عند الحديث عن الروسي انطون تشيخوف (1860- 1904), وخصوصا فيما أبدعه من مسرح, نجد أن أفضل من يعرف به وبأدبه هو قسطنطين ستانسلافسكي(1), ذلك أنه مخرج أعماله الأبرز, لا بل هو أول من لعب دورا كبيرا في تحويل أدبه و وفق المصطلح النقدي, من (نص درامي) إلى (نص العرض), فضلا عن خوضه جدالات مشتركة معه مكنه معها من إنشاء مسرح ( تشيخوفي) بامتياز,فيقول ستانسلافسكي عن تشيخوف(2): هناك رأي يقول بأنه كاتب الحياة العادية والأناس الرماديين, وإن مسرحياته هي صفحة حزينة للحياة الروسية, ولكنه يقول (3) عن شخوص هذا المسرح بأنهم يريدون أن يعيشوا, لا أن يحيوا حياة بلادة وخمول, ويمضي قائلا (4) (كان من أوائل من أحس بحتمية الثورة, وهي ما تزال جنينا, وأول من دق ناقوس الخطر...) و(ربما كان أسلوبه في الكتابة والإبداع ناعما جدا بالنسبة للإنسان المعاصر, لأنه تعود على الاحتجاج الفاضح والحاد غير الموجودين في أدبه, ولكن ذلك لا يجعله أقل إقناعا وأضعف تأثيرا).
أما الآخر الذي يمكننا إيراد رأيه في تشيخوف, فهو مكسيم جوركي (5)وخصوصا عند تقييمه لمسرحية الخال فانيا, موضوع تناولنا بعنوان(بروفة جنرال لنص الخال فانيا): ( 6( )عندما كنت أصغي لمسرحيتكم كنت أفكر في الحياة التي قدمت ضحية إلى صنم, وقد تفوقتم على المسرحيات الأخرى المستغرقة بتحويل أنظار الناس فقط إلى الواقع واستطعتم أنتم تحويلها إلى الفكر و الفلسفة), بينما قال عنه الأديب البريطاني برنارد شو (7): ( وسط كوكبة المسرحيين الأوروبيين العظام, يسطع نجم تشيخوف, كنجم من الدرجة الأولى), ويؤكد تلك المعطيات السابقة ذلك النصيب الكبير من الإهتمام في الحراك العالمي لمسرحه بحيث غدا من كلاسيكيات المسرح العالمي.
ولم ينقطع الحراك المسرحي الأردني بخاصة والعربي بعامة عن تقديم مسرحيات لتشيخوف, ومن ذلك ما عرضته الجامعة الأردنية لمسرحية بروفة جنرال لنص الخال فانيا من إعداد وإخراج وائل المغربي ضمن فعاليات مهرجان فيلادلفيا والذي قدمته في الفترة ( 15 - 19) من شهر أيار الماضي.
التجريب على النص الكلاسيكي
تمظهر العرض في الفضاء(8) شكلا مسرحيا تأسس على العناصر الكلاسيكية لجهة المؤثرات السمعية والمرئية, وقد جاء الانشغال الإخراجي وفق مسألة التجريب على النص الكلاسيكي(9), بحيث قام المخرج المغربي بإجراء متغيرات باتجاهين, الأول تقديم مقترحات إخراجية لتحويل النص الأدبي, والذي يسمى(النص الدرامي), إلى العرض المرئي المسموع (النص المسرحي) والذي يجيء التواصل معه وفق الدلالات السيميائية للعلامات التي يضج بها هذا الفضاء المسرحي, والثاني يهدف إلى تجسير أجواء ومناخات النص القديمة التي تخص بيئة زمانية ومكانية متغايرتين, لتلائم الراهن المعاش.
فكان لابد من الاختزال, إذ أن مسرحية( الخال فانيا), والتي تجيء في أربعة فصول, تجيء مدة عرضها كاملة زهاء ثلاث ساعات و نصف, فوجد المخرج المغربي نفسه أمام مأزق ذي بعدين, الأول يتمثل في المدة الطويلة للعرض, والثاني احتياج هذا النوع من العروض إلى ممثلين محترفين, بينما, وفي الوقت نفسه, فإن فريق مسرحيته هم من الطلاب الهواة, فكان حل هذا المأزق بأن قام باختزال طال الحوارات, والعلاقات بين الشخوص, وحذف شخصية واحدة.
فعلى مستوى الحوارات قام المغربي بتكثيف حوارات ( الخال فانيا) مع الشخوص الأخرى, حيث نجد أجواء الحوارات نفسها التي في الفصل الأول أثناء شرحه وتفسيره لمعاناته, وهي نفسها تتكرر في الفصل الثاني والثالث, وكذالك حوارات الطبيب (استروف), هي أيضا نفسها من حيث الأجواء في الفصل الأول في الحوار مع (الدادا) حيث تتكرر مع شخصية (البروفوسور), وهي قضية معاناته النفسية بسبب موت أحد مرضاه بين يديه.
أما على مستوى العلاقات بين الشخوص, كإعجاب الطبيب بزوجة البروسفير فنجدها واضحة في النص الأدبي من خلال الحوار بينهما, لكنه في نص العرض جاء مؤثرا بسبب اللغة الدلالية الإيحائية, التي طرحتها الإيماءات كعلامة مركزية أنتجتها الإشارات المرئية التي كانت تنبض بها علاقة الفعل العاطفي بين هاتين الشخصيتين على خشبة المسرح, فتحقق بذلك الاختصار في مدة العرض والبلاغة الدلالية لجهة الجماليات المسرحية.
ولعله, كان من الأجدى حذف شخصية (تيلجين), بالنسبة لمن قرأ نص تشيخوف بتمعن, إذ أنه يجدها حيادية, ولا تقدم محمولات مهمة تسهم في توجيه الحدث, لجهة الشحن الدرامي وإضفاء التوتر في العلاقات, أو على مستوى الأطروحات, التي تشكل في تآلفها التوجه الفكري للمسرحية, وبالتالي, فإن التساؤل المضمر يعيد نفسه حول هذا الحذف مرة ثانية, فلماذا إذن وضع تشيخوف هذه الشخصية في معمار نصه الدرامي وقام مخرجنا المغربي بحذفها, والإجابة تجيء من خلال ذات النص الأدبي, والذي يظهر (تيلجين) في مشاهد قليلة فقط عازفا , وكأن المؤلف أراد أن يقدم للمخرج عبر وجود هذه الشخصية حلا تقنيا ليزيل أجواء الرتابة في الحوارات, من خلال العزف على آلة وترية, فجاء المخرج متفهما لهذه المسألة عند إنشائه لنص العرض بحذف هذه الشخصية, معوضا عن تأثيرها الدلالي بتقديم تأليف موسيقي لمحمد واصف, الذي ألف جملة موسيقية واحدة قدمها على أكثر من آلة موسيقية وبحسب الحالة النفسية والاجتماعية المتطلبة في كل مشهد ولوحة, فقام بطرح هذه الجملة في الفصل الأول وفق آلتين وهما: البيانو و الكونة, وفي المشهد الثاني استخدم آلتي الساكس و الكمان,كما لجأ إلى الإيقاع, وأحيانا أصوات المغنين.
التبيئة ضرورة لاستنطاق
النص الكلاسيكي راهنا
غير أن المخرج كشف عن انشغاله الخاص نحو(التبيئة) فيما بين الأجواء التي كان يضج بها النص الدرامي, من جهة, وعرضه, من جهة أخرى, وذلك بإعادة صياغة نص تشيخوف الخال فانيا بحضور الشخوص نفسها, وذات الأجواء نفسها لكن ضمن مسار أحداث أخرى طرحت وفق أسلوب مسرح داخل مسرح, إذ أظهرت اللوحات والمشاهد مجموعة من المسرحيين في الزمن الراهن, يقدمون بروفة نهائية على نص الخال فانيا, قبل العرض الرسمي لها, وفي السياق تحدث إشكالات كانت تعرقل سير هذه البروفات سواء كان ذلك من خلال نزق المخرج والممثلين, أو الدخول المستمر لعامل النظافة أثناء عمله في المسرح.
وجاء نص العرض ناجحا في تجسيد الواقعية, التي برع تشيخوف في صياغتها عبر مختلف نصوصه, وخصوصا رصد نهايات الانهيارات المدوية الهائلة للطبقتين السياسية و الاجتماعية الروسيتين, قبيل قيام الثورة الاشتراكية في روسيا آنذاك, إلا أن الأبرز جماليا في هذا العرض مجيء الشكل في الفضاء قريبا من جماليات الأداء الكلاسيكي, سواء لجهة الإيقاع و الحوارات والأزياء, فضلا عن صياغة العلاقات الاجتماعية والنفسية بين الشخوص نحو إبراز الهرم الزمني والفكري, والتي تجسدت ب (الأستاذ), و(الجدة), والشباب (سونيا) و (الزوجة), بينما كان الخال (فانيا) يشكل التوازن فيما بين تلك الشخوص من حيث قراءة الواقع الاجتماعي للعائلة وشخوصها برؤية موضوعية لأهداف وظروف كل منها.
وبرعت الرؤية الإخراجية في إنشاء معمار السينوغرافيا لهذه المسرحية, دلاليا, وبرؤية أثرت في المعنى لجهة تعميق رسائل العرض, باستخدام القماش الأبيض, كحيز ومواقع لوقوف الشخوص عبر توازن في المساحة والفعل الدلالي(10), من حيث هاجس وثقافة كل منها, هذا من جهة, ومن جهة أخرى إعطاء عامل الزمن إيقاعه البطيء, في حياة هذه الضيعة, عبر مدلولات استخدام قماش طويل يبتدئ من الباب الخارجي لقاعة المسرح الرئيسي, وينتهي إلى ماكينة الخياطة على المسرح والتي كانت (الجدة) تخيطه, والذي ظهر في السياق المرئي والمسموع, كعلامة دلالية مركزية كبرى, تعلن عن لا جدوى فعل أي شيء يمكن أن يوقف تدهور أوضاع هذه العائلة, فكانت تجهد لمحاولة الاستمرار في حياتها ضمن أرستقراطية روسية أفل نجمها في ذلك الوقت. كما وعمقت ذلك المعنى, من لاجدوى فعل أي شي, لإنقاذ واقع هذه العائلة البائس, الإيحاءات والمعاني الدلالية لمؤثرات الإضاءة القاتمة ذات اللونين الأصفر و الأزرق اللذين أشاعا أجواء الكآبة, أثناء تناوبهما من مشهد إلى آخر, ولكن في المشهد الأخير تم استخدام اللونين معا في رؤية بصرية حققت المعادل الموضوعي للعرض من حيث المعنى, لجهة تآكل حيويات العلاقات الاجتماعية اللإ إيجابة لهذه العائلة المنكوبة بالخواء الأخلاقي و الفكري.
المراجع
(1) قسطنطين ستانسلافسكي (1863 1938) منظر في أداء تقنيات الممثل ومخرج مسرحي روسي. المؤلفات المختارة لأنطون تشيخوف/ترجمة أبو بكر يوسف في العام 1983 ,المجلد الرابع,صفحة (15),دار رادوغا موسكو .1988
(2) المرجع السابق ذكريات بقلم قسطنطين ستانسلافسكي صفحة (31).
(3) المرجع السابق ذكريات, صفحة(24), و(35).
(4) المرجع السابق ذكريات, صفحة (35).
(5) مكسيم جوركي روائي روسي بشر بالثورة البلشفية,وهو الأشهر من الأدباء البلشفيين وخصوصا بعد إصداره لروايته المشهورة عالمياالأم.
(6) المرجع السابق, بحسب مطوية المترجم للأعمال الكاملة لتشيخوف الفقرة الثانية.
(7) المرجع السابق, بحسب مطوية المترجم للأعمال الكاملة لتشيخوف الفقرة الثانية.
(8) الفضاء المسرحي لأكرم يوسف الطبعة الأولى 1994/2000 دمشق دار مشرق مغرب, إنشاء المشاهد واللوحات وفق نظرية الاتصال و التواصل communication theory باب سيمياء الفضاء المسرحي ص103 .
(9) أ-فنون المسرحية/ تأليف فردب ميلت و جيرالد بنتلي, ترجمة صدقي حطاب, وراجعه د. محمود السمرة, القسم الثاني/ المذاهب و القيم المسرحية, صفحة .297
ب يجئ اشتغال المسرحي بالنصوص الكلاسيكية, من باب قدرتها على إنتاج تأويلات راهنة بالنسبة للزمن الممسرحة فيه, واحتمال أجواء أبنيتها السطحية والمضمرة طرح الشخوص المختلفة في أمزجتها و وهواجسها وثقافتها بحيث تقدم الحلول التقنية الدائمة لظهورها و هي مندفعة على الخشبة.
(10) صناعة المسرحية لستيوارت كر يفش من ترجمة د. عبد الله الدباغ / دار المأمون للترجمة والنشر بغداد 1986 , باب الرؤية والعرض , قسم الصورة المسرحية ص 175