مروان حمدان - اعتاد المخرج السينمائي جون بورمان أن يقص حكاية لقائه لأول مرة بالممثلة الفرنسية العالمية كاثرين دونوف. حدث ذلك في باريس خلال عام 1973 عندما ذهب لزيارة صديقه، النجم السينمائي الإيطالي مارسيلو ماستروياني. في ذلك الوقت، شعر صانع الأفلام الإنجليزي هذا بقليل من الغيرة تجاه صديقه الإيطالي، ليس فقط لأن ماستروياني كان يعيش في شقة باريسية حديثة وجميلة - «مناضد زجاجية، أثاث أبيض ومعدن كروم، ذلك النوع من الأشياء» - بل لأنه كان يعيش مع كاثرين دونوف. ومع ذلك عندما تم تقديم المخرج الإنجليزي إليها، ذهبت دونوف لكي تعد القهوة، وحالما اختفت عن ناظري الرجلين، التفت ماستروياني إلى بورمان وهمس: «جون، ليست لديك فكرة حول ما هي حياتي عليه هنا. إنها...»، وأومأ إلى الديكور البارد، «إنها باردة جدا». ويتذكر بورمان: «بطريقة ما، جعلني مارسيلو أشعر بالأسى على حقيقة أنه يعيش مع دونوف الملائكية».
رغم ذلك هذا ليس أمرا غير قابل للتصديق جدا، لأن تلك بالتأكيد الصورة التي نحملها عن كاثرين دونوف: الجمال الجليدي الذي يزين الأفلام والملصقات السينمائية، الأيقونة والنموذج البارد لماريان، رمز الجمهورية الفرنسية، الإلهام الرائع لإيف سان لوران، الوجه الكلاسيكي لشانيل رقم .5 ولكن الآن، وبعد تربعها لأربعة عقود كملكة جليدية للسينما الأوروبية، نشرت دونوف النسخة الإنجليزية من مذكراتها في أيلول الماضي تحت عنوان «قريب وشخصي»، وقالت عنها «إنها سجلي الشخصي لتصوير الأفلام، وسجلات شكوكي». فهل تكشف ملاحظاتها عن شكوكها، وعن مشاعرها وراء صورتها التي لا عيب فيها؟
نعم، لكن لسوء الحظ أن العواطف التي تكشف عنها دونوف في مذكراتها هي في أغلبها عواطف مسكنة للألم. تقول «لم أعد أهتم» أو «أنا ضجرة» خلال حديثها عن أفلام مختلفة، وتحصر تعليقاتها حول صانعي الأفلام في المطلب المتكرر بأن المخرجين «يجب أن يعرفوا ماذا يريدون». هذه بديهية يعرفها أي شخص واجه الآليات المتعبة وأجواء السرعة والانتظار التي تحيط بطاقم العمل السينمائي.
وبالنسبة لكاتبة مذكرات منتظرة، تضع دونوف أمام نفسها عقبات منيعة أيضا. إنها ترفض أن تطلق الأحكام لأن «قوة الكلمة المكتوبة يمكن أن تكون فظيعة، فظيعة». هناك فجوة لأكثر من عشرين سنة، بين عام 1969 وعام 1991، وهي فترة تلتزم فيها الصمت حيال أفلام لعدد من المخرجين. من المفهوم أن عليها أن تتجاوز ذكر أجزاء من الأفلام المعرضة للنسيان، لكنها لا تتحدث أيضا عن أدوارها الأكثر شهرة في تلك الفترة: دورها كشخصية مضطربة ومضادة للمجتمع تتدهور حالة دماغها مثلما تتعفن محتويات ثلاجتها في فيلم Repulsion من إخراج رومان بولانسكي، وكذلك دورها كفتاة بورجوازية تقوم بالمخادعة نهارا في فيلم Belle de Jour من إخراج لويس بونويل. هناك، على أية حال، استثناء واحد، حديث مدهش عن واحد من أفراد طواقمها، وهو حديث يتطلب نوعا أكبر من الانتباه.
كانت دونوف خائفة من بونويل، بشكل قابل للتبرير. حتى قبل البدء بتصوير فيلمهما «تريستانا» عام 1969، تلاحظ دونوف: «لا يعامل لويس ممثليه خصوصا بلطف». لكن على الرغم من شعورها بأنها «شيء عديم الفائدة» ورغم إخبارها منذ بداية العمل بالفيلم: «فوق كل شيء أريحينا من الكلام السيكولوجي»، إلا أن الممثلة الفرنسية ظلت تراقب صانع الأفلام البارع عن كثب.
إنها تخبرنا كيف يستخدم بونويل الأشياء ليس فقط لتصوير شخصيتها ولكن أيضا لتصوير العالم الذي تعيش فيه. كما تخبرنا كيف أن المخرج «يحب أن يبعد العاطفة عن اللحظات الجادة، ويفضل أن يحول بصره». أيضا تلاحظ دونوف «أن بونويل - مثل هيتشكوك وروبيرتو روسيليني وخلافا لصانعي الأفلام الحديثين - لا يهتم كثيرا بالتسلسل الذي ينظم الخط الحكائي للفيلم». «إنه يحقن السوريالية في أكثر المشاهد تقليدية وكلاسيكية، التي لا يطيقها كثيرا»، ثم تقتبس دونوف جملة لا يجرؤ أي مخرج على التفوه بها اليوم: «إننا دائما نكتب هراء، وهكذا نحصل على المشاهد المتناقضة».
السنة الماضية، عندما نشرت هذه المذكرات في فرنسا، تمت مهاجمتها واعتبارها مملة من الصفحة الأولى، إلى حد الإشارة أن دونوف جعلت مارلين مونرو تبدو مثقفة بالمقارنة بها. لكن ما يكشف عنه هذا الكتاب هو امرأة تركز تفكيرها على الجليد، والتي نادرا ما تسمح لقلبها بالاشتعال. في الحقيقة، إن دونوف في تصميمها على البوح بالقليل عن طريق الملاحظة أو إبداء الرأي، تظهر بأنها لا تعاني من عقل فارغ، أكثر من رفضها للسماح بإظهار عقل منفتح.
تقول دونوف عن مذكراتها: «في الحقيقة، كانت أفكارا خاصة وشخصية جدا وتعكس الأشياء التي كنت أقوم بها بعيدا عن باريس وخارج بلادي. هذا الكتاب كان رفيقي - كتبت هذه الأمور عندما كنت في الفنادق، بعيدا عن المكان الذي أعيش فيه عادة. ولم أكن أنوي نشرها.
لكنني حظيت بفرصة للعمل مع محرر على كتاب مقابلات تم إجراؤها معي على مر السنين، وكان ذلك حسب اعتقادي فكرة مثيرة. وقد قمت بذلك لأنني كنت أعلم بأنني لن أكتب سيرة ذاتية. لكنني عندما قرأت المسودة كان لدي انطباع بأنها لا تعبر عني. المقابلات مكتوبة من قبل شخص آخر - الصحفي يتخذ القرار بإضافة أو حذف بعض الأمور، وأنا لم أستطع تمييز صوتي الخاص، أو أي شيء يتعلق بي في ذلك.
لذا أخبرت هذا المحرر أنني كتبت بعض الأشياء في مفكرة منذ زمن طويل، بعض القطع الصغيرة هنا وهناك. وقد طلب قراءتها لأنه كان يريد حقا أن نقوم بأي عمل معا. لذا بحثت عنها وأعطيته إياها لقراءتها، فقال إنها يمكن أن تتحول إلى كتاب. كان كل ذلك مفاجأة لي. ومن الصعب جدا بالنسبة لي الحديث عن كوني ممثلة، لكن هذا الكتاب يمثل صوتي وأنا أعمل».
«أحتاج إلى اللايقين في كل شيء». هذا ما كتبته دونوف في مذكراتها حول فيلم «شرق غرب»، وحول خوفها من أن يبدو أداؤها ميكانيكيا على الشاشة. وتربط بين هذا والفترة التي لم تحفظ فيها دورها بشكل صحيح في فيلم Les Voleurs، من إخراج أندريه تيشين.
وحول هذا «اللايقين» تقول دونوف، في إحدى المقابلات معها إثر صدور مذكراتها: «هذا صحيح أغلب الوقت. أحاول دائما أن أحتفظ بالشعور أنني على الحافة. الأمر معقد جدا لكنه متأت من أنني أخاف أن أعرف أكثر من اللازم فأظهر وكأنني شخص ميكانيكي. إنها أيضا طريقة أعبر بها عن نفسي، مثلما حدث لي في فيلم Les Voleurs، أي عندما كنت في وضع صعب. منذ ذلك الحين، فكرت كثيرا حول ذلك الأمر، لكنني لا أستطيع الاستسلام بالكامل. يجب علي أن أضع نفسي داخل القليل من الخطر لكي لا أصل إلى درجة اليقين. أخاف من أن أكون متأكدة تماما، وأن أقوم بالأداء فقط. أعتقد أن ذلك هو الخطر الأكبر بالنسبة للممثلين - بعد وقت معين، عندما تصبح معروفا ومعترفا بك، يتوقع منك الناس أن تقوم بما يفترض بك أن تقوم به، ولا يعود هنالك نقد تقريبا، وذلك أمر خطير جدا. أعرف ذلك لأنني رأيته. أذهب إلى السينما كثيرا، وأشعر بالأسف عندما أرى هذا يحدث لبعض الممثلين الذين اعتدت أن أحبهم، أي أن أجدهم لم يعودوا يقدمون أية مفاجآت».
وترى دونوف أن الشهرة تمثل عبئا عليها «أحيانا. وليس في أغلب الأحيان... لأن الأمر ليس كما هو في أميركا حيث تحتاج إلى حارس شخصي للخروج. لكن أحيانا، نعم، عندما لا تكون تعمل بل تعيش حياتك فقط، تنسى الأمر، وفجأة يحدث شيء ليذكرك بأنك ممثل. لست دائما الشخص الأكثر لطفا الذي يمكنك أن تلتقيه، لأنني أنسى بسهولة كبيرة أنني ممثلة عندما لا أكون أعمل. أنا أعيش حياة طبيعية جدا، أخرج مع أصدقائي، نذهب إلى السينما، أقف في الطابور، نذهب إلى المطاعم. ثم إذا حدث شيء وتذكرت بأنني ممثلة أصبح مختلفة إلى حد ما وتصبح الأشياء ثقيلة قليلا. أحب ميزات كوني مشهورة؛ أعرف أن ذلك لا يصح، لكنني أحب أن أكون مشهورة عندما يكون الوضع مناسبا، وأحب أن أكون مجهولة تماما عندما لا يكون الوضع مناسبا».
ودونوف مشهورة أيضا كواحدة من أعظم جميلات السينما الحديثة. فهل يشكل ذلك مشكلة بالنسبة إليها؟ وهل تشعر بأن الناس يركزون على جمالها أكثر من تركيزهم على موهبتها؟ إنها لا ترى في ذلك مشكلة أبدا «لأنني كنت محظوظة بما فيه الكفاية وعملت بأفلام مهمة عندما كنت صغيرة... إن العبء يجيء أكثر من حقيقة أن الناس ينظرون إليك أولا ويتوقعون الكثير منك. يتوقعون المزيد من أي شخص يعتبرونه مثيرا للاهتمام. وهذا عبء لأنك، وخصوصا عندما تكون شابا، تحاول أن تنجز ما يتوقعه الناس منك. ومن الممكن أن يصبح الأمر مرهقا جدا. لكن مع مرور الوقت لا يعود يشكل مشكلة. اليوم، أعرف نفسي، أعرف من أنا، وكيف كنت. لا أريد معرفة كيف سأصبح لأنه لا أحد يعرف ذلك. ومع ذلك يظل هذا صعبا أحيانا لأن كوني ممثلة أمر جسدي جدا. ورغم ذلك، أعرف بأنني إذا لم أظهر على النحو الذي ظهرت به، ما كنت لأنجح في الأفلام. ذلك أتذكره، وأعرف بأنني يجب أن أتقبله. لكن التقدم في السن ليس جيدا لأي شخص، لا للرجال، ولا للنساء، حتى أنه أكثر صعوبة للناس الذين يعتمدون على مظهرهم الجسدي. لكن ذلك ليس دراما. أعرف بعض الناس المرهقين أكثر بكثير مني. وأيضا، أنا أعيش في أوروبا؛ وأعتقد أن الأمر سيكون أكثر صعوبة لو عشت في اميركا».
(مصادر الترجمة: الاندبندنت، الغارديان)
كاثرين دونوف.. جمال جليدي وخوف من اليقين
12:00 11-11-2005
آخر تعديل :
الجمعة