افرد العقاد للعربية كتيبا خاصا جمع فيه ما رآه من مزايا الفن والتعبير فيها. وكان هذا الكتيب موضع تقدير من الدكتور شوقي ضيف الذي وافق العقاد على كثير مما ذهب اليه فيه. واول ما وافقه عليه هو وصف اللغة العربية بأنها «لغة شعرية» حيث يراد بهذا الوصف «معان مختلفة كلها صادق. منها أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، ومنها أنها لغة موسيقية تستريح الاذن الى الفاظها كما تستريح الى النظم المرتل. ومنها انها لغة شاعرة تصنع مادة الشعر وتشاكله في قوامه وبنيانه. اذ قوامهما جميعا يعتمد على الوزن والحركة، وكأنها في جملتها فن منظوم منسق الاوزان، والاصوات».
والحق ان العقاد قد انتقل، بعد تفصيل واسع لمعنى شعرية العربية، الى مزاياها في التعبير على اطلاقه، وقدم فصولا عن المقابلة بين فن العروض العربي وامثاله من فنون اللغات الاخرى، وعن فلسفة الحياة كما تصورها لنا المأثورات الشعرية من عهد الجاهلية الى ما بعد الاسلام، وعن الموافقة بين مقاييس النقد ومقاييس التاريخ في الشعر القديم ، وعن المزايا العلمية للعربية، كل ذلك في كتيب صغير يرتسم فيما يرى الباحث الموضوعي نموذجا للدراسة العلمية المكثفة التي تفيد القارئ في مضمونها وفي منهجها على حد سواء.
واذا نحن وقفنا مع العقاد عندما اورده عن «المجاز والشعر» فإنا نراه يؤكد بحق ان المجاز «هو الاداة الكبرى من ادوات التعبير الشعري، لأنه تشبيهات واخيلة وصور مستعارة واشارات ترمز الى الحقيقة المجردة بالأشكال المحسوسة، وهذه هي العبارة الشعرية في جوهرها الاصيل»، لذلك كان القاضي الجرجاني يقول: من طعن على المجاز، ومنع منه، فقد تهدف لما لا يخفى... او كلاما هذا معناه.
ان العربية - عند العقاد - لا تسمى لغة المجاز «لكثرة التعبيرات المجازية فيها، فقد تكثر هذه التعبيرات في لغات عديدة، وانما تسمى العربية لغة المجاز لانها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة الى حدود المعاني المجردة، فيستمع العربي الى لاتشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة الا ريثما ينتقل منها الى المقصود من معناه، فالقمر عنده بهاء، والزهرة نضارة، والغصن اعتدال ورشاقة، والطود وقار وسكينة».
ثم يلاحظ الاستاذ العقاد رحمه الله اقتران المعاني المجردة والمعاني المحسوسة في كثير من المسائل الفكرية والصفات الخلقية التي تجتمع في مادة واحدة. كالواجب والفريضة والفضيلة والحكمة والعقل والعظمة والأنفة والعزة والنبل والشرف والمرحمة والجمال، ويقف امام هذه المواد اللغوية وقفة المتدبر، فيقول - مثلا - في الجمال: «مادة تجمع بين التجمل بمعنى التزين.
والتجمل بمعنى اكل الشحم، وكأنما اخذوا وصف الوجه الجميل من الوجه الذي يمتلئ ويلمع، لأنه ليس بشاحب ولا معروق» ويقول في مادة «علم»: «ان العلم والقلم والمعالم التي يعرف بها الطريق من مادة واحدة»، ويقول في الحكمة انها «مادة تجمع بين الدلالة على الرشد والدلالة على الحديدة التي توضع في اللجام لتمنع الفرس ان ينطلق غاية انطلاقه».
وعلى ان العقاد استطرد كثيرا وهو يحوم حول معنى اللغة الشاعرة الا اننا نستطيع حصر مزايا هذه اللغة على نحو ما وردت في كتابه في اثنتين رئيستين، اولاهما: التصوير وقوامه التشبيه والمجاز والاخيلة. وثانيتهما: الموسيقى وتجانس الحروف والكلمات.
ثم ما يكون في الاساليب من مزاوجة وتساو وما يشيع في العبارات من فصل ووصل وغير ذلك من الوان البلاغة وضروب البيان...
وعلى الرغم من كون الكتاب منذورا اساسا لبحث شاعرية العربية الا ان فيه ابحاثا عن «الزمن في اللغة العربية» وعن «نقد الشعر العربي» وعن ما يسميه العقاد «الفصاحة العلمية»... وكل ذلك عند من قرأوا تراث هذا الكاتب الفذ واستعرضوا سيرته، اثر من آثار عضويته الفاعلة في مجمع اللغة العربية في القاهرة. والتي شاركة فيها عدد من كبار الادباء والمفكرين امثال طه حسين واحمد لطفي السيد وغيرهما من رجالات النهضة وروادها...
بيد ان للعقاد دراسات في صميم اللغة وفي جوهر الشعر يجدها المتتبع المشتار (أي: جامع العسل) في كثير من كتبه التي هي زينة المكتبة العربية الحديثة ومناط فخرها وزهوها في آن.