-1-
فقد كان احسان عباس «1920 - 2003» ولوعا باللغات قديمها والحديث ومعنيا بآدابها وتراثاتها، وذا رافد من روافد موسوعيته التي وسم بها، لعل المصدر الاول لذلك كله دراسته بالكلية العربية بالقدس «1937 - 1941»، التي كان مستوى الدراسة فيها جامعيا اذا ما قيس الان بمستويات الخطط الجامعية في الآداب والعلوم الانسانية كافة.
فقد كانت خطتها تنهض، فضلا عن العربية وآدابها، على الانجليزية وآدابها «ادب القرن الثامن عشر شعرا ونثرا»، واللاتينية وآدابها «مختارات من الشعر والنثر»، والتاريخ اليوناني والروماني مردوفين بكتب في الحضارة والادب، وتاريخ الفلسفة «من افلاطون الى الغزالي»، والمنطق الارسطي، ناهيك بتكليف الطلاب بكتابة بحوث في هذه المواد جميعا «غربة الراعي 128 - 130 . دار الشروق- عمان 1996».
اللافت ان الغلبة فيها كلها كانت لليونانية فكرا وفلسفة وادبا ونقدا، حتى ان الرجل ظل حتى آخر سني عمره يذكر بتقدير جم تدريس عبدالرحمن بشناق كتاب «الشعر» لارسطو، وهو الذي حفزه الى ترجمته. ليس هذا حسب، انما درس كتاب «نيفوماخس» لارسطو، والفلاسفة اليونانيين قبل سقراط، وتعرف الى «انكسماندر» و«اناكزامينس» و«هيراقلايطوس» و«انبذوقليس». ودرس مسرحية ليوربيدس واخرى لارسطوفان، وغاص في الاساطير اليونانية والرومانية «غربة الراعي 137». وغرق في حوارات افلاطون. الم يقل «وكانت مرحة الكلية العربية.. تعني اعدادا ثقافيا موسعا وتربويا نظريا وعمليا، وكان رأسي حين غادرتها مليئا بتاريخ اليونان والرومان والادب اللاتيني والاساطير المتصلة بكلا الادبين، وفلسفة ارسطاطاليس وافلاطون وغيرهما..» (ديوان ازهار برية- المقدمة، ص 7 . دار الشروق- عمان 1999».
-2-
وآتت تلك المعرفة المبكرة بالتراث اليوناني أكلها في اعماله العلمية المبكرة والمتأخرة، التي وصلته بتراث فارس، وفي بواكير شعره كذلك.
كان اقدم اعماله واولها ترجمته «كتاب الشعر» لارساطاطاليس عن ترجمة «صموئيل هنري بتشر Samuel Henry Butcher الانجليزية: (poetics of Arstotle). London 9881.
وقد بدأ الترجمة، وهو طالب في الكلية العربية، واتمها في صفد ايام كان معلما بمدرستها الثانوية (1941 - 1946)، فهو يذكر بعد ان يمم صوب القاهرة عام 1946 للدراسة الجامعية: «وحملت في حقيبتي الى القاهرة ترجمتي لكتاب الشعر لارسطاطاليس وكتابا عن ابي حيان التوحيدي، ونفسي تحدثني انني سأجد لهما ناشرا في القاهرة، ولكن الناشرين سخروا مني لما انبأتهم اني طالب في السنة الثانية الجامعية. (غربة الراعي 176). وصدر الكتاب بطبعته الاولى واليتيمة عن دار الفكر العربي بالقاهرة عام 1950، وقررته سهير القلماوي على الطلاب في تلك الاونة (يوسف بكار: حوارات احسان عباس، ص58، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2004).
بهذا يكون احسان عباس اما الرائد، في العصر الحديث، في ترجمة الكتاب الى العربية -ولو عن الانجليزية- واما شريكا في الريادة لكل من استاذي المرحوم محمد خلف الله احمد «1904 - 1983» وع.عاطف سلام اللذين ترجما الكتاب، كما ذكر خلف الله، عام 1944 بالاعتماد «على التراجم الاوروبية المحققة مستعينين بشروح الباحثين الاوروبيين وتعليقاتهم، وبالرجوع الى تاريخ الادب اليوناني واهم آثاره» وان ليس ثمة ما يشير الى طبع ترجمتهما هذه ونشرها، وتلاتينك الترجمتين ثلاثة اعمال اخرى:
اولها: ترجمة عبدالرحمن بدوي عن اليونانية، التي صدرت اول مرة بالقاهرة عام 1953 . بيد انه لم يشر لا الى ترجمة «بتشر» وما كتبه عن الكتاب كما فعل خلف الله وزميله، ولا الى ترجمة احسان عباس.
وثانيها: تحقيق ترجمة متى بن يونس القديمة مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثير الكتاب في البلاغة العربية لاستاذي المرحوم شكري عياد «1921 - 1999»، وصدورها جميعا في كتاب واحد عام 1967 عن دار الكاتب العربي بالقاهرة، وان يكن تاريخ المقدمة يوليو 1952، اي بعد عامين من صدور ترجمة احسان عباس، وليس ثمة من اشارة اليها في حين أشير الى بحث خلف الله.
وآخرها، ترجمة ابراهيم حمادة عن الانجليزية «1982» دون ان يذكر اصلها، لكنه ذكر ان رحلة الكتاب في الثقافة العربية الحديثة بدأت في اربعينات القرن العشرين، وان احسان عباس يأتي في مقدمة الباحثين والمهتمين به في الوطن العربي، ولم يذكر خلف الله وزميله.
لم يكتف احسان عباس بالترجمة، انما صدرها بمقدمة علمية لها دلالاتها لاتاريخية عن موضوعين مهمين:
الاول: النقد قبل ارسطو بدءا بهوميرس وما دار من جدل في اشعاره، ومرورا ببندار ونقد الشعر الغنائي، والسفسطائيين الذين عنوا باللغة والخطابة، و«جماعة الكوميديين» الذين كانوا يبثون آراءهم في الادب والادباء من خلال مسرحياتهم التي ضاع اكثرها لا سيما ارسطوفان في «الضفادع»، وانتهاء بافلاطون في «الجمهورية» و«القوانين» تحديدا وموقفه من الشعراء الذي خرج فيه عن النظرية اليونانية القديمة، التي كانت ترى في الشعر منبعا للتعليم، وكان اساس خروجه اختياره «العقل» وترجيحه على «العاطفة».
والآخر: ارسطو وكتاب الشعر، وهو مبحث مهم وازن فيه، باختصار، بين آراء ارسطو واستاذه افلاطون من خلال نقض التلميذ لنظرية «المثل» وما انداح فيها من آراء عند الاستاذ، وتخلصه من روح المحافظة عنده وتحاشيه عصبية ارسطو فان لاسخيلوس، وان لم يغض الطرف عن نقائصه، وتجاوزه الى سوفوكليس.
ووقف عند جهود ارسطو في الكتاب لا سيما في المأساة ومهمتها التي اثارت جدل النقاد كثيرا، وفي الملحمة، ام الملهاة فربما كانت القسم الضائع من الكتاب، وأكد ان ارسطو خدمته ظروفه اكثر من النقاد المتقدمين لتنوع الادب في عصره وبلوغ المأساة ذروة الجودة، لكنه اخذ عليه نقيصتين نشأتا عن شخصه قبل كل شيء: احداهما ان عبقريته كانت منظمة محيطة شاملة فلم يستطع ان يقصر جهده على مؤلف واحد ينقده، والاخرى عوزه للحماسة التي لا مندوحة منها للناقد، سبب هذا ان الرجل كان عقليا. بيد انه رأى انه ليس مسؤولا عن نظرياته وآرائه في «فن الشعر» التي تدوولت وشرحت ولخصت واتخذت حقائق لا تقبل الجدل وكانت خطرا على مستقبل النقد، وليس مسؤولا عن المصطلحات التي وضعها فطال عليها الامد وغير من معانيها او حور فيها من مثل «المحاكاة» و«التطهير».
صفوة رأيه في الكتاب ان حسناته «تزيد كثيرا جدا على سيئاته. هو ناقص وبعض اجزائه مضطرب وفيه اشياء مقحمة واخرى مقتضبة، ولكنه اول كتاب في النقد، ومنذ ان وضع لم يعد هناك اختلاف حول وجود قواعد نقدية، ولكن الناس اختلفوا في تطبيق هذه القواعد وتناولها (كتاب الشعر، ص 16).
كل هذا، وان يكن موجزا مركزا، صدر عن احسان عباس المعلم الفتى في الاربعينات، وهو لم يتخط مستواه التعليمي الرسمي السنة الجامعية الاولى وفق اعتراف جامعة فؤاد الاول انذاك (غربة الراعي 176).
لقد خلف فيه هذا الجهد المبكر آثارا مبكرة كذلك، ففي حين انه، باعترافه هو، لم يكن مثاليا بطبيعته، فقد صار كذلك اقتداء بنماذج من الاساتذة الذين علموه في الكلية العربية، وازدادت مثاليته حين غرق في حوارات افلاطون، وعمق المنهج الشعري الذي اختاره من ايغاله في الاتجاه المثالي حتى انه قال «صحيح، ان قليل العلم شيء ضار، وانا حين تشبعت بالفكر الافلاطوني ظننته نهاية الفلسفة حتى اخذت اؤمن انه كان يجب على واضعي منهج التعليم في الكلية (الكلية العربية) ان يعلمونا اولا المذاهب الفلسفية الحديثة، ثم يرجعوا بنا عودا الى ارسطاطاليس وافلاطون، لكنهم حين فعلوا العكس حرمونا من دراسة الفلسفات الحديثة دراسة منهجية منظمة (غربة الراعي 150).
وذكر انه وجد في قول هراقلايطوس Heraclitus «ان النار هي العنصر الاول في بناء الكون» ما اثار افكاره، فشغف بالفكرة التي وجد مصداقها في ظواهر كثيرة الى ان اتحدت بأسطورة برميثوس الذي سرق النار من الإلهة واعطاها بني البشر، فنسي بها عنصر «الماء» واهميته دون ان يتأثر بتقديس المجوس للنار.
وظلت النار العنصر المسيطر في شعره الى ان تحول عنها الى البحر والماء بعد ان اصبحت «قيسارية» وجهته التي كان يقضي فيها اشهر الصيف، ويجد راحته في البحر وسر الماء، لقد كانت النار عنده رمزا للطموح (غربة الراعي 137-138).
- 3 -
واختزن احسان عباس تلك الخميرة العلمية المعرفية، فكان يبعثها ما دعت الحاجة اليها:
1-3
فحين الف كتابه «فن الشعر» (1953)، وهو ثاني عمل يؤلفه بعد «الحسن البصري» (1952) وعرض لنظرية «المحاكاة» اسعفته كثيرا في ان يجاهر برأي مهم خطير، هو انها «لم تؤثر في قاعدة الشعر العربي، لا لأن العرب لم يفهموها فحسب، وانما لأن امكان انطباقها على الشعر العربي كان متعذرا ايضا. فهي قد تبسط ظلها على الشعر الدرامي والبطولي والديثرامب ..
2-3
وحين كتب عام (1954) دراسته الرائدة عن ديوان «اباريق مهشمة» لعبد الوهاب البياتي لم يفته ان يكتشف اللقاء بينه وبين بروميثيوس وان كان «فاترا»، لأن البياني اختار من الاسطورة معنى العذاب دون ان يمجده او يهتف لغاياته النبيلة، وادرك ان شعره لا تتضح حقيقته الا اذا فهم انه ينبع من وحي اسطورة «سيزيف»، وسيزيف البياتي، في الاغلب، هو «القروي» او «عامل الحقول».
3-3
ولما الف «تاريخ النقد الادبي عند العرب» (1971) استنطق تلك المعرفة، التي اضاف اليها ما لقفه من قراءاته وكشوفاته من مصادر اجد، ليوظفها جميعا في ما في الكتاب من مباحث عن النقد العربي والأثر اليوناني، فكان له ذلك وانتهى الى نتائج علمية عامة مهمة.
فالثقافات القديمة من هندية وفارسية ويونانية في القرن الثاني والثالث الهجريين لم تترك، باستثناء الجاحظ «آثارا عميقة في البلاغة والنقد، حتى الجاحظ نفسه لم يمس الشعر من الزاوية الفلسفية الا مسا رفيقا (تاريخ النقد الادبي عند العرب 174، دار الشروق - عمان 1993)، بيد ان الثقافة اليونانية في القرن الرابع كانت من ابرز المؤثرات في قدامة بن جعفر (المصدر نفسه 177-202).
وقد تتبع العلاقة بين قدامة وكتاب الشعر، وخلص الى ان كتاب قدامة «نقد الشعر»: «كتب في ضوء ثقافة منطقية فلسفية، وكأنه محاولة من قدامة ليضع ما يمكن ان نسميه «منطق الشعر». وهذا واضح في بناء الكتاب وتقسيماته وحدوده (تعريفاته)، ونقل بعض الآراء اليونانية فيه، والحديث عن خصائص المعاني وعيوبها». (المصدر نفسه 192)، وهو يختلف، بهذا، مع ما ذهب اليه المستشرق «بوينكير» من ان ليس ثمة من صلة بين كتاب قدامة وارسطو.
وعني بأبي نصر الفارابي (ت 339 ه)، فبين ان اهتمامه بكتابي «الخطابة» و«الشعر» كان جزءا من منهجه الفلسفي العام، وان «رسالة في قوانين صناعة الشعراء» ليست سوى «تلخيص لجزئيات من كتاب الشعر مع الافادة من شرح لثامسطيوس على الكتاب» (المصدر نفسه 203)، وان الفارابي لم يفد من الكتاب الافادة المستوفاة لانغلاق بعض اجزاء الكتاب دونه، ولأنه لم يكن منصرفا للشعر والنقد (المصدر نفسه 204).
وخلص، بعد ان عرض لآراء الفارابي ناقلا او مفسرا او مجتهدا، الى انه لم يحاول ان يبذل جهودا تطبيقية في دراسة الشعر، لكنه جاء بنظرات تصلح اساسا للفهم العميق، كالتفرقة الارسطاطالية بين الخطابة والشعر، والمفاضلة بين المحاكاة والوزن في الشعر (المصدر نفسه 212-213).
اما في القرن الخامس، فتوصل الى انه «لا نجد لكتاب الشعر - او الاثر اليوناني عامة - اي صدى بين نقاد القرن الخامس (اذا استثنينا اشارة طفيفة الى ابن حزم الاندلسي). سبب هذا طبيعة النقاد وطبيعة الشعر، فكلتاهما اصبحت تنأى عن الاثر الفلسفي، واصبح النقاد يجدون الجواب عن المشكلات النقدية جاهزا لدى الآمدي والجرجاني .. ولذلك اقتصرت بكتاب الشعر على اعادة وضعه في موضعه بين كتب المعلم الاول وفاء باستكمال المنهج الفلسفي، وكان من الطبيعي، لهذا، ان لا يحدث تلخيص ابن سينا لكتاب الشعر اي اثر في النقد الادبي حينئذ، ومن الكثير ان نحمله جل المسؤولية في هذا التقصير مهما تكن حماستنا للأثر المفترض الذي كان متوقعا لهذا الكتاب، ومهما يكن رجاؤنا كبيرا في مقدرة ابن سينا (المصدر نفسه 418)، علما ان كتاب الشعر كما اورده يمثل - الى اليوم - اوضح صورة من صوره، فهو يرتفع عن غموض ترجمة متى بن يونس وركاكتها ورداءتها؟ وهو اوسع نطاقا من اللمحات الخاطفة التي اتى بها الفارابي، واسلم من محاولة ابن رشد من بعد، لأن ابن سينا لم يتورط كثيرا في تطبيقات خاطئة (المصدر نفسه 419).
ولما وصل الى ابن رشد (ت595)، في القرن السادس، بدا له ان الاندلس لم تعرف كتاب الشعر قبله سوى التماعات بسيرة لعلها جاءت بالوساطة.
وحين تناوله جرى فيه على غير ما عند الفارابي وابن سينا اللذين تهيباه - على تفاوت بينهما - فرأى انه لا يمكن ان يكون ذا جدوى للقارئ العربي اذا لم يطبق ما يمكن تطبيقه من آراء ارسطو على الشعر العربي على معرفته بأن كثيرا من قوانينه خاص بأشعار اليونان، وقد جرته هذه الغاية الى ان ينحرف عمدا بمصطلحات الكتاب ومدلولاته بحيث جعل المديح والهجاء بديلا للمأساة والملهاة (التراجيديا والكوميديا). وكان اهم ما كشفه عند ابن رشد انه لم يفهم «المحاكاة» وظنها «وجهي التشبيه» في الصورة (البيانية المصدر نفسه 529 - 537).
ولست ارتاب في ان تلك المعرفة المبكرة وما دعمها به واضاف اليها مما اسعفته المصادر هي التي قوت من عزمه على ان يرتاد موضوعا مهما هو الكشف عن مدى صلة موروثنا العربي بالثقافة اليونانية وما دلف اليه منها في كتابه «ملامح يونانية في الادب العربي» (1978)، الذي يعد اوعى واجمع مؤلف في هذه البابة المثاقفية الطوعية، واشمل ما كتب فيها - الى الآن - في الأدب العربي المقارن. وهو في مجمله يجيب عن سؤالين كبيرين تنداح فيهما اسئلة صغيرة: ماذا ترجم العرب من ادب اليونان وما موقفهم من الشعر اليواني ومدى معرفتهم به؟ وما الطرق التي استغل فيها الادب العربي الثقافة الاغريقية علما وادبا وفلسفة؟
لقد كانت الترجمة «الوسيط» الاكبر والسبيل الاول في انتقال علوم اليونان وثقافتهم الى العرب. ويعود اتصالهم بالثقافة اليونانية، بنحو ما، الى العصر الاموي، وكان من اظهر اثاره ملامح المحتوي اليوناني في رسائل عبدالحميد الكاتب، وهذه هي مرحلة الاتصال الاولى، مرحلة سالم الكاتب مولى هشام بن عبدالملك، وعبدالله بن المقفع التي كانت الغلبة فيها لانصار الثقافة الفارسية.
اما المرحلة الاخرى، فتلك التي ترجمت فيها الآثار اليونانية في الفكر والعلم والسياسة والادب، وان ظلت كفة الفرس في «السياسة» خاصة هي الارجح، في هذه المرحلة نشط عدد من المترجمين امثال حنين بن اسحق لنقل نصوص الحكمة في تراث يونان ازاء ما كان يفعله انصار الثقافة الفارسية كالحسن بن سهل بنقل بعض الآثار الفارسية في الموضوع ذاته.
وبان لاحسان عباس ان الأثر اليوناني في الادب العربي كان اظهر ما يكون في المحاور الثلاثة الآتية:
1- الشعر اليوناني.
2- تحوير الحكم النثرية اليونانية نظما.
3- الإفادة من الفكر السياسي اليوناني.
فأما المحور الأول (العرب والشعر اليوناني)، فقد كشف الغطاء عنه من خلال سؤالين في سؤال واحد: هل عرف العرب الشعر اليوناني؟ وهل افادوا منه، اذا ما عرفوه؟
لقد كانت الاجابة عنهما عسيرة ونسبية وجدلية في ان لانه كان يعترضهما، وما زال، اعتقاد كبير - قد يكون خاطئا - هو ان العرب لم يترجموا شعرا يونانيا، وان ادبهم، لهذا، لم يتأثر بالشعر اليوناني. ربما يكون مرجع هذا الاعتقاد ان العرب كانوا يرون انفسهم متفوقين في الشعر والبلاغة، بدليل قول الجاحظ «فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب». وما قرره ايضا، من ان الشعر «لا يستطاع ان يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التعجب منه لا كالكلام المنثور».
وقد ردد هذا الرأي، من بعده، ابو سليمان المنطقي من القرن الرابع الهجري.
ان من شأن هذا المبدأ، كما يرى احسان عباس «ان ينفر الناس من ترجمة الشعر الى العربية، او يجعل اية محاولة في هذا السبيل قليلة الجدوى» . وربما لسبب ديني يقول به عدد من الدارسين العرب المعاصرين ظنا منهم لما بين الشعر اليوناني العقيدة الاسلامية من تعارض . فإذا ما كان الامر كذلك، لماذا ترجم العرب الفلسفة اليونانية اذا؟ الم تكن تتعارض مع الدين؟ هكذا تساءل طه حسين عام 1956 ورأى ان العرب لم يفهموا الادب اليوناني، ولو فهموه لترجموه كما ترجموا الفلسفة.
وقريب من مذهب طه حسين ما يقوله احسان عباس، وهو ما فصله في «تاريخ النقد الادبي»: «ومما يدل يقوة على ان العرب لم يترجموا الآثار اليونانية الكبرى في الادب ما تم لديهم حين ترجموا (كتاب الشعر) الذي يستند على شواهد ادبية.
فقد وضح بقوة ان التراجمة والمعلقين عن هذا الكتاب من امثال ابي بشر متى بن يونس والفارابي وابن سينا وابن رشد وحازم القرطاجني، قد عجزوا عن فهم ما فيه من مصطلح وعن الافادة الصحيحة من قواعده واحكامه، لانه لم يكن لديهم امثلة مترجمة - وبالتالي امثلة اصلية - تدلهم على مفهوم الملحمة او المأساة» (ملامح يونانية في الادب العربي 23-24 المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 1977).
على الرغم من هذا ، فثمة اخبار وروايات عن معرفة للعرب بالشعر اليوناني. يقال ان «حنين بن اسحق» (من القرن الثالث الهجري) سمع مرة ينشد شعراء بالرومية لهوميروس كبير شعراء اليونان، ويروى ان الفارابي وقف على اشعار كثير من الامم - اليونان فيها - وقارن بين الشعرين العري واليوناني في الوزن، وقد يكون اول من نقل الى العرب ان اليونانيين قد خصصوا لكل موضوع وزنا خاصا، فللمدح وزن وللهجاء وزن وهكذذا دواليك، بعد ان ذكر ان للشعر عندهم ثلاثة عشر نوعا سماها بأسمائها وعرف بها. وزاد اهتمام العرب في المئة السنة بعد وفاة الفارابي (ت339ه) بأدب الحكمة اليوناني سواء في النظر في ما كان قد ترجم منه سابقا ام بترجمة اشياء جديدة، وكانوا، مع هذا كله، حراصا على ان يفصلوا بين ادب الحكمة والشعر. وكان الشعر المترجم شديد الشبه بالاقوال الحكمية، وربما ترجم لانه يعد وجها من وجوه الحكمة اليونانية.
وانفرد ابو الريحان البيروتي من بين طلاب الثقافة اليونانية العرب بالاهتمام بالاسطورة اليونانية في كتابيه المشهورين «في تحقيق ما للهند من مقولة» و«الآثار الباقية عن القرون الخالية».
وعرف العرب عددا من شعرا اليونان، من مثل «هسيود» و«بندار» و«سوفوكليس» و«يوربيدس» و«هوميروس» الذي لقبوه «امرا القيس» اليوناني. على الرغم من هذا لم تترجم الالياذة والاوديسة الى العربية آنذاك، وان ترجمتا (او ترجمت اشياء منهما) الى السريانية. وتصنف الآثار المرفوعة الى هوميروس في التراث العربي ثلاثة اصناف:
1- بعض الاقوال الحكمية.
2- اشعار ثابتة النسبة اليه او مما يحتمل ثبوته، جاء اكثرها شواهد في كتابي ارسطو المعروفين: «الخطابة» و«الشعر» .
3- اشعار منسوبة اليه والى غيره ورد كثير منها في كتاب «صوان الحكمة» الذي ينسب الى ابن سليمان المنطقي والذي لم يصل الينا بعد ، بل وصل منه «مختصر صوان الحكمة» و«منتخب صوان الحكمة».
ولم يفت احسان عباس ان ينبه على الخلط بين هوميروس و«ايسوب» في عدد من المرويات والاخبار في المصادر العربية، وقد قاده هذا الى ان يكشف عن اثر ايسوب في الشخصيات والامثال العربية من خلال عدد من الامثلة دون ان تغيب عن باله قضية اللقاء بين آثار الشرق والغرب، فقد اثبتت الكشوف الحديثة ان بعض العناصر عند ايسوب ترتد الى اصول مشرقية موغلة في القدم لا سيما الاصول السومرية.
ولم يفته، كذلك ان يلمع الى ترجمة الشعر الخمري اليوناني الى العربية في الاندلس والقيروان مستبعدا «ان تكون الاندلس قد تلقت تأثيرا مباشرا في الادب اليوناني، وانما اعتمدت على ما ترجم من اثار يونانية في المشرق»، ومرجحا افادتهم مما ترجم آنذاك الى «اللاتينية» التي كان الناس يحسنونها او يحسنون صورة منها (المصدر نفسه 86) . اما القيروان، وان كانت الثقافة فيها عربية خالصة، فلم تخل من
مثقفين باليونانية كعلي بن ابي الرجال الذي ألف له ابن رشيق كتاب «العمدة» وابن ابي الرقيق صاحب «قطب السرور» الذي يحوي اشعارا يونانية في موضوعات شتى - الخمرة منها - مترجمة الى العربية (المصدر نفسه 89 - 97).
اما المحور الثاني، تحوير الحكم والامثال اليونانية نظما، فموضوع جدلي لا يمكن ان يطمئن الدارس الى رأي قاطع فيه، لأن اكثر الحكم التي تعنينا هنا من نتاجات العصر العباسي الذي كان عصر امتزاج ثقافي كبير نقلت فيه - فيما نقل - الحكم عن امم شتى. فقد تنسب الحكمة الواحدة الى الفرس او اليونان او الهنود، وربما توجد ذات اصل عريق في البيئة العربية القديمة.
من امثلة تأثر الشعراء العرب بالتراث الادبي المنسوب الى اليونان قول الشاعر العباسي صالح بن عبد القدوس، وهو من شعراء الحكمة الكبار:
«وينادونه وقد صم عنهم
ثم قالوا وللنساء نحيب:
ما الذي عاق ان ترد جوابا
ايها المقول الالد الخطيب؟!
ان تكن لا تطيق رجع جواب
فبما قد ترى وانت خطيب؟
ذو عظات وما وعظت بشيء
مثل وعظ السكوت اذ لا تجيب»
وقد ذهب ابن طباطبا العلوي الى ان الشاعر اخذ الابيات من رثاء ارسطو للاسكندر حين قال فيه «طالما كان هذا الشخص واعظا بليغا، وما وعظ بكلامه موعظة قط ابلغ من وعظه بسكوته». وذكر ان ابا العتاهية اختصر قول ارسطو هذا في بيت واحد:
«وكانت في حياتك لي عظات
فأنت اليوم اوعظ منك حيا»
وبيت أبي العتاهية يشبه، كذلك، كلمة لحكيم يوناني قالها عند تابوت الاسكندر: «قد كنت امس انطق، وانت اليوم اوعظ».
ومن الامثلة، كذلك، قول الشاعر:
«اصبر على مضض الحسو
د فإن صبرك قاتلة
كالنار تأكل بعضها
ان لم تجد ما تأكله»
اذ قيل انه مأخوذ من هاتين الحكمتين اليونانيتين:
- «الحسدة مناشير انفسهم».
- «الحسود منشار اهله، فإنه لفرط اسفه وغمه بما نال غيره من الخير يكون كأنه يشقق نفسه».
ومنها، ايضا، قول المتنبي في سيف الدولة:
«اعيذها نظرات منك صادقة
ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم»
فد قيل ان المتنبي نظر فيه الى مقالة افلاطون «الفقير اذا تشبه بالغني كان كمن به ورم، ويوهم الناس انه سمين وهو يستر ما به من الورم».
واما المحور الاخير، الافادة من الفكر السياسي اليوناني في الادب، فيبدو في الرسائل والشعر والمقامات اما نقلا او مضاهاة، وهذا الموضوع لا يمكن القطع به كذلك، ومن امثلة عبدالحميد الكاتب ورسائله، فقد كان مطلعا على ما يترجم وينقل في زمانه من الثقافات الاجنبية لا سيما الفارسية واليونانية، ويكاد يكون تأثره بالثقافة الفارسية اكد للصلات الوثيقة التي انعقدت بينه وبين صديقه عبدالله بن المقفع رسول الثقافة الفارسية الى العرب.
اما الثقافة اليونانية، فليس ببعيد ان يكون نحا فيها نحو ختنه سالم الذي كان كاتبا لبني امية حتى عهد هشام بن عبدالملك.
من ابرز رسائل عبدالحميد، التي قد يكون افاد فيها من الرسائل المنسوبة الى ارسطو، رسالته الى عبدالله بن مروان ولي العهد، لما وجهه ابوه لمحاربة الضحاك الشيباني الخارجي، وهي في السياسة الحربية، وذا مكمن شبهها برسائل ارسطو. بيد ان هذا لا يعني انه اخذ معلوماته السياسية كلها عن تلك الرسائل، انما استمد موضوعاتها من ثقافته وتجربته الناتجة عن ملازمته مروان مذ ولي ارمينية الى ان قتل معه في معركة «الزاب» عام 132 ه، وكان جهد مروان مشهودا في اعداد الجيوش وتنظيمها، وفي سياسة الحروب.
رسالة عبدالحميد التي نحن بصددها، كما حللها احسان عباس، قسمان: الاول عن السلوك الاخلاقي للقائد الحربي، والاخر عن القواعد الحربية التي يجب الأخذ بها في المراحل كافة، ولقد اضحت هذه الامور، لدقتها، اساسا لما كتب في فنون الحرب بعد ذلك.
زاوج عبدالحميد فيها بين ما عرفه من الثقافتين الفارسية واليونانية، فتأثر في القسم الاول بالثقافة الفارسية، واعتمد الثقافة اليونانية في جوانب من القسم الاخر، فقول ارسطو «واجعل الحرب اخر امرك» انعكس في قول عبدالحميد: «اعلم ان الظفر ظفران: احدهما، وهو اعم منفعة وابلغ في حسن الذكر قالة واحوطه سلامة.. ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة...»، وانعكس في قوله «اعلم ان احسن مكيدتك اثرا في العامة.. ما نلت الظفر فيه بحسن الروية وحزم التدبير ولطف الحيلة».
وانعكس قول ارسطو الآتي: «كاتب اشد قواد عدوك بأسا وأوفرهم نصيحة لعدوك، لتوقع وهما في قلب عدوك على صاحبه الناصح له، واعمل على ان يقع كتابك بيد حراس عدوك». انعكس في قول عبدالحميد: «وكاتب رؤساءهم وقادتهم، وعدهم المنالات ومنهم المنالات ومنهم الولايات وسوغهم التراث، وضع عنهن الاحن، واقطع اعناقهم بالمطامع، وأستدعهم بالمثاوب، واملأ قلوبهم بالترهيب ان أمكنتك منهم الدوائر واصارتهم اليك الرواجع، وادعهم الى الوثوب بصاحبهم او اعتزاله ان لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة، ولا عليك ان تطرح الى بعضهم كتبا كأنها جوابات كتب اليهم، وتكتب على ألسنتهم كتبا تدفعها اليهم وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده منزلة التهمة ومحل الظنة».
ولما ألف كتابه «عبدالحميد بن يحيى الكاتب وما تبقى من رسائله ورسائل سالم ابي العلاء» الذي نشر عام 1987 «دار الشروق - عمان» ظل موقفه ثابتا حيال ملامح المحتوى اليوناني في رسائل عبدالحميد، لا سيما رسالته الى عبدالله بن مروان، بتأثير مرحلة الاتصال الاولى بالرسائل المنسوبة الى ارسطو «المصدر نفسه 56 و93 - 94»، وعززه بأن الرجل «قد احكم في اسلوب عربي ما تسرب الى العربية من ثقافة يونانية وفارسية حينئذ، حتى انه لو حاول ان ينسج على منوال الرسائل المترجمة من هاتين الثقافتين لصعب التمييز بين الاصل والمنحول» «المصدر نفسه 58».