مفلح العدوان - يحتمل فيلم »السفارة في العمارة« الذي يعرض الآن في مصر, بينما تتخوف كثيرمن الدول العربية من فتح المجال لعرضه فيها, أكثر من قراءة, والعديد من التأويلات التي تجعل من التعامل معه يحتمل نوعا من الانفتاح على رؤى متعددة, وإن ظهر في الرؤية الأولى تلمسه لقضايا مبدأية وخطيرة هي مسألة التعامل الشعبي مع التطبيع في مصر, وفي جانب آخر يلظم هذا الموقف مع الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية.
أتيح لي أن أشاهد الفيلم الذي أخرجه عمرو عرفه, وكتبه يوسف المعاطي بينما قام بدور البطولة فيه الفنان عادل امام حيث أدى دور المهندس شريف الذي يعود الى مصر من الإمارات العربية بعد أن قضى خمسة وعشرين سنة كان يعمل فيها هناك ثم طرد منها بعد تحرشه بزوجة مديره الاجنبي في شركة النفط التي كان هو من أبرز مهندسيها, يعود مواطنا عاديا وهو غير ملتزم بأي حزب ولا فكر سياسي , بل هو في كثير من جوانبه ينزع الى العبث والشهوانية في حياته العامة, يرجع الى القاهرة ليسكن في شقته التي تركها منذ سنين طويلة في منطقة الجيزة, بجوار حديقة الحيوان هناك, لكنه يفاجأ باستقبال شبه رسمي له, ويشحن هو وحقائبه من المطار الى شقته في تلك العمارة المكتظة برجال الأمن والحماية, وهو غير عالم بمن يجاوره في ذات العمارة, لكنه حين يفتح نافذة شقته يرى العلم الإسرائيلي معلق على نفس الواجهة لأن السفارة تتواجد معه في الطابق من العمارة التي توجد فيها شقته, وهنا تبدأ معاناته, ومن هنا ينداح الفيلم عارضا كل شرائح المجتمع في كيفية تعاملها مع قضية السلام حتى بعد سنوات من توقيع الاتفاقية فينسحب الموقف ليس على السفارة وحدها بل على كل من يقترب منها ويكون هذا المهندس العائد بحماس الى وطنه هو ثيرموميتر التعامل مع تلك الحالات : الطلبه, اساتذة الجامعات, البواب, رجال الأمن, أصدقاؤه القدماء, الراقصة, العاهرة, بائع الفطائر, سائق السيارة,.., لقد تم اختيار شرائح كثيرة لترجمة تلك المقاطعة, وهو متفاجىء بما يحدث له, الى ان يضيق عليه الخناق فيرفع قضية بدعوى انه الأقدم في العمارة وأنه كمواطن متضرر من هؤلاء الجيران له في ذات المكان, فيصبح بين ليلة وضحاها بطلا قوميا, لكنه بعد ان يتم تهديده, وابتزازه من خلال مكيدة تستغل ضده شهوانيته وضعفه امام النساء تدبر له فيصور له فيلما اباحيا, ثم يتراجع عن قضيته ضد السفارة ويسحب دعواه وبذلك ينقلب كل الشعب عليه ليصير خائنا, منبطحا, وفي النهاية يحسم موقفه حين يشاهد ابن صديقه الفلسطيني, الطفل إياد الذي كان معه في الامارات العربيه, وكان قريبا منه, ثم عاد الى فلسطين وشارك في الانتفاضة, وعند هذه النقطة بالذات تكون لحظة الحسم لدى البطل عندما يشاهد جنازة الطفل الشهيد فيقرر طرد هؤلاء الضيوف من السفارة الذين كانوا يحتفلون بمناسبة لهم في شقته وهنا تكون النهاية حين ينضم الى الجماهير التي تخرج في مظاهرة معبرة عن مشاعرها الرافضة.
تلك الوصفة لمعمار قصة الفيلم احدى المشاهدات والقراءات له , واذا أخذت على هذا المحمل وحده يكون الفيلم في صف مقاطعة التطبيع بنسبة مئة بالمئة, وربما هذه القراءة التي اعتمدتها الدول التي ارتأت أن لا تعرض الفيلم داخل دور السينما عندها لموقفها الحساس ولالتزامها بالاتفاقيات الموقعة مع الكيان الصهيوني, لكن هناك قراءات اخرى يمكن تتبعها وبما تتيح فهما أكثر للنفسية لدى الطرف الآخر, وبموضوعية فإن لحظة دخول السفير الاسرائيلي الى شقة المهندس شريف بقالب الحلوى ليحتفل معه بعيد ميلاده تعطي اضاءة, ربما قصدها المخرج, لجانب من الديبلوماسية واظهار الجانب الانساني لدى ذلك السفير, ويمكن أيضا أن تفسر هذه اللفتة على انها خدعة سياسية أو انها جزء من تركيبته الانسانية للخروج من الاطار المأخوذ عن الرجال الممثلين للكيان الصهيوني, ثم هناك تلك الابتسامات والتعامل بلطف, في مقابل تصوير الشعب بأنه غير منطقي في تعامله حتى مع ابناء جلدته, بمعنى ذلك الحماس المتسرع دون مناقشة موضوعية للحالة المستهدفة, فيتم تصوير المناهضين للتطبيع بصيغة السذّج المتحمسين بلا وعي ولا دراية بل بتسرع ناجم عن ردة فعل واحتقان انهزامي لا أكثر !!
كما أن الفيلم في جوانب اخرى, ولنأخذ منها مثلا عائلة الدكتوره المناضلة مدرسة العلوم السياسية, وتقوم بالدور هنا داليا البحيري, يظهرها الفيلم وعائلتها الشيوعية بأنها منساقة انسياقا كاملا وراء الشعارات بطريقة كوميدية وسخيفة هي وعائلتها, وباعتقادي ان هذا الفيلم يسىء الى الشخصية العربية, والى الاحزاب اليسارية والشخصيات الوطنية أكثر مما يخدم قضية مقاومة التطبيع, رغم الشعار المرفوع في هذا السياق, كما أن جميع النماذج المطروحة لا تعطي خطابا فكريا ولا جادا لقضية التطبيع والرأي من الآخر, انما هي شخصيات بسيطة كما قلنا ولها خطاب سطحي وقد تم اختيارها عن قصد, واذا تم رصدها فهي مشوهة ولا تعطي صورة حقيقية عن فلسفة الموقف من هذه القضية التي تعتبر اساسية عند المجتمع المصري ولها منظروها وقيادييها, فقد قدمت الصحافة من خلال نموذج صديق المهندس شريف وهو صحفي حشاش يخدم في صحيفة لا, وبالفعل لا منطق في كل كلامه, كما مثلت نموذج المرأة الشعبية الفطرية من خلال العاهرة التي رفضت نقوده بعد ان عرفت انه يسكن بجانب السفاره, وربما يكون هذا التوظيف, وبهذا الشكل عليه علامات استفهام كبيرة فهو في هذا السياق لا يحمل سوى رسالة مشوهة جاءت لتخدم الكوميديا في الفلم وتفرغه من الرسالة الفكرية السياسية, وأظن ان للمثقفين المصريين موقفا مناهضا لهذا الفلم ولكل افلام عادل امام الاخيرة التي تخلط السم بالعسل ولا يمكن أخذها بحسن نية, بل تحتاج الى كثير من التدقيق واعادة القراءة لها.
وعلى العموم فمثل هذا الفلم , بالتأكيد, سيشاهد في اسرائيل, ولن يؤخذ منه نفس الموقف الذي أخذته غير دولة عربية لأنه بالفعل فيلم حمّال أوجه ومن الظلم أن يحاكم من المشاهدة الأولى له, لذلك وجب التنويه لهذا, وربما يكون الرقيب في مصر أكثر ذكاءا اذ سمح بعرضه دون حذف ولا تشويه, لأنه يخدم الجانب الرسمي في بعض جوانبه التي تظهر النماذج الحكومية والرسمية التي اختارها بالعقلانية واتزان الخطاب والخوف على مصلحة البلد في مقابل مجموعة مندفعة قد تؤدي بأي بلد تكون فيها الى الدمار, وهذا واضح من خلال الفيلم وربما تلك بعض رسائله المحتجبة, لهذا فقد ترك الرقيب المصري للمشاهد الحرية في أن يحكم في النهاية, ويحاكم تلك النماذج التي قدمت له في اطار كوميدي بعيدا عن الجرعة السياسية الكاملة فأظهر الحالة منقوصة وغير متزنة, وها قد تم الانتهاء من عرض السفارة في العمارة في معظم دور السينما المصرية ولم تقم المظاهرات عليه, كما لم تعترض دولة اسرائيل ولا سفارتها على سياقاته, وتم التعامل معه كعمل فني ابداعي يحتمل كل القراءات التي يحق للمشاهد ان يتابعها, وأن يدلي برأيه فيها في النهاية دون وصاية ولا مصادرة, رغم كل علامات الاستفهام حول رسالة الفيلم وأهدافه المبطنة!!