أوراق من ذاكرة زرقاوي آخر (2):
الطرد من مدرسة الثورة العربية
الكبرى والبحث عن المعنى!
قبل أن أهتدي الى الكتاب! جملة تكررت في هذه الأوراق الزرقاوية المنتزعة من دفتر الذاكرة ذي الصور المصفطة، في عناية شديدة، جنب بعضها البعض. ولأمر ما فإن هذا الدفتر الزرقاوي هو أكثر دفاتر ذاكرتي قوة وحضورا، رغم ان ذاكرتي تحتفظ بدفاتر كثيرة، ذات أوراق ملونة لأزمنة وأمكنة، أخرى، عثرت فيها النفس على أقرب شبه ممكن لمثالها.
هل يتعلق الأمر بالطفولة، ذلك السر الذي لم يفلح أحد في فك طلاسمه، أم يتعلق بشيء آخر لم أضع يدي على كنهه بعد؟ لم تكن طفولتي سعيدة، بالمعني الشائع لكلمة السعادة ، بل لعلها كانت أقرب الى الشقاء المادي منها الى اي شيء آخر، ولكنها ما تزال تلك الطبوغرافيا التي لم تنفد دفائنها بعد. ولولا تلك الطفولة التي طلعت من الوعر ما كان نصي ممكنا اصلا، وما كانت له، على ما أزعم، تلك النكهة العضوية التي تنهل مخزونها من عب أمي ورائحة التبغ الحادة في ثياب جدي، وأنفاس اخوتي المتكومة في غرفة واحدة، لها، مع ذلك، فوح الهال أو القرفة.
قبل ان اهتدي الى الكتاب ! ليست هذه جملة طائشة لا أساس لها. ف الكتاب يعيدني الى الأسم الأول: يحيي. أفكر، الآن، بهذا الأسم وبالمصائر الغامضة التي راح ينسجها لصاحبه مذ اطلقه عسكري في سلاح الدروع على ابنه البكر. ماذا لو أطلق ذلك العسكري في الجيش العربي على ابنه البكر اسما آخر: مفيد أو جمال أو فياض أو عايض كما هو شأن اترابي الأخرين؟ هل كان سينتهي الى نفس المصائر التي انتهى اليها، ومن ضمنها، بل في مقدمها، الكتاب الأرضي الذي راح يتدرب على خط أحرفه الاولى على مقعد خشبي متهالك في مدرسة هارون الرشيد الابتدائية في حي جناعة ؟ لا أعلم. وأني لي ان أعلم.
ولكن يحلو لي ان افكر بذلك القول المأثور: لكل من اسمه نصيب. فلطالما سمعت تلك الآية (يا يحيي خذ الكتاب بقوة). لم يكن لهذه الآية المنتزعة من سياقها اي بعد ما فوق أرضي. الأمر الوحيد الذي فتنني بها هو ذلك التلازم بين يحيي والكتاب . طبعا، سيكون جنونا مطبقا ان يتجاوز فعل الأمر، او هذا النداء الإلهي ليحيي النبي، عند الولد البدوي الأردني، المعنى الارضي للكتاب. المعنى الوحيد الذي اعرفه. ف الكتاب لم يكن، عندي، سوى الكتابة ، لا ذلك الذي لو انزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. هل فكرت حينها بالأمر على هذا النحو تماما؟ ايضا، لا اعلم. المهم في الأمر ان هناك يحيى ، وان هناك كتابا . وكانت مطالع هذا الكتاب، شرارته الأولى، غمغمات أحرفه، تنتظرني في شارعين او ثلاثة من شوارع الزرقاء المغبرة، التي كان يسعى في جنباتها، دون ان ادري، من يفكر بالكتب والكتابة، وسيكون لي موعد معهم في مسعاي المتعجل للخروج من قمقم الأهل.
قبل ان اهتدي الى الكتاب ، كانت هناك التفلتات التي تدوم في النفس ويضيق بها البيت والمدرسة. فشلت مغامرتي في اجتياز نقطة حدود الرمثا بفضل خالين يمتطيان حمارين أبرشين كانا يهربان سكرا وشايا الى سورية او قمحا الى الاردن. معظم الذين رافقوني في مدارس جناعة انتهي أمرهم، الى الجيش، فرارا من ضنك الحياة في بيوت مكفهرة أو سعيا الى رجولة مبكرة تصدح بها اغاني الاذاعة الاردنية. لم يكن ممكنا لي ان انخرط في سلاح الدروع الذي ينتمي اليه معظم أقاربي، لسبب بسيط جدا: فمسؤول التجنيد في معسكر الدروع كان والدي! اما سلاحا المشاة والمدفعية فكنا نعتبرهما ل الفلاحين ، الذين غذي التمايز بينهم والبدو غلوب باشا لمصلحة الأخيرين. كانت القوات الخاصة ، او الصاعقة ، تشكيلا عسكريا حديث النشأة في الجيش الاردني، ولم يكتسب قوامه وشهرته الا بعد ايلول السبعين، وهو سلاح لا أقارب لي فيه، فضلا عن أن رواتبه، كانت، كما يشاع، اعلى من رواتب التشكيلات العسكرية الأخرى. كان معسكر القوات الخاصة قريبا من سكننا في المجمع العسكري في الزرقاء، وكنت أمر به كلما ذهبت الى المدينة، او عدت منها.
ذات يوم رأيت مجموعة من الأغرار الذين يريدون الالتحاق ب القوات الخاصة يقفون عند مدخل المعسكر، فاصطففت معهم. كان الأغرار يسجلون اسماءهم عند العسكري المسؤول عن التجنيد، ولما جاء دوري سألني العسكري ماذا يقرب لي فلان.. وذكر اسم والدي.. فقلت له: اسم على اسم! نظر الى مسؤول التجنيد نظرة خاصة، وانصرف الى غرفة أخرى. في الاثناء، مضي الاغرار الى داخل المعسكر، وبقيت وحدي. عاد الرجل وعلى وجهه علامات فهمت معناها.
فقد اعتذر عن قبولي، وقال ان من الأفضل لي ان انهي دراستي الثانوية والتحق بالكلية الحربية لأتخرج ضابطا. كان ذلك يعني ان انتظر عامين آخرين. عرفت، طبعا، انه اتصل بوالدي الذي طلب منه ان يؤخرني عنده، قدر الامكان، حتى يحضر، من معسكره القريب، لاصطحابي. لا بد ان والدي قد احتار في أمر ابنه البكر الذي يندر ان يغيب عن البيت ولا يسبب له مشكلة من نوع ما.
ولكن، هل فكر والدي لماذا كنت في حالة فرار دائم من البيت، من المدرسة، من الحي المسلطة عليه عيون جيران يتدخلون في كل شاردة وواردة في حياتك؟ أظنه فعل. وأظن أن استنتاجه الوحيد، بعد عشرات المحاولات الفاشلة للهرب من البيت والمدرسة والبلد كلها، ان هذا الأبن البكر ولد تحت نجم منحوس لا يعرف له إلا اسما واحدا يندي له الجبين: الهمالة.
هكذا حمل المراهق المتحدر من أصول بدوية الذي كان يدعي يحي ، في سعيه الحثيث غير المفهوم، غير المبرر، الى كسر القواعد المتواضع عليها، أكثر الألقاب اخجالا في الأردن: الهامل . فكيف ل هامل (أي الذي لا يرجي منه نفع او أمل) ان يسعى الى الكتاب ؟ ولكن يبدو ان ثمة شيطانا كان يتلبس هذا الهامل (... وكانت أمي تراه في رأي العين) اقوي من كل الرقى والتعازيم التي حاولت بكل رجائها وطاقاتها السحرية، استخراجه من مكمنه..
ولكن عبثا تفعل. فشلت كل محاولات الهرب التي قمت بها وحيدا او بصحبة آخرين من جناعة او معسكر الزرقاء للاستقلال عن الأهل او الانشقاق المدوي عنهم. كانت هناك اقدار اكبر مني تعيدني الى البيت والمدرسة كلما فررت منهما، حتى جاء اليوم الذي قررت فيه، مع زميلين لي من مدرسة الثورة العربية التابعة للقوات المسلحة هما فخري المومني ووليد الشركسي، ان نحطم، ما امكن لنا تحطيمه منها، وأن نستولي على نقود الكنتين .
جئنا ليلا الى المدرسة التي نعرفها كما نعرف خطوط اكفنا وعثنا بها فسادا. حطمنا الكنتين واستولينا على الصندوق الذي لم يكن فيه، لسوء حظنا، سوى فراطة لا تتجاوز العشرة دنانير. لم تكن النقود هي الهدف، بل التحطيم والحاق اكبر قدر ممكن من الاذى في هذا الصرح التعليمي الذي يديره مدرسون عسكريون. كأننا، بذلك، كنا نحطم صور آبائنا العسكريين المتجهمين الذين لم يكونوا يعرفون لغة ل التحاور معنا سوى القايش (الحزام العسكري ذو المشابك النحاسية الثقيلة). كانت هناك حالة هائلة من الفرح تجتاحنا ونحن نحطم ونهوي بكل شيء امامنا لكن فرحة التحطيم لم تدم طويلا، اذ سرعان ما رحنا نفكر بعواقب هذه الفعلة غير المسبوقة في مدرسة عسكرية شديدة الانضباط.
شكلت ادارة المدرسة لجنة تحقيق بالحادث ولم يكن صعبا عليهم الاشتباه بواحد من الجناة هو انا، ومن ثم حددوا بسهولة، أكبر، زملاءه الاثيرين الى ان انحصرت الدائرة بوليد الشركسي وفخري المومني، فاعترف احدهما بالفعلة. وبما ان الفعلة تمت في مدرسة تابعة للقوات المسلحة ولم تكن مسبوقة في انتهاكها الفظ لحرمة المدرسة فقد قررت الادارة طردنا من مدارس القوات المسلحة والمدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم: اي طردنا من النظام الدراسي الرسمي كله. لم تنفع تدخلات والدي، الذي لم يشعر بالعار حتى في هزيمة حرب 1967 كما شعر به وهو يمثل امام زملائه العسكريين في ادارة المدرسة، ولم تنفع تدخلات رتب عسكرية عالية من أقاربي ايضا في رد القرار او تخفيفه. بهذه الفعله المخجلة المدوية تخلصت من المدرسة. لكن أهل زميليي الأخرين منعوهما من الاتصال بي. فبقيت وحيدا في العراء.
لم أذهب الى البيت طبعا. كان على ان ابيت بضع ليال في بيت قريب مرة وفي الجامع مرة أخرى، وعلى سطح فندق بعشرين قرشا مرة ثالثة.. الى ان اسفرت دموع امي وأخوتي وتدخلات، يصعب رفضها من بعض أقاربي، على رأسهم شيخ عشيرتنا، الى اعادتي للبيت.. وعفا الله عما مضي. كان مصيري التعليمي على كف عفريت. فالفعلة تمت في مستهل آخر سنة لي في المدرسة: التوجيهي. سنة واتخرج من المدرسة التي وصلت الى آخر صف فيها بشق النفس. لا أعلم ما هي المشاعر التي كانت تجتاح والدي في تلك الأيام، خصوصا، وهو الرجل الذي لم يعرف في حياته سوى الانضباط، ولا شيء يشوب سيرته المثالية سوى هذا الأبن الذي لا تقويم لاعوجاجه. لا بد انه كان اتعس أب في الدنيا. والمصيبة الاكبر ان الأمر يتعلق بابنه البكر الذي ينادي بين الناس باسمه. ما كان يقهر والدي أكثر هو التالي: فرغم معرفته ب زعرنة ابنه البكر وهمالته إلا انه كان متأكدا، أيضا، انه لا يخلو من الذكاء ولا من القدرة على نيل علامات جيدة..فقد فعل ذلك اكثر من مرة. فما الذي، بحق الله، يمنعه من ان يكون كذلك؟ ما الذي يمنعه ان يكون، في أضعف الايمان، ولدا عاديا مثل ابناء عمومته؟ لا شيء.. سوى ذلك الاعوجاج الأصيل الذي لا ينفع فيه اي تقويم. ربما وطد أبي نفسه على تقبل المثل الذي كانت تخلص اليه أمي بقناعة وقنوط كاملين حيال سلوكي: إنني مثل ذيل الكلب الذي وضع في القالب اربعين عاما وظل اعوج!