء الى اللوحة حتى ارداك السرير غافيا. لكن عندما اطبقت محجريك وجدت نفسك تنهض في مخيلتك وتلج بكامل جسدك اللوحة. ها انت الآن في المستوى (أ). تمر من جانب المرأة والرجل باقصي ما سمحت به قدماك، ثم تفتح باب المنزل الريفي وانت ترسل تنهيدة غائرة كتنهيدة حطاب جز لتوه شجرة عتيدة. داخل الفناء، تتوقف عند المكتبة اطول مما يجب دونما اكتراث بالابطاء الذي ألم بسرعة السرد. تصعد السلالم، وتلج الى احدى الغرف. وبالمصادفة تجدها شبيهة بغرفتك الاصلية عدا كون المحتويات التي كانت على اليمين اصبحت الآن على اليسار. فعلى ما يبدو اضحت العلاقة انعكاسية بين الغرفتين. تستغرق في سريرك الجديد الذي غادره «اورهان باموف» الى وجهة مجهولة (وهو الامر الذي نعني به غياب الرواية!) وتبذل قصارى بصرك صوب اللوحة. تنام مجددا وتستيقظ في خيالات جمجمتك لتلج اللوحة مرة ثانية، ها انت، اذن، قد وصلت الى المستوى (ب).
من جانب المرأة والرجل، تفترس شياطين الايقاع السريع في قدميك المسافة (هذه المرة كاد الرجل ان يلمحك!). تدرك الباب. تستدرك الفناء. تتدارك المكتبة وسرعة السرد. تصعد السلالم، وتلج غرفة اخرى شبيهة بغرفتك الاصلية. تلفي انسحاب السرير، فتنتصب وسط الغرفة، وتفتر عيونك عن المزيد من النظرات صوب اللوحة. لا تنام واقفا، لكنك تتجاسر على الارتماء من اعلى نقطة في خيالك الرهيب وتغرق مجددا في اللوحة. من دون ريب، لقد وصلت الآن الى المستوى (ج).
تمرق للمرة الثالثة من جانب المرأة والرجل خفيفا كوبر غيمة. تعاود تباعا الباب والفناء والسلالم دون ان تبلغ منك الدهشة شأوا بعيدا لاختفاء المكتبة. تلج نسخة كربونية من غرفتك الاصلية. ومن عرض السرير تتشبث باللوحة مجددا. تدخل الى منطقة النوم في جسمك وتفتح عيون مخيلتك. لكنك قبل ان تدخل مرة رابعة الى اللوحة في المستوى (د)، يسترعي انتباهك اسفلها الوجود المتقن لباب سري. تحاول فتحه بشتى الاصابع، لكن الباب يتفوق على يديك.
يقر عزمك على العودة من نفس طريق الذهاب، منحدرا عبر طرق ذهنك المبتكرة من المستوى (د) الى (ح)، ثم من المستوى (ب) الى (أ). تغادر اللوحة وها أنت من جديد تسقط صريع سريرك الاصلي. في هذه اللحظة، كنت اراقبك وقد استولت عليك تماما فكرة الباب السري.
وفيما بعد انشغلت بامور اخرى، لكنـ(ي) كنت اعلم انك لم تتب عن اللوحة او تستغفر. كل ليلة كنت تواظب على جولاتك عبر المستويات الاربعة، وعندما ينالك الباب السري تبذل محاولات مضنية فتحه لكنها تذهب برمتها ادراج الفشل، وفي غضون هذه الجولات، كنت - طبعا - تصادف بعض الطوارىء غير المتوقعة فتعود على عقبيك الى قواعدك سالما: كأن تستفرد بالمرأة والرجل منهمكين في عري كامل داخل احد الاسرة. كأن تولي الادبار بعد ان يلمحك الرجل او ترفع المرأة عقيرة الخوف. كأن لا تجد السلالم او تكتشف انها مختصرة كقصار السور. او كأن تصطدم بافناء غاصا عن بكرة ابيه بالضيوف.. وهلم طوارىء!
لكن في احدى المرات، حملت معك مطرقة كبيرة الحجم. وعند وصولك الى المستوى الرابع، افلحت في تذليل اكرة الباب ودخلت. ينغلق الباب من خلفك كالصفعة. تحاول وتحاول.. مرارا وتكرارا.. لكن الباب يصر على تجريدك من ذريعة الفرار. تجد هناك غرفة شبيهة بغرفتك الاصلية (هذه المرة كانت محتوياتها تقع في الجهة اليمنى وقد صارت متشحة بالذبول ومكتهلة الألوان!)، لكنها كانت غفلا من اية لوحة تمكنك من العودة او بالانتقال الى مستويات اعلى او ادنى.. وبقيت هناك - يا عزيزي - محبوسا الى الابد.. وحد(ي) من يعرف ذلك.
* قاص من المغرب