يتمتع المبدع بالاهتمام عادة، سواء أكان شاعرا أم قاصا أم روائيا أم فنانا تشكيليا، ويحظى إنتاجه بالقراءة النقدية، وإذا ما قارنا حالة المبدع بحال المؤرخ، فسنشعر بالأسف حقا، فالمؤرخ شخصية متهمة لا تستقطب الاهتمام، ولا تلاحقه الأضواء، ولا تجتذب إنجازاته العامة، والمؤرخ في البلاد العربية يخاف رأي الشارع، لأنه متهم بممالأة السلطة وخدمتها، ولأن الرأي العام يتفق على أن التاريخ المعاصر كله كذب ورياء ونفاق، ورغم الاهتمام الواضح في الدراسات الإنسانية بالشعر والقصة والرواية، بحيث يفرد الدارسون كتبا لدراسة إنتاج شاعر أو قاص أو روائي، فإن الدراسات الأكاديمية تتجاهل دور المؤرخ المعاصر، فلم يسبق للأكاديميين العرب في الجامعات العربية على امتداد الوطن الكبير، ان وجهوا طلبتهم لدراسة إنجازات مؤرخ معاصر، رغم اننا نملك قامات مبدعة لها حضورها في حقل الدراسات التاريخية، مثل الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري الذي حمل شهادة الدكتوراة في التاريخ منذ ستين عاما، وحفر بعمق في الفكر والفلسفة والدراسات التاريخية الجادة، وأثر بقوة في الفكر العربي المعاصر. ومن هنا نبدأ، لنقول إن المؤسسات الفكرية الأردنية، بدأت في العقد الماضي تجربة محمودة باتجاه تكريم الشخصيات الحاضرة بقوة في حقل التاريخ ، مثل الراحل الدكتور إحسان عباس والشيخ المعلم عبد الكريم غرايبة وأستاذ الفكر والتاريخ الدكتور عبد العزيز الدوري وهي بداية تحتاج إلى تعزيز لئلا تتحول إلى مناسبات تكريمية، والكرة الآن في مرمى أقسام التاريخ في الجامعات الرسمية، لتبدأ بتوجيه طلبتها لدراسة المنجزات الكبيرة للمؤرخين العرب المعاصرين، وأثرها على الاتجاهات الفكرية والأحداث في آن. ومن هنا أيضا نقول ، إن رابطة الكتاب الأردنيين تنبهت إلى هذا الدور المؤثر، فمنذ مدة أقيمت ندوة لقراءة كتاب هند أبو الشعر «تاريخ شرقي الأردن في العهد العثماني»، وها هي ندوة اليوم تصب في هذا التوجه الطيب، لقراءة تجربة المؤرخ الأردني سليمان الموسى، ويسعدني بالطبع أن أقدم مشاركة تتناول تجربة سليمان الموسى الجريئة في كتابه : (وجوه وملامح، صور شخصية لبعض رجال السياسة والقلم) في محاولة لقراءة تجربة مؤرخ معاصر لشخصيات معاصرة، وفي ظل نظام سياسي أنتجته أحداث الثورة العربية الكبرى، وأصحاب السير الذين اختارهم الموسى هم من قادة وسياسي أحداث هذه المرحلة.
الكتاب أولاعن وزارة الثقافة والشباب الأردنية، صدر كتاب (وجوه وملامح) في حزيران سنة 1980، ويقع الكتاب في 204 صفحات من القطع المتوسط، وفيه قراءة لثماني شخصيات، وقد حرص المؤلف على إيراد تنويه له دلالته الكبيرة لدينا، فضلا عن المقدمة، والتنويه مفتاح لمنهج الموسى ، كذلك الحال مع مقدمته، فقد حرص الموسى على استشارة شخصيات أكاديمية وأدبية واعتبارية في قراءة المسودة قبل طباعتها، واختار لذلك من الأكاديميين؛ الدكتور محمود السمرة، والشيخ المعلم عبد الكريم غرايبة، والأديب الأردني عيسى الناعوري وعبد الرحمن بشناق، وأوضح أنهم : (تكرموا بتقديم ملاحظات وتصويبات ذات فائدة وأهمية) وختم تنويهه بالقول : (ولا يفوتني ان أنوه بفضل السادة الكثيرين الذين تحدثت إليهم بقصد الاستيضاح والاستزادة والإفادة، ولم أستطع أن أذكر أسماءهم في سياق هذه الفصول) وهذا يعني بالتأكيد ، أن الموسى حرص على عرض مادته على فئة مختارة من الأكاديميين، ثم من الأدباء قبل نشرها، لمعرفته التامة بخطورة نشر هذه المادة، وضرورتها في آن، فهو بذلك يؤكد على وعيه بأهمية الخطوة التي أقدم عليها، وعلى تواضعه بالإفادة من آراء الأكاديميين والمهتمين من ذوي الاختصاص والمعرفة، وإشارته إلى أنهم (قدموا ملاحظات وتصويبات) تكسبه احترام القارئ المختص، أما مقدمته فتحلل منهجه ومصادره وأسلوبه في كتابة السيرة، فهذه المادة مكتوبة (على فترات متباعدة) ويؤكد الموسى أنه عرف هؤلاء الذين اختار كتابة سيرهم : (من حسن الحظ انني اتصلت بهؤلاء الرجال الذين تحدثت عنهم الفصول، وعرفت بعضهم معرفة وثيقة) وان دافعه لذلك (إحساسه بالمسؤولية الثقافية، وإحقاق لمواقف تاريخية) ويقيم الموسى مادته قائلا : (لا أستطيع أن أدعي انني بلغت مرتبة الكمال، في تقديم كل واحد منهم على حقيقته، إلا انني أستطيع أن أقول عن ثقة، انني بذلت كل ما في وسعي لتقديم صورة أقرب ما تكون إلى الواقع والحقيقة). : وكل ما أورده الموسى في مقدمته يمثل مواقفه واتجاهاته وأحكامه، وهو بالتأكيد خاضع للمحاكمة والتساؤل والتفحص والتقييم.
والموسى في هذا الكتاب يتعامل مع ( فن السيرة) ويشير إلى انه (فن أدبي رائع) فهل كان الموسى يكتب تاريخا أم فنا أدبيا؟ وهل يوجد فاصل محدد بين (كتابة التاريخ) وكتابة (فن أدب السيرة)؟ والموسى في مقدمته يتحدث عن الصعوبات التي يجدها (الذي يتصدى لممارسة هذا الفن في بلادنا) وهو بذلك لا يصف (كاتب فن السيرة) بالمؤرخ... ثم انه يتوسع بالحديث عن المصاعب التي يجدها كاتب (فن السيرة) وعلى رأسها عدم توافر المعلومات ، لأن قادة الرأي والسياسة والفكر عندنا يقصرون في حق أنفسهم وحق غيرهم عليهم ، وذلل بسبب عدم الاهتمام بالتوثيق، أي بحفظ الأوراق أو كتابة اليوميات وبتسجيل الوقائع، ويبدي استغرابه لأن شخصيات مثيرة تتمتع بالذكاء والثقافة مثل عوني عبد الهادي ومحب الدين الخطيب لم يهتموا بكتابة يوميات ومذكرات عن الأحداث التاريخية التي كانوا طرفا فيها، ويثني بالتالي على تجربة رئيس وزراء الأردن الراحل هزاع المجالي الذي كتب مذكراته وهو في الأربعين من عمره قبل أن يتعرض لحادثة التفجير في مكتبه برئاسة الوزراء ويلقى مصرعه.
والموسى محق تماما في ملاحظته على قادة الرأي والعسكريين والسياسيين لدينا، فهم مطالبون بذلك، شريطة نشرها في حياتهم. ويبين الموسى في مقدمته بأن خطا واضحا يجمع الشخصيات التي اختارها ليدون سيرها، وهو تاريخ الحركة العربية الحديثة وتاريخ الأردن السياس ، فأشخاص مثل عوني عبد الهادي أحد مؤسسي جمعية العربية الفتاة، ومحب الدين الخطيب وفايز الغصين ومحمد الشريقي وعلي خلقي الشرايري يشكلون جزءا من تاريخ نشأة الحركة العربية الحديثة ومسيرتها وما مرت به من ملابسات وتطورات ، لنستطيع التعرف على الحقائق الكبيرة التي تبين سبب قيام العرب بالثورة العربية وانفصالهم عن الأتراك، والدور الذي لعبته اللغة العربية في دفع العرب إلى هذا الموقف، ويختم الموسى مقدمته التي بسط فيها دور هذه الشخصيات في تاريخ الأردن السياسي، ويتوقف بشكل خاص عند عارف العارف، ويتساءل بجرأة : [هل استطاع في تآليفه وكتاباته ويومياته أن يترفع فوق عواطفه وأهوائه، وأن يتجاوز صداقاته وخصوماته؟ هل استطاع أن يطبق على نفسه مواصفات المستوى الذي كان يتطلبه من الآخرين؟ هل كان منصفا في تقييمه للأمور وهو يحمل ميزان العدالة..؟] ويتابع الموسى قائلا : أود أن أعترف هنا انني حرصت على كشف ما بدا لي من تناقض بين عارف العارف الإنسان وعارف العارف المؤرخ فيما يتعلق برجلين عمل معهما وهما توفيق أبو الهدى وهزاع المجالي، لأن الرجلين ذهبا إلى لقاء ربهما، ولم يعد بمقدورهما إيضاح وجهة نظرهما فيما عزي إليهما]، ويخلص الموسى إلى رأي خطير وهو : (ان من واجب الكاتب ان يدافع عن أولئك الذين لم يعد بمقدورهم أن يدافعوا عن أنفسهم).
بهذه الخاتمة أنهى الموسى مقدمته، وهي مقدمة مثيرة للجدل وتطرح أسئلة كبيرة ، حول دور (فن السيرة) في كتابة التاريخ، ومنهج كاتب السيرة، وأدواته، وعلاقته بصاحب السيرة ، ومدى الموضوعية التي يتحلى بها مؤرخ السيرة، والسؤال الخطير الذي يطرح نفسه الآن : هل من واجب كاتب السيرة أن يدافع عن أولئك الذي لم يعد بمقدورهم أن يدافعوا عن أنفسهم؟ وهل كتابة السيرة تحقق للمؤرخ دور (المبرر) الذي يدافع عن الحق الضائع للأموات لينطق بألسنتهم ويتهم الأحياء الذين يقدمون شهاداتهم؟ فإذا كان هذا هو الدور الأخلاقي للمؤرخ، فإن الموسى يطرح بذلك فلسفة أخلاقية تحتاج منا إلى التوقف والمساءلة ، ومحاكمة مصادرنا بطريقة جديدة وقاسية.
الموسى مؤرخا
لسليمان الموسى حق الريادة والعمل الدؤوب ، فهو من أوائل الذين كتبوا تاريخ الأردن الحديث في زمن مبكر جدا، وكان عمر الدولة لا يتجاوز ثمانية وثلاثين عاما، فقد أصدر وبجهده الخاص والكبير كتاب (تاريخ الأردن في القرن العشرين) سنة 1959، وسأتجاوز عما كتب على الغلاف من انه (بالاشتراك مع منيب الماضي) فهو بالتأكيد جهد سليمان الموسى وحده، الذي تابع هذا الخط بعناد، رغم انه لا يحمل درجة أكاديمية في التاريخ، فقد تتلمذ على نفسه ، واعتمد على فكره وجهده بطريقة تثير الإعجاب والدهشة، حتى انه نشر أكثر من تسعة أبحاث باللغة الإنجليزية في محافل أكاديمية دولية، وحاضر بالجامعة الأميركية ببيروت، وترجم عن الإنجليزية ، وتخصص بمرحلة الثورة العربية الكبرى، ومبرره في ذلك انه ابن المرحلة تماما، فهو من مواليد سنة
1920م، والثورة العربية كانت في بداياتها، فقد قامت سنة 1916، وعندما ولد الموسى كانت تجربة أول دولة عربية حديثة ما زالت قائمة على أرض سورية، وكان الجيل الذي عاصره الموسى قد مر بتجربة الحرب العالمية الأولى ، وما زال الناس يتحدثون بالتركية ويكتبون بها، وقد انتقلوا للتو من (الجنسية العثمانية) إلى (الجنسية العربية) وما زالت السجلات والطوابع والحياة الإدارية من أنظمة وقوانين ومراسلات تتم بالطريقة التركية ، وهذا يعني انه عايش الروايات اليومية للمرحلة ، ومن الطبيعي أن تكون هاجسه وأن تصاحبه، وعلينا أن لا ننسى أن الموسى يمثل الجيل الذي حمل حلم الأمة العربية بالتحرر والاستقلال، وان هذا الجيل تأثر بفكر العروبة والتأكيد على اللغة، في مواجهة التتريك البشع الذي صادر هوية الفئة المتعلمة، و هي خطيئة ارتكبها الاتحاديون ، وأساءوا بها إلى مشاعر (الرعايا) العرب، لذا ، فقد ترسخ في وعي هذا الجيل، الرغبة الجامحة في التأكيد على العروبة والهوية والتحرر، وللموسى وغيره المبرر القوي للتخصص في هذه المرحلة، والحفر فيها بعمق ، لأنهم عاشوها وشهدوا فورة الفكر التحرري ، وعرفوا أصحابه من قرب، أقول هذا وبذهني تماما ما يوجه للمؤرخ من جيل الرواد مثل الموسى، من انه كتب ما كتب للتقرب إلى السلطة، وأظن ان من حقه علينا أن نثمن له هذا التوجه وهذا الخط، فالأردن كيان يمثل تحقيق فكر الثورة العربية الكبرى على الأرض، حيث جرت الأحداث العسكرية على أراضي شرقي الأردن، واجتمع على أرض الإمارة في مطلع تشكيلها أبناء الثورة من منظرين وعسكريين وسياسيين، وكان جيش الأردن يسمى )الجيش العربي) وما زال يحمل هذه التسمية الدالة، وهذا يعني أن للمؤرخ الحق في البدء بالتأريخ للمرحلة التي يعايشها وعلى الأرض التي تحمله، ولا بد لي في هذا المقام من التأكيد بأن هذا التوجه يحسب للموسى لا عليه.
ان الدارس لأدبيات ووثائق وأحداث هذه المرحلة بعمق ووعي، يجد انها ما زالت بحاجة إلى فكر وجهد الأكاديميين لإعادة القراءة والتقييم، بعيدا عن الأحكام السطحية التقليدية، صحيح اننا نعيش على أرض تحققت عليها أحلام المنظرين للعروبة، وان الكيان السياسي وليد للثورة العربية الكبرى، وأن من يكتب في هذه المرحلة سيحسب على النظام بطريقة أو بأخرى، لكنني وبكل مسؤولية أقول إن تاريخ الأردن الحديث مضيء ويحتاج إلى وعي أبنائه وفهمهم ، وأننا عندما ندرس الثورة العربية الكبرى لا نتناولها تقربا للسلطة أو خوفا منها، بل لأن هذه الثورة تمثل فكر الأمة ووعيها بذاتها وحقها بالتحرر، ولأن الثورة جمعت العرب بفئاتهم العسكرية والفكرية من بلاد الشام والعراق تحديدا، بقيادة حجازية هاشمية ، وما زالت قراءة هذه المرحلة تتأثر بأحكام مسبقة وبتوجهات سياسية غير مقبولة، فما هو المبرر الذي يسمح لأمة تملك كل مقوماتها القومية، لقبول التبعية لأي سلطة سياسية أخرى تحت أي مبرر كان؟ أقول هذا بوعي ومسؤولية وأثمن التوجه نحو دراسة الوطن وبكل مراحله التاريخية بمنهجية وموضوعية وانتماء، هذا من حيث التوجه والخط الذي بدأه الموسى وعمقه والتزم به ، ولكن ما هو منهج الموسى في كتابة تاريخ هذه المرحلة؟
منهج كتابة التاريخ
في «وجوه وملامح»
نشر الموسى هذه الفصول في المجلات والصحف، ثم جمعها في الكتاب، لذلك فإنه لم يهتم كثيرا بالهوامش،و لم يوثق توثيقا دقيقا لكل ما يورده ، ففي تاريخه لسيرة علي خلقي الشراري (ص13-ص44) أورد معلومات كثيرة بحاجة إلى توثيق دون أن يشير إلى مصادره، وهو معذور في ذلك ، لأنه يعود إلى أوراق محدودة ولا يجد بين يديه الكثير من المرجعيات التي تسنده، ففي حديثه عن بداية الوعي القومي المبكر عند علي خلقي، يستند إلى مقالة لأكرم زعيتر منشورة في جريدة الدستور بتاريخ 10 آذار 1979، نقل فيها زعيتر عن «جريدة المفيد» الصادرة في بيروت في 21 أيار سنة 1911، ومع أن الجريدة متوفرة في مركز الوثائق والمخطوطات بالجامعة الأردنية، إلا أن الموسى استند إلى زعيتر، وهذه هفوات لا يقبلها العرف الأكاديمي، إلا اننا نتحدث عن كتاب مجموع وربما كتبت مادته قبل نشره بسنوات، وقد نشر الموسى مادته عن علي خلقي باشا في مجلة «أفكار». في آذار سنة 1978، وكانت الجامعة الأردنية قد أسست مركز الوثائق والمخطوطات قبل هذا التاريخ بست سنوات ومع ذلك، فإن الموسى اجتهد ما وسعته إمكاناته ووثق بعض المعلومات وأشار إلى ذلك بشكل جيد ومقنع، فلم يغرق مادته بالإحالات المتتابعة لأنه يكتب سيرة تعتمد أحيانا على المقابلات والملاحظات الجانبية، وفي الوقت نفسه استخدم التوثيق حيثما وسعه الأمر.
تتفاوت المواد المجموعة لسير الشخصيات الثماني، فبعضها معمق ومتتابع ويتخذ سمة أكاديمية ، في حين أن بعضها الآخر يتخذ سمة الصحافة والحالة الأدبية، وربما كان يجب على الموسى أن يفصل بين الشخصيات السياسية والفكرية، والشخصيات الأدبية، فحالة البدوي الملثم واسكندر الخوري البيتجالي تطرح صورة المادة الملحقة لإتمام الكتاب، وتخرج عن التصور السابق للخط السياسي والفكري، ومع ذلك فإن الموسى تخلص من هذا الأمر، بإيراده التوضيح المسبق على الغلاف، بأن هذه الصور الشخصية (لبعض رجال السياسة والقلم)، وكنا نتمنى لو أن الموسى استفاد من علاقاته ومعرفته برجالات الثورة العربية الكبرى العسكرية، وأتم كتابه في هذا الخط، وأفرد كتابا مستقلا لأرباب القلم، كانت الفائدة لدارسي التاريخ أكبر وأعم، ومع ذلك، فإن ما أورده جدير بالاهتمام والدراسة والتحليل.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا؛ موقف مؤرخ السيرة من المعلومات التي يعطيه إياها صاحب السيرة؟ كيف يتعامل معها؟ وهل يحق له أن يبدي الرأي في مجمل وتفاصيل ما يزوده به صاحب السيرة؟ هل يجب عليه أن يبحث بدوره وينقب ويورد المقابل والمستور والرسمي..؟ وهل يحق له أن يتدخل ويبدي وجهة نظره الشخصية فيما وصله من خلال المقابلة أو الوثيقة أو الرواية الشفهية..؟ أسئلة كبيرة وصعبة تحتاج إلى تجلية وجرأة في الطرح والإجابة، والحق يقال إن الموسى كان ينقل بأمانة والتزام، وإنه يكتب السير بعد أن عاين أصحابها عادة وقابلهم ودون آراءهم وردودهم، وبعضهم اشترط عليه أن يقرأ ويصحح ما كتبه ، كما فعل المرحوم محمد الشريقي ، الذي طلب من الموسى أن يعطيه الإجابات ليقرأها وينقحها بيديه، وهذه الملاحظات تطمئن القارئ إلى ان كاتب السيرة لم يحرف ولم يغير في نص المقابلة أو الإجابة، ومع ذلك، فإن الموسى لم يستخدم حسبما يبدو أشرطة تسجيل صوتية، واعتمد على كراساته، وأظن ان هذه الكراسات تشكل لدى الموسى مادة غنية، وأنا على ثقة بأنه لم يتلفها وأن بإمكانه وبإمكاننا أيضا اعتمادها لإغناء الكتابات التالية لسير أبناء هذه المرحلة.
وبعد،
فإن سليمان الموسى مؤرخ بالتأكيد ، يعرف حرفة التاريخ، وقد ساهم في الكتابة التاريخية قبل أن تظهر الجامعات الأردنية كلها، وقبل أن تبدأ مدارس التاريخ الحديثة، باستخدام السجلات والوثائق المحلية، واعتمد على قراءاته وزياراته واطلاعه على دور الأرشيف وعلى الوصول إلى الوثائق المحلية والرسمية بطريقة تحسب له في تلك الفترة المبكرة، ولا شك بأنه ساهم في إضاءة مرحلة الثورة العربية الكبرى، وتاريخ الإمارة والمملكة حتى زمن قريب، ولا شك أيضا أن جهوده المبكرة واللاحقة تحسب له، ولا أظن ان أي دارس لتاريخ المرحلة يستطيع تجاوز جهوده، ولا بد من تثمينها واحترامها وتقديرها وإعادة تقييمها على ضوء مستجدات الدراسات التاريخية الحديثة، ومع أن الرجل الآن قد جاوز الخامسة والثمانين من عمره المديد إلا انه ما زال حاضرا يزاحم الأكاديميين من المتخصصين بكتابة التاريخ، وهو حالة فريدة ناجحة لا تتكرر في التاريخ لوطننا الحبيب.