التناص والتلاص فـي النقد الحديث (2-3) .. بقلم : عزالدين مناصرة

التناص والتلاص فـي النقد الحديث (2-3) .. بقلم : عزالدين مناصرة

2. 3: رولان بارت
يقول بارت ان النص (منسوج تماما من عدد من الاقتباسات ومن المراجع ومن الأصداء: لغات ثقافية سابقة أو معاصرة، تتجاوز النص من جانب إلى آخر في تجسيمة واسعة. إن التناصي ؟ Lintertextualit، الذي يجد نفسه فيه كل نص، ليس إلا تناصا لنص آخر، لا يستطيع أن يختلط بأي أصل للنص: البحث عن ينابيع عمل ما أو عما أثر فيه، هو استجابة لأسطورة النسب، فالاقتباسات التي يتكون منها نص ما، مجهولة، عديمة السمة، ومع ذلك فهي مقروءة من قبل: إنها اقتباسات بلا قوسين)(29). وينطلق بارت من منجزات كريستيلآا ليوسعها ويشرحها، فالنص يعيد توزيع اللغة، والتناصية قدر كل نص، مهما كان جنسه (إن تبادل النصوص، أشلاء نصوص دارت أو تدور في فلك نص يعتبر مركزا، وفي النهاية تتحد معه، هو واحدة من سبل ذلك التفكك والانبناء: كل نص تناص، والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو أخرى، إذ نتعرف نصوص الثقافة السالفة والحالية: فكل نص ليس إلا نسيجا جديدا من استشهادات سابقة)(30). فالتناص ذ يضيف بارت ذ (مجال عام للصيغ المجهولة التي يندر معرفة أصلها. ولا يتم التناص وفق طريقة متدرجة معلومة، ولا بمحاكاة إرادية، وإنما وفق طريقة متشعبة ذ صورة تمنح النص وضع الإنتاجية وليس إعادة الإنتاج)(31)، ونظرية النص بالنسبة لبارت هي ذ نسيج الخطاب.
ويشرح بارت (إديولوجيم ذ Idologme) كريستيلآا بأنه (متصور يعد بتوضح النص في التناص وبالتذكير به في نصوص المجتمع والتاريخ).(32). وقد ورد مصطلح التناص عند بارت لأول مرة، عام 1973، يقول: (النص المتداخل: النص هو بروست أو الجريدة اليومية أو شاشة التلفزيون. فالكتاب يصنع المعنى، والمعنى يصنع الحياة) (33)، ويعود إلى القول إن كلمة Texte (نص)، تعني النسيج، أما نظرية النص فهي (علم نسيج العنكبوت).(34)
- هكذا نجد أن رولان بارت لم يضف جديدا على ما قالته كريستيلآا عن التناص وما قاله باختين عن الحوارية، لكن بارت أكد وشرح بعض ما قالته كريستيلآا، ووسع مفهوم انفتاح النص على الحياة والمجتمع، وأضاف بعض الملاحظات السريعة.
2. 4: لوران جيني
يقول لوران جيني Laurent Jenny إن الأثر الأدبي يدخل إما في: علاقة تحقيق أو إنجاز (تحقيق مضمون معين كان يشكل في تلك البنيات وعدا)، وعلاقة تحويل (تحويل معنى قائم أو شكل متوافر والذهاب بهما أبعد، أو علاقة خرق) (35) ويكمن جوهر التناص من وجهة نظر جيني (عمل الهضم والتحويل الذي يميز كل سياق تناصي) (36). ويوضح بأن النص الأدبي (يستمد وظيفته من علاقة مزدوجة، تشده إلى النصوص الأدبية الأخرى السابقة له، وإلى أنساق دلالية غير أدبية كالتعبيرات الشفهية، ويرى جيني أنه يكفي أن نوسع العلاقة، بحيث تشمل أنساقا رمزية غير لفظية (الموسيقى والرسم والسينما مثلا)، لنلتقي مفهوم التناص الذي اجترحته كريستيلآا) (37)، ويدعو الناقد : Intertexte، ما بين ذ نص، أو - متناصا، النص الذي يتشرب تعددية من النصوص مع بقائه ممركزا بمعنى(38). ويصنف لوران جيني، حالات عمل التناص كما يلي:
1. التحرير: بمعنى التحرير الكتابي لما ليس كتابيا بالأصل. وينطبق هذا على حالة التناص بين الأنواع المختلفة، الأدبي والتشكيلي مثلا.
2. الخطية: الكتابة ظاهرة خطية، محكومة باستمرارية السطور، أفقيا كما في أغلب اللغات، أو عموديا كما في الصينية واليابانية. يعمد الكاتب إلى ما يشبه تسوية لعناصر النص الأصلي الذي يناصه هو أو يناصصه، وعناصر نصه الجديد في فضاء الصفحة، وداخل حدودها المادية (الاختلاف الطباعي).
3. الترصيع: يعمد الكاتب العامل بالتناص إلى ترصيع عناصر النص القديم في نصه هو. ينشأ هنا تنافذ بين عناصر صارت منفصلة عن معناها القديم، فاقدة لاستقلالها في سياقها الجديد. والتنافذ أنواع: تنافذ كنائي أو تناظري، وتنافذ استعاري (مونتاج) لا تنافذ فيه. وهنا يعجز القارئ عن العثور على ترابطات بائنة بين العناصر المتنافرة للتناص(39).
- أما في مجال تفاعل النصوص نفسه، فقد وجد جيني أن في الإمكان التركيز على ستة أنماط:
1. التشويش: يعمد الكاتب هنا إلى أخذ فقرة من نص مكرس، يتدخل هو فيه ويتلاعب به، مدخلا عليه إفسادا مقصودا أو دعابة.
2. الإضمار أو القطع: هنا يمارس الكاتب الاقتباس المبتور، ليحرف النص عن وجهته الأصلية.
3. التضخيم أو التوسع: يحول النص ويحرفه بأن ينمي فيه، في الاتجاه الذي يريد، عناصر دلالية أو مسارد شكلية يراها هو فيه.
4. المبالغة: مبالغة المعنى والمغالاة فيه نوعيا.
5. القلب أو العكس: وهي الصيغة الأكثر شيوعا في التناص، وخصوصا في المحاكاة الساخرة، وهو أنواع: قلب موقف العبارة أو أطرافها، وقلب القيمة، وقلب الوضع الدرامي، وقلب القيم الرموزية.
6. تغيير مستوى المعنى: نقل المعنى إلى صعيد آخر، وتحويل المجاز إلى الحرفية أو العكس. (40)

2. 5: مارك أنجينو
فـي دراسته ( مفهوم التناص فـي الخطاب النقدي الجديد ) ، يعرض مارك أنجينو Marc Angenot، لتاريخ مصطلح التناص، فيشير إلى مصطلحات: التناص، وتداخل النص والتناصية وغيرها ويشبهها ب: بنية وبنائي وبنيوية ... الخ. فالتناص هو (كل نص يتعايش بطريقة من الطرق مع نصوص أخرى وبذلك يصبح نصا في نص، تناصا) ذ ويرى أن المصطلح ظهر للمرة الأولى على يد جوليا كريستيلآا في عدة أبحاث لها كتبت بين 1966 و1967، ونشرت في مجلتي Tel-Quel و Critique، وأعيد نشرها في كتابيها (سيميوتيك) و (نص الرواية) وفي مقدمة كتاب باختين عن دستويفسكي. ثم يناقش الباحث مصطلحات كريستيلآا، ويرى أن مصطلح (تداخل)، قد ورد لدى باختين في كتابه (الماركسية وفلسفة اللغة_ 1929). ويلاحظ الباحث أن كلمة تناص عند كريستيلآا ولدى أفراد آخرين من جماعة تيل كيل، لا تظهر إلا في سياقات نظرية عامة. ويكتب فيليب سولرس Sollers (كل نص يقع في مفترق طرق نصوص عدة فيكون في آن واحد إعادة قراءة لها، واحتدادا وتكثيفا ونقلا وتعميقا). ويقول بارت إن النص عبارة عن (جيولوجيا كتابات). ويتابع الباحث قائلا إن كلمة التناص، انطلاقا من كريستيلآا - 1966- 1967 (ستهاجر إلى كل مكان تقريبا)(41).
ويشير الباحث إلى أن المرجعية النظرية الأساسية التي أغنت كلمة (تناص) في الفرنسية، جاءت من ترجمة كتابات لوتمان ذ Lotman، فهو صاحب مصطلح (التخارج النصي)، أي ذ ما هو مكمل للنص، فقد نقل لوتمان إلى التناص، مشاكل الأدب الساخر والسجال المقنع. وهكذا يكتب لوتمان (إن العلاقات الخارج نصية لعمل ما، يمكن وصفها بمثابة علاقة مجموع العناصر المثبتة في النص بمجموع العناصر التي انطلاقا منها، تم تحقيق اختيار العنصر المستعمل)، على أن ما لدى لوتمان ذيقول الباحث- يلحق بالمفهوم الذي يعطيه للنص بدل تراتبية مختلف مستويات الهيكلة التي تقيم النص.(42). ثم يشير إلى بول زمتور ذ Zumthor، الذي يربط التناص، رأسا بالمحددات الداخلية لحضور التاريخ. فجدلية التذكر التي تنتج النص حاملة آثار نصوص متعاقبة، تدعى هنا بالتناص. فالنص هو نقطة التقاء نصوص أخرى. لكن الباحث يرى أن زمتور هو (صدى لباختين). أما ريفاتير Riffaterre، فقد تبنى في آخر أعماله ذ يقول الباحث ذ عن الأسلوبية صيغة التناص، واستعمالها كمرتبة من مراتب التأويل. وهو تبن مرتبط بأفكاره عن الوقائع البلاغية والمقروئية الأدبية (على مستوى افتراض تطابق متبادل بين الشكل والمضمون، فإن مرجعيات النصوص هي نصوص أخرى، والنصية مرتكزها التناص)(43) ويقول مارك أنجينو، عن الوظائف النقدية لمصطلح التناص:
1. فكرة التناص، كقابلية تناصية كريستيلآا، استخدم بالدرجة الأولى لنقد الموضوع المؤسس، ولنقد المؤلف والعمل معا. نقد الموضوع هذا، تطلب أن تحل فكرة محددة للأدوات اللغوية محل الذاتية الرومانسية المتحللة.
2. هناك مادة معرفية، يبدو أن كل دعاة التناص توجهوا إليها، وهي النص، المنظور إليه ككيان مستقل بذاته، حامل لمعنى ملازم له، وحيث يقوم كل عنصر وظيفيا، بضبط العلاقة مع الكل، والعكس أيضا. لكن البحث لم يحقق هويته بوضوح.
3. المسألة الثالثة تتعلق بالدليل ذ Code، أو بالاستعمال المجازي الذي ينقل الدليل اللغوي إلى دليل سيميائي أو إيديولوجي. إن فكرة التناص كانت ترفض كل انغلاق للنص اعتبارا لأهمية النظر إلى كل نص بمثابة عمل لنصوص سابقة عليه. إن نقد الدليل ليس مكتملا.
4. إن فرضية الحقل التناصي، سمحت بالحد من عملية تقليص الممارسة الرمزية (البراكسيس)، ومن الحكم التعسفي المنطلق من بنية تحتية اقتصادية مزعومة.
5. كلمة تناص، سوف تستخدم كمصدر لنحت وابتكار العديد من المصطلحات التي يصعب الحصول على مصدرها. إن ما يظهر هنا هو سلطة الامتصاص للمفاهيم وإعادة توزيعها ومركزتها. إن مفهوم التناص يتجه للاقتران بمفهوم الحقل ذ أي بوصفه معارضة سجالية لمفهوم البنية. إن كلمة تناص هي مجال نقد لم ينجز بعد كما ينبغي للوظيفية والبنيوية. يواجه التناص بإشكالية التعددية وعدم التجانس، وهي إشكالية السنوات القادمة(44).

2. 6: جيرار جينيت
يقرر جيرار جينيت ذ Grard Genette، بأن جامع النص - ؟Larchitexte ذ يعني (مجموع المقولات العامة، أو المفارقة ذ أنماط الخطابات، صيغ الأداء، الأجناس الأدبية ذ التي ينتسب إليها أي نص مفرد). و(أقول اليوم: إن موضوع الشاعرية هو التعدية النصية أو الاستعلاء النصي، الذي كنت قد عرفته تعريفا كليا: إنه كل ما يضع النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى). ثم يعدد جينيت خمسة أنماط من التعددية النصية نلخصها بما يلي:
1. علاقة حضور مشترك بين نصين وعدد من النصوص بطريقة استحضارية، وهي في أغلب الأحيان، الحضور الفعلي لنص في نص آخر، مثل: الاقتباس.
2. العلاقة التي يقيمها النص في الكل الذي يشكله العمل الأدبي، مع ما يمكن أن نسميه، الملحق النصي (العنوان ذ العنوان الصغير ذ العناوين المشتركة ذ المدخل ذ الملحق ذ التنبيه ذ تمهيد ذ هوامش أسفل الصفحة أو في النهاية ذ الخطوط ذ الرسوم ... الخ).
3. النمط الثالث من التعالي النصي، أسميه الماورائية النصية، وعي العلاقة التي شاعت تسميتها (الشرح) الذي يجمع نصا ما بنص آخر، يتحدث عنه دون أن يذكره بالضرورة، بل دون أن يسميه.
4. الجامعية النصية: والمقصود هنا أنها علاقة خرساء تماما، ولا تظهر في أحس حالاتها، إلا عبر ملحق نصي، أو هو في غالب الأحيان، (مثبت جزئيا: كما في التسميات: رواية، قص، قصائد ... الخ، التي ترافق العنوان على الغلاف).
5. الاتساعية النصية: كل علاقة توحد نصا ذ B(أسميه النص المتسع) بنص سابق ذ A (أسميه النص المنحسر). وينشب النص المتسع أظفاره في النص المنحسر، دون أن تكون العلاقة ضربا من الشرح. (54)
- ويعود جيرار جينيت في كتابه (مدخل لجامع النص)، ليؤكد في مقدمته (ليس النص هو موضوع الشعرية، بل جامع النص، أي مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة. ونذكر من بين هذه الأنواع: أصناف الخطابات، صيغ التعبير، والأجناس الأدبية). وهو يطبق نظريته على الأجناس الأدبية، حيث يثبت بعض جوامع الأجناس (46).


المراجع

29. رولان بارت: في كتاب (آفاق التناصية) ذ مرجع سبق ذكره، ص18.
30. نفسه ذ ص 42.
31. نفسه ذ ص 42-43.
32. نفسه ذ ص 52.
33. رولان بارت: لذة النص، ترجمة: فؤاد صفا والحسين سبحان، دار توبقال، المغرب، 1988، ص 40.
34. نفسه ذ ص 62.
35. كاظم جهاد: أدونيس منتحلا ذ دراسة في الاستحواذ الأدبي وارتجالية الترجمة، يسبقها: ما هو التناص ؟، مكتبة مدبولي، ط2، القاهرة، 1993 ذ ص38.
36. نفسه ذ ص 43.
37. نفسه ذ ص 45.
38. نفسه ذ ص 48.
39. نفسه ذ ص 51-53.
40. نفسه ذ ص 53-57.
41. مارك أنجينو ذ مرجع سبق ذكره، ص105.
42. نفسه ذ ص 108.
43. نفسه ذ ص 110.
44. نفسه ذ ص 112-114.
45. جيرار جينيت: في كتاب (آفاق التناصية _ ترجمة البقاعي)، مرجع سبق ذكره، ص 132-139.
46. جيرار جينيت: مدخل لجامع النص، ترجمة: عبد الرحمن أيوب، دار توبقال، ط2، المغرب، 1986