اريد ان لا اريد ما اريد
اريد ان اكون يقظة في سباتك
اريد ان احتسي المستحيل كل صباح مع فنجان قهوتي على شرفة مماتك
اريد ان اكون، ان لا اكون، ان اغيب في حضوري،
اريد ان أتي الى الموعد بعد ان تيئسين وتغادرين المقهى، حيث الموعد المضروب، اريد ان انتظر قطارك فينزل الركاب ومفتش التذاكر وسائق القطار، فلا يبقى الا غيمة من بخار، واكتشف ان احتمال قدومك في انحسار، انك لم تأتي لان غيمة مزاجك لم تمطر في ذلك المساء، اريد ان اكون الاخذ والرد والاعصار والسكينة معا.
اريد ان يتركني العالم وشأني، اريد ان اكون شأن العالم، اريد ان لا يكون لي شأن بهذا العالم، اريد ما لا اريد، ولا اريد ما اريد، فاذا طلبت منك كوبا من الماء، اعطني وعدا من البحر الميت، وعدا من الظمأ، لا تكوني كما اريد ان تكوني فلا يكون عشقي كما تريدين ان يكون.
***
ارى يا محمود ما ارى وما لا ارى، اراني في الحانات الحمراء ثملا وفي عربات الاطفال وامهات يدفعنني، اراني ارض زنزانة كسلى، محاولة انتحار فاشلة، مشروع خراب، اري ما لا ترى يا محمود.
ارى ما لم تر يا محمود.
هل رأيت رجالا عيونهم تزوغ في ردهات مصحات الامراض النفسية والعصبية؟ هل رأيت تلك المرأة اليائسة تدخل في اجمل ثيابها كل صباح وتبشر المرضى والممرضات والممرضين ان حبيبها سائق التاكسي قادم ليأخذها الى الفراعنة، ويأتي المساء ثم الليل ولا يأتي الجبيب ولا السائق ولا سيارة التاكسي.
رأيت يا محمود رجلا يقول للمرضى في صالة التلفاز:
تصبحون على خير.
ثم يمضي، ثم يعود ليودعنا مرة اخرى ويعتذر لانه هم بان يأوي الى النوم وقد فاته ان يقول لنا:
- تصبحون على خير.
فنرفع ايدينا، نلوح، نوصيه للمرة السابعة:
- احلم احلاما جميلة.
فيحيينا، ويغيب، يأوي الى فراشه، ثم ينهض كالملسوع ويقبل قائلا:
- هل ودعتكم قبل ان يأوي الجسد الى الفراش؟
يا لهذه الذاكرة الشقية الجائعة الى جسد.
فليظل الوطن حلما في الخيال او الذاكرة، ما هم؟ فليظل البيت لوحة على جدار، هب ان العائدين لم يعودوا، الن يعود الذين عادوا، عند ذاك، الى عاداتهم وعياداتهم مع المرضى وغير الاسوياء وغريبي الاطوار؟
كلنا بلا وطن، اسف، انا، على الاقل بلا وطن، كان لي وطن اسمه «المهد» ولي الان وطن اسمه «اللحد»، وسأرجع يوما الى لحدنا، انا العربي الآسيوي البابلي الكنعاني الفرعوني السامي الهندي الاحمر وقاتله الافريقي ومستعبده، انا كل هؤلاء، اعني نحن بلا وطن، يا محمود، لان الكرة الارضية ضاق صدرها فلم تعد الراقصة تعثر على موطئ قدم لكعبها ولا لاصابع قدمها اليمنى.
لم يعد العالم قابلا للرقص يا صديقي، ولا للموت ولا لحيز قبر ولا لمساحة رحم.
ولكن هل تظن ان هذا الامر يعنيني؟ ابدا. وحياتك، يا محمود، ابدا. وحياة كأس العرق واقراص التريبتيزول واقراص الانتابيوز واقراص البروزاك.. لا.. ما عاد شيء يعنيني سوى انتظار مساء كل يوم اربعاء من كل اول اسبوع في شهر جديد. كي انضم للمناضلين السابقين البعثيين والشيوعيين السابقين، المعتقلين السابقين، الارهابيين السابقين، لنشرب الخمر فاخرة، ثم نغني لاشجار الزيتون في مزرعة في «زي» او في قبو ضاحية الرشيد او تحت دالية جبل اللويبدة، ثم نرقص، ثم نضحك. لا نضحك على خيبتنا ابدا. نضحك في سبيل الضحك، بل لا نضح في سبيل اي شيء، نضحك لنضحك. ثم نرقص لنرقص، بعد ان نغني اغاني قديمة لم يحفظها جيلنا جيدا، اغاني حديثة لا نعرف سوى مطلعها، وهكذا نحيا لنحيا، لنحتفل بالحياة، لنشرب نخبها وهي تسري في دمنا وتستمر لاننا ما زلنا قادرين على الانجاب، ولاننا ما زلنا نحب زوجاتنا، ولاننا ما زلنا نحب مناغاة الاطفال، على الرغم من التلفزيون والصحن اللاقط والكمبيوتر والجنون والمصحات والتشرد ومحطات القطارات وجبل اللويبدة الذي سكن الخريف والذاهبين الى العلاج او الاقتراع، والقادمين من المعتقلات او حلبات الرقص في الملاهي عند الفجر الفضي مفلسين وسجائرهم في افواههم تنظر شزرا.
نعم ينبغي على المتنبي ان لا يرتكب خطأ في النحو، لكنه ارتكب، فقيل سقطات المتنبي.
وانا متنبي اعترافاتي عمود من اعمدة رماد الاخطاء التي لولا اقترافها لكنت انا غيري، لكنت انا اضع قناعا على وجهي وارتدي ثيابا سرقتها من طه حسين، او ثيابا خاط لمساتها الاخيرة صاحبي الموظف ذو الياقة البيضاء التي لم تغسل منذ اسابيع، لا، اريدهم ان يروني كما انا، على حقيقتي. فقد اكتشفت، يا اخي عمر، انهم ليسوا قضاة وان زعموا، وانه لا يمثلوني وان ادعو، فلأرقص حيث اشاء صاحيا يقظان، فوق طاولات المقاهي التي اغلقت ابوابها عشية الفجر عند الخريف، على مقاعدها الشاغرة المقفرة التي تركب بعضها بعضا لتزج وراء القفل حين يتثاءب النادل الاخير، لارقص على نغم صغير القاطرات في المحطات الموحشة عاريا فاضحا كل خطاياي، ناشرا كل فضائحي على حبل الغسيل، ها هو جورب عيوبي يتدلى من الشرفة حيث يضطجع مع القطة الناعسة تحت شعشعة الشمس الدافئة، جورب فيه حكايات كان وجهي يتضرج لها ومنها يوم كنت ميتا.
اسرار كان ضميري يزجرني حين يقف على اطلالها يوم كنت مريضا، ويوم كنت اسعى لنيل رضا مؤسسة الناس دارسا لنيل شهادة حسن سلوك من جامعات عيونهم ومدارس ألسنتهم، يوم كنت احرص على سمعتي التي يريدونها، يوم كنت اسعى لتصفيقهم. اما اليوم، بعد ولادتي من جديد يا شقيقي الحبيب فاني ارغب في احتساء ركوة قهوة الليل نخب الحياة التي اريد، في صحة الحياة التي لا اريد.
يا ايها الفتى الذي احترف زرع غابات الارق في عينيه من اجل «...» وفي سبيل «...»، نم.
يا ايها الولد الذي انهمك في سبيل السبيل ارقد، يا ايها الرجل المنذور لقيد الحياة اكسر قيدها وانبعث حيا بلا قيد حياة.
يا ايها الولد المضرج بالندى قادم.
يا ايها الشيخ الذي صدق ان الحياة الدنيا ليست لهوا.. العب.
يا احمد السوداوي ثمة نباتات اخرى فوق تلال قريبة وتلال نائية غير الزعتر، يا ايها الولد المضرج بالعرق واللهاث ارقد وامضغ الضجر، ثم الفظه في صحن سجائر على طاولة مكتبة عمان، حيث يناديك الف كاتب باللغة الانكليزية، ومئة كاتب بالفصيحة المقعرة، ويحاورك مئة فنان تشكيلي بلغة الخطوط والانحناءات والنهايات غير المسدودة.
اسامة شعشاعة.. محظوظ انا لاني عرفتك بعد ان رافقت الرائد سليم حاطوم فاكتشفت جمال عالمك، عالم اصوات الشعر والجدل الفلسفي حول منافع الضحك، والبحث في جدوى اللهو، ودنيا اللعب، والناس النيام الذين قد ينتبهون فيموتون.
هذا انا باخطائي اللغوية العربية بخطاياي الفلسفية والعاطفية والغريزية، هذا انا الذي نسي جدول الضرب حين خدعته الدنيا بجدها المزور وقناع زرافتها، هذا انا الذي لا يميز بين القرنبيط والخس. الذي لا يميز بين طعم السبانخ والملوخية، الذي اذا سألته ماذا تغديت اليوم قال: شيء ابيض عليه شيء مثل اللحمة.. اعتقد انه برغل، لكنه احمر على كل حال. هذا انا الذي لا يعرف من عمان سوى غربها فاعذريني يا اختي سميحة انا دخيل عليك مع انني لست مضطرا! هذا هو مؤنس الذي يكتب «ينم على» بدلا من «ينم عن» فاعذرني يا اخي «كذا.ق». او اقول لك؟ لا تعذرني ارجوك. لا تمش في جنازتي حين امدت عقابا لي، ولا تزوجني ابنة جيرانكم اذا جئتك طالبا يدها. كف ساعدها كله عني يا اخي ان شئت او اخطف يدها انت قبل يدي، افعل ما شئت، وسأفعل ما اشاء، فلك كيمياء ولي كيمياء مختلفة، وهذا امر طبيعي، حتى لو كنت انا غير طبيعي، اكثر من ذلك.. ارجوك، اناشدك، اهيب بك، لا تعطني صوتك اذا نزلت للانتخابات العامة او انتخابات رابطة الكتاب الاردنيين، ولكن اسمح لي ان اختار اختيارا حرا بين «تنم على» او «تنم عن» دون ان تلعب دور القاضي، فلا مقاعد للقضاة في دنيا اللعب واللهو هذه، الم تكتشف بعد «الم تعلم» انما الدنيا لعب ولهو؟
يا حسرتي عليك يا محمد «تذكرت اسمك الان» يا حسرتي عليك. الحق نفسك يا رجل واركب ارجوحة واشتر آيس كريم وبلون احمر. والا راحت عليك يا رجل، راحت عليك.
***
* نص رسالة وجدت بين اوراق الروائي الراحل مؤنس الرزاز في ملف حمل اسم «اعترافات روائي» وهي مؤرخة فـي 4/11/1997. ورغم ان الراحل عنونها بـ«رسالة الى محمود درويش» الا ان القارئ يجد فيها انتقالا في الخطاب من درويش، الى اخي مؤنس «عمر» الى اشخاص اخرين، ذوي صلة بالافكار التي تتناولها الرسالة.
رسالة من الرزاز إلى محمود درويش* .. بقلم : مؤنس الرزاز
12:00 10-2-2006
آخر تعديل :
الجمعة