حضور الصعاليك فـي الشعر العربي - بقلم د. خالد الجبر

تاريخ النشر : الجمعة 12:00 7-10-2005
No Image

(1)
مفهوم الصعلكة

تكاد المعاجم العربية تجمع على مفهوم واحد للصعلكة، وذلك أنها تعرف الصعلوك بالفقير  الذي لا مال له ، وهكذا استنتج الدكتور يوسف خليف للصعلكة معنى عاما مشتركا مما ذكرته المعاجم، وهو معنى قائم على الضمور والانجراد اللذين يشملان بهذا الوصف الإنسان والإبل. ومما تذكره المعاجم أن عروة بن الورد كان يلقب عروة الصعاليك لأنه  كان يجمع الفقراء من حوله في حظيرة فيرزقهم مما يغنم  على أنه كان  صعلوكا فقيرا مثلهم  أيضا .
غير أن هذا الفقر على علاته ليس بالضرورة مؤديا إلى الصعلكة، وقد ترى في الإضافة التي أضافها الأزهري لما في المعاجم قائلا:  ولا اعتماد له ، أن الصعلوك هو الفقير الذي يواجه الحياة وحيدا، وأن هذه الوحدة سمة أساسية للصعلكة، وهي وحدة نفسية تؤدي ـ مصحوبة مع الفقر - إلى التصعلك، بحيث تجرد الحياة الصعلوك من وسائل العيش فيها، وتسلبه كل ما يستطيع أن يعتمد عليه في مواجهة مشكلاتها وصعابها. وقد نفهم من هذا الذي تقدم أن الذي يخلو من هذه الصفة النفسية لا يمكن أن يكون صعلوكا؛ إذ إن هذه الصفة رابط أساسي للصعلكة بالوضع النفسي والاجتماعي، قبل تعلقها بالوضع المادي الاقتصادي.
غير أن معنى الصعلكة امتد واتسع باتساع الظاهرة نفسها في العصر الجاهلي، فلم يعد الصعاليك نفرا من الفقراء الذين يستجدون الناس ما يسدون به رمقهم، أو يقنعون بفقرهم وينتظرون فارسا مثل عروة بن الورد ليرزقهم مما يغنم ـ حسب، إنما تمرد نفر من هؤلاء، وصاروا يشاغبون على القبائل والأغنياء فيغيرون على ما واتاهم من أنعامهم وأموالهم، أبناء ليل يسهرون ليلهم في النهب  والسلب والإغارة، بينما ينعم الخليون المترفون المسالمون بالنوم والراحة والهدوء . ولعل مثل هذا المعنى للصعلكة يربطها ربطا مباشرا بنشوء طبقية بغيضة في الجاهلية قادت إلى ثورة هؤلاء، وسلوكهم سبلا غير معهودة للحصول على حقوقهم، ولا سيما قوت يومهم، وإحساسهم بالحرية والمساواة.
في الخبر الذي تسوقه المصادر عن الأحداث التي سبقت معركة ذي قار، أن سيد شيبان قال للنعمان بن المنذر حين استجار به:  امض إلى صاحبك، فإما أن صفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن أصابك فالموت خير لك من أن يتلعب بك صعاليك العرب، ويتخطفك ذئابها، وتأكل مالك  ويستنتج الدكتور يوسف خليف من هذا الخبر أن  الصعاليك هنا ليسوا هم الفقراء، ولكنهم طوائف من قطاع الطرق كانوا منتشرين في أرجاء الجزيرة العربية، ينهبون من يلقونه في صحرائها الموحشة الرهيبة، ويتلعبون به، ويتخطفونه، ويأكلون ماله .
وهكذا ينشعب مفهوم الصعلكة في الجاهلية شعبين هما: المفهوم اللغوي الذي يشتمل على معاني الفقر والحرمان وضيق العيش وقلة الحيلة، والمفهوم الاجتماعي الذي يتصل بالوضع الاجتماعي للفرد في مجتمعه، وبالأسلوب الذي يعتمده في الحياة لتغيير ذلك الوضع المزري. وهكذا انقسم الصعاليك في العصر الجاهلي فئتين اثنتين: الأولى رضيت بالوضع القائم، وقنعت بالفقر وضيق العيش والذل والاستكانة والهوان، ورضيت بما يلقى إليها عن موائد الأغنياء من فتات تقتات بها في مواسم الجدب والمحل، والحياة كلها محل عندها، وراحت تمارس أعمالا ومهنا خص العبيد بها. والأخرى طائفة تمردت على ذلك الوضع ورفضته، وحاولت جهدها أن تحصل من حقوقها ما استطاعت، وبما تقدر عليه من فتك ونهب وأسر وقتل، ولم تتقبل أن تمارس ما يمارسه العبيد والأرذال من مهن.
وقد أدت النظم الاجتماعية التي تمسكت بها القبائل، واحتكمت إليها في حياتها إلى إحداث أثر واسع وعميق في نشأة طوائف أخرى من الصعاليك، سوى طائفة الفقراء المعدمين، ومن أولئك الخلعاء الذي ساء سلوكهم عند قبائلهم وفي الناس، وكثرت جناياتهم، ومنهم أيضا طائفة الأغربة السود ممن سرى إليهم السواد من أمهاتهم الحبشيات، وهؤلاء لم يكونوا يعدلون ـ بحكم التقاليد ـ أبناء الحرائر. وهكذا يمكن تقسيم الصعاليك في الجاهلية طوائف ثلاثة هي :
- طائفة الفقراء: ويمثلها أمثال عروة بن الورد، وقبائل مثل هذيل وفهم.
- طائفة الخلعاء: ويبدو أن هؤلاء لم يكونوا من علية القوم وسادتهم، وإلا لوجدوا من يحامي دونهم، ولما جرؤت القبائل على خلعهم من الأصل. ومن هؤلاء: حاجز الأزدي، وقيس بن الحدادية، وأبو الطمحان القيني.
- طائفة الأغربة السود: وفيهم: تأبط شرا، والشنفرى الأزدي، والسليك بن السلكة.
المهم في هذا كله أن الفقر الذي عاشه الصعاليك كان عاملا أساسيا في صعلكتهم، فضلا عن إحساسهم المرير بالوحدة والأسى وغياب العدالة الاجتماعية. وإذا كان الفقر يصب سياط الجوع على الإنسان حتى إنه ليلقي به مغمى عليه كما يرى الدكتور يوسف خليف، فإن هذا يدفعه لطلب ما يسد به رمقه وإن سلبا وقتلا ونهبا، وذلك لأن الجوع مظهر لعدم تحقيق الكفاية لحاجة غريزية فطرية لا يطيق الإنسان عليها صبرا لما يزيد عن أيام قليلة. لكن هذه السياط الجسدية لا تعدل السياط النفسية التي يصبها الفقر على نفوس الفقراء؛ وذلك حين يشاهدون المترفين الأغنياء وما هم فيه من نعمة الحياة ورغدها، ويقارنون بين ما يلقونه هم وأبناؤهم وأهلوهم وما يجده أولئك وأبناؤهم وأهلوهم.
المفارقة المؤلمة هنا هي ما يدل عليه هذا التباين في مستويات الحياة من طبقية مادية اقتصادية، وأخرى أبغض منها، وهي الطبقية الاجتماعية التي يجد الإنسان نفسه حيالها عاجزا عن تفسير علة وجوده، وتودي به في مجاهل القهر الاجتماعي، وتفقده القدرة على الإحساس بوجوده. مثل هذا تجده ماثلا في أشعار الصعاليك وسيرهم التي حفظت المصادر الأدبية والتاريخية شيئا منها؛ إحساس مرير بوقع الفقر والتمييز والطبقية في النفوس، وشكوى صارخة  من هوان منزلتهم الاجتماعية، وعدم تقدير المجتمع لهم، وعجزهم عن الأخذ بنصيبهم من الحياة كما يأخذ سائر أفراد مجتمعهم، أو الوقوف معهم على قدم المساواة في معترك الحياة ؛ لا لأنهم عاجزون، ولكن لأن مجتمعاتهم ظلمتهم واضطهدتهم، وحرمتهم من الإحساس بالعدالة الاجتماعية والإنسانية.
تجد مثل هذا في قول قيس بن الحدادية إنه لم يكن يساوي عند قومه  عنزا جذماء جرباء ، وتجد نظيره في أخبار الشنفرى الأزدي الذي رهنه قومه هو وأمه وأخوه عند بني فهم، وذلك عندما قتل بعض قومه رجلا كان في خفرة بني فهم، ونسيهم قومهم، ولم يفدوهم، هذا بعد أن كان أبوه قد قتل غدرا وغيلة. وتجده أيضا في تعالي الفتاة السلامية عليه حين خاطبها بقوله:  يا أخية ، وحين تطاول بأن طلب إليها أن تصب الماء على رأسه ليغسله.

(2)
نشأة الصعلكة وامتدادها

نظن أن الصعلكة قديمة النشأة؛ ذلك لأن التمايز الاجتماعي (الطبقي) بين الناس في المجتمعات الإنسانية قديم النشأة أيضا، فمنذ أن عرف الإنسان التملك والاستيلاء على حقوق غيره في مجتمعه، ومنذ أن انماز الناس فقيرا وغنيا، وامتلك الأغنياء وسائل السيطرة على الثروة والسلطة، وامتلكوا للدفاع عن مكتسباتهم الظالمة سلاحا أو وسائل قانونية سادت في الأعراف والتقاليد، نشأ الصراع بين هؤلاء وبين الفقراء الذين سلبوا حقوقهم لأسباب كثيرة ليس أقلها اللون والجنس والعرق وسائر المميزات.
وإذا نحن قاربنا العصر الجاهلي بهذا المفهوم، فإن لنا ما يعيننا على تبصر نشأة الصعلكة من ناحية مجردة عن التحديد الزمني، فليس بين أيدينا، ولا في البحوث التي تقدمت، وهي كثيرة، ما يشير إلى أول من تصعلك من العرب، ولا إلى زمن بعينه بدأ التصعلك فيه.
لكن لنا في بعض الأخبار الأدبية والتاريخية ما ييسر السبيل أمامنا. ومن ذلك أن ظهور شعر الصعاليك في العصر الجاهلي جاء متأخرا عن شعر امرئ القيس والنابغة مثلا، وإذا كان هؤلاء قد نشأوا قبل الإسلام بقرن من الزمن فمعنى هذا أن شعر الصعاليك قد ظهر بعد شعرهم في الناس. غير أن هذا لا يعيننا على تبين نشأة ظاهرة الصعلكة، إنما يقربنا من نشأة شعر الصعاليك؛ ولعل لهم شعرا تقدم في الزمن لم تحفظه المصادر التي وصلت إلينا.
ولنا في الرواية التي سقناها آنفا عن الأحداث بين يدي معركة ذي قار ما يرشدنا إلى انتشار ظاهرة الصعلكة في الجاهلية، فمفاد القول الذي وجهه سيد بني شيبان للنعمان بن المنذر، وقد سقناه آنفا، أن الصعاليك انتشروا في أرجاء جزيرة العرب، وأن عددهم ازداد زيادة واضحة، حتى باتوا يملكون أمر الطرق، ويقطعونها على سالكيها وإن يكونوا من الملوك وكبار القوم كالنعمان. والناظر في التاريخ يعرف أن ذي قار حدثت في بدايات الدعوة الإسلامية؛ وقد شهدها المثنى بن حارثة الشيباني الذي جعل نداء قومه في المعركة (يا محمد، يا منصور). إذن، فالصعاليك قبيل الإسلام، ومع ظهوره، كانوا من الكثرة بحيث يخشاهم الناس في تنقلاتهم، ولا يخشاهم العاديون منهم حسب، بل كبار القوم وسادتهم وملوكهم.
ويبدو لنا أن النظام الاجتماعي عند العرب قبل الإسلام لم يكن سيئا في كل العصور التي سبقت ظهوره، بل إن مقدار السوء فيه قبل ذلك لم يكن حافزا للفرد الفقير على أن يترك ربوع قبيلته ويخرج إلى الصحراء متصعلكا يغير على من يستطيع سلبه ونهبه، ولهذا رأينا من لم يكن يحترم رأي قبيلته دون أن يخرج عليها ويحاربها، بل يظل مندغما فيها وإن رأى في رأيها خطأ. ومن هؤلاء عنترة الغربيب الأسود الذي عرف العبودية في قبيلته لكنه دافع عنها مستميتا، وفيهم دريد بن الصمة الذي آثر البقاء مندغما في قبيلته على الرغم من خطئها.
أغلب الظن كما تشير الدراسات أن النظام الاجتماعي، وطريقة توزيع الثروات، في الجزيرة العربية قد ساءا قبل ظهور الإسلام بعقود ستة إلى سبعة على أكثر تقدير، بحيث ظهرت الطبقية والتمايز الاجتماعي والمادي، وظهر نظام الرق والاسترقاق، وانماز الناس في فئات ثنائية كالأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد، والحرائر والإماء، وأبناء الحرائر وأبناء الإماء،... وهكذا. ولعل هذا التناقض لم يظهر في بيئة اجتماعية عربية ظهوره في مكة، مما أدى ببعض الفقراء الذين لم يكونوا يجدون ما يقيمون به حياتهم إلى احتراف الغزو لاستخلاص أقواتهم.
والذي يدلنا على صحة مثل هذا التحليل أن ظاهرة الصعلكة قد اختفت ـ أو كادت تختفي كليا ـ في بدايات العصر الإسلامي، وذلك لأن أسبابها ودواعيها قد انتهت بعد أن قضى الإسلام في البدايات على مظاهر الطبقية والفئوية والتباين المادي، وأحل محل النظم الجاهلية نظما أخرى عملت على إحلال العدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية، وأزالت عوامل التصنيف والتفرقة بين الناس إلا على أساس التقوى والصلاح.
من هنا نرجح أن تكون ظاهرة التصعلك قد بدأت قبل بداية شعر الصعاليك بسنوات، وأنها بدأت قبل الإسلام بعقود معدودة لا تزيد على السبعة؛ ذلك لأن بعض الصعاليك المعروفين قد أدركوا الإسلام وعاشوا جزءا من حياتهم فيه، مثل عمرو بن براقة، وأبي الطمحان القيني، وأبي خراش الهذلي، وفضالة بن شريك، وغيرهم. وقد رجحنا في دراسة لنا عن الشنفرى الأزدي أنه توفي قبل عقدين إلى ثلاثة عقود قبل الإسلام، وأثبتنا هناك أن ابنة تأبط شرا قد عاشت إلى صدر الإسلام وتزوجت وأنجبت، وهو ممن توفوا بعد الشنفرى؛ وإذا جمعنا إلى هذين السليك بن السلكة، وهو ممن عاصرهما، وكان يغزو معهما، عرفنا أن هؤلاء جميعا، وهم أشهر الصعاليك في الجاهلية ـ سوى عروة بن الورد ـ قد عاشوا قبل ظهور الإسلام بزمن قصير، وإذا رأينا أن بعض الصعاليك ممن عاصر الشنفرى وتأبط شرا وغزا معهما، وهو عمرو بن براقة، قد عمر حتى أدرك الإسلام، عرفنا حينها أن هذه الظاهرة لم تظهر قبل الإسلام بزمن طويل.
وأود هنا أن أشير إلى مرجح آخر فضلا عما تقدم، وهو أن المعاجم العربية تورد شاهدا على كون الصعلكة بمعنى الفقر قول حاتم الطائي: )غنينا زمانا بالتصعلك والغنى)، ويشير أصحاب المعاجم، وبعض الدارسين، إلى أن حاتما أول من استخدم لفظ (التصعلك) بهذا المعنى؛ فإذا قرنا إلى هذا ما أثبته الدكتور يوسف خليف في دراسته الرائدة عن الصعاليك وشعرهم من أن الصعلكة كانت بمعنى الفقر أول ما ظهرت، لا بمعنى الإغارة والسلب والنهب والخروج على التقاليد الاجتماعية والنظم القبلية، فمعنى ذلك أن حاتما كان من أوائل من عرفوا هذا المعنى. فإذا قرنا هذا إلى أن سفانة وعديا ابني حاتم الطائي قد أدركا الإسلام ودخلا فيه، وعاصرا الرسول عليه الصلاة والسلام، خرجنا حينئذ بالنتيجة نفسها: إن الصعلكة بوصفها ظاهرة اجتماعية ظهرت قبل الإسلام بزمن غير طويل.
وقد أشرنا آنفا إلى أن المقاييس التي سنها الإسلام في المفاضلة بين الناس (التقوى، والمساواة، والعدالة الاجتماعية)، وأن محقه وإبطاله لما كان سائدا في الجاهلية من مقاييس كلها يرسخ الجور والظلم والتفرقة العنصرية والجنسية. وبسبب من هذه المقاييس الجديدة أحس الصعاليك، ومن كان يمكن أن يتصعلك، أن ما يسعون إلى تحقيقه قد تحقق، ولهذا انتهت ظاهرة الصعلكة، وآل هؤلاء جميعا إلى مظلة الإسلام، وانتهوا عما كانوا يفعلون.
والجدير بالذكر أنه لم تصلنا أخبار وأشعار كثيرة إسلامية للصعاليك المخضرمين، إنما وصلت إلينا أخبار وأشعار كثيرة للصعاليك الجاهليين. ويعيد الدكتور حسين عطوان هذه الظاهرة إلى سببين اثنين هما: قلة عدد الصعاليك المخضرمين قياسا بعدد الصعاليك الجاهليين؛ إذ إن خمسة من الجاهليين هم الذين امتد بهم العمر حتى أدركوا الإسلام؛ وهم: أبو خراش الهذلي، وجريبة بن الأشيم، وفرعان بن الأعرف، وفضالة بن شريك، وأبو الطمحان القيني. والآخر أن حركة الصعلكة قد ضعفت في صدر الإسلام، وذلك لتلاشي أسبابها والعوامل التي كانت تساعد على نشأة الصعاليك وكثرتهم، ولفقدان الدوافع التي كانت تؤالف بين عصاباتهم، وتوجههم نحو الإغارة والغزو.
ونستطيع أن نرى في وضوح عند نفر من هؤلاء الصعاليك المخضرمين تأثرهم بالإسلام، واستجابتهم لتعاليمه؛ إذ توقفوا عن قطع الطريق وشن الغارات، وكفوا عن التمرد والثورة؛ إيمانا منهم بأن مجتمع الغزو والسلب قد ولى إلى غير رجعة، وأن عهد الظلم والفوضى قد استبدل به منه حياة قوامها العدل والإنصاف، ومراعاة الفقراء والمساكين والمحرومين، وإعطاء الناس حقوقهم في أموال الأغنياء والمترفين، والمساواة بينهم في القدر حتى بات بلال بن رباح نظيرا ومساويا لأبي بكر وعلي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، ومثله سلمان الفارسي وصهيب الرومي. ومن هؤلاء الذين انتهوا وارعووا أبو خراش الهذلي الذي عاش شطر حياته في الإسلام، وشهد وقعة حنين، وغزا ابنه خراش مع جيوش المسلمين في عهد عمر (رض)، ومثله جريبة بن الأشيم. أمأ أبو الطمحان القيني وفضالة بن شريك فقد ظل فيهما شيء من أثر صعلكتهما في الجاهلية، وجدير بالذكر أن ابن فضالة ظل حيا حتى أواسط العصر الأموي، وكان سيدا من سادات القوم.
غير أن ما استقر عليه الأمر في صدر الإسلام لم يستمر طويلا؛ إذ بدأت التفرقة بين المسلمين في الأعطيات من بيت المال، وعاد الأمر جذعة حين بدأ الخليفة عثمان (رض) يولي بني أمية من أقاربه على الولايات والخراج والجند، وظل الأمر بين مد وجزر حتى ثار الناس عليه وقتلوه. ثم عاد الصعاليك ليظهروا من جديد بقوة في عصر الأمويين؛ ذلك لأن الحياة الاقتصادية في عهدهم لم تكن سليمة، إنما شهدت اختلالا عظيما، ولم يك هذا عائدا لقلة الأموال الواردة إلى بيت المال، بل إلى سوء توزيعها، والظلم الذي لحق الرعية من المعارضين للحكم الأموي، والثائرين عليه، واستئثار العائلة الأموية وولاتها وعمالها والمؤازرين لها بالأموال والسلطة.
كان أكثر العمال والولاة قساة أجلافا، فرضوا على الناس ضرائب غير معقولة، فضلا عن تعرض القبائل غير الموالية للأمويين للعسف والبطش والمصادرة وفرض الضرائب الباهظة. وهكذا توزع الناس في عهد الأمويين في فئتين (طبقتين) هما: الأغنياء والموسرون الذين نعموا بالأموال والخيرات وطيب الثمرات من الخلفاء والأمراء والعمال والولاة والقبائل الموالية لهم، وطبقة الفقراء والمحتاجين ومن أراد الأمويون لهم أن يفتقروا ليستسلموا ويذلوا ويسلموا لهم بمقاليد الأمور.
وإذا كان الأمر كذلك في عهد الأمويين، فقد ساء الحال أكثر في عصر العباسيين، إذ انقسم الناس حقيقة في سبع طبقات اجتماعية، أولها الخلفاء والأمراء العباسيون، وآخرها العبيد والرقيق، وبين هاتين الوزراء والكتاب والقادة والتجار (الدهاقين) والمؤدبون والحرفيون والتناؤون...، ويمكن للناظر في كتب المقامات والبخلاء والسير أن يجد ما يفوق الوصف والخيال من رسوم طبقية بغيضة حادة؛ حتى إن العباسيين لما استقر الأمر لهم تماما (استوردوا) مؤدبين ومعلمين وأطباء وحكماء وبلغاء ومتخصصين في فن )المراسم ـ الإيتيكيت) من الهند التي ما تزال معروفة بطبقيتها البغيضة النكراء. ويكفي أن نورد ها هنا خبرين عن العسف والظلم والفقر التي سادت العصر العباسي:
قال عمرو بن عبيد للمنصور في مجلس بالبصرة:  إن من وراء بابك نيرانا تتأجج من الجور، وما يعمل من وراء بابك بكتاب الله ولا بسنة رسوله .
وقال الجهشياري في الوزراء والكتاب:  كان أهل الخراج يعذبون بصنوف العذاب من السباع والزنابير والسنانير، وكان محمد بن مسلم خاصا بالمهدي، فلما تقلد الخلافة، ووجد أهل الخراج يعذبون، شاور محمد بن مسلم فيهم، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا موقف له ما بعده، وهم غرماء المسلمين، فالواجب أن يطالبوا مطالبة الغرماء. فأمر برفع العذاب عن أهل الخراج .
وإذا كان لنا أن نمتد بدورة حياة شعر الصعاليك، وبامتداد ظاهرة الصعلكة بعد ذلك في العصور اللاحقة، فإننا نعتقد أن الظاهرة امتدت في الزمن حتى عصرنا هذا، ولكنها اتخذت أشكالا وأبعادا أخرى جديدة. نظن مثلا أن نشوء حركة التصوف في الإسلام كان مرتبطا بظاهرة الصعلكة ولكن بأثر مضاد واتجاه مختلف؛ ذلك لأن قهر السلطات المركزية وبطشها الذي مارسته على كل الخارجين (على القانون)، والرافضين للواقع الاجتماعي والمادي الظالم في المجتمعات العربية والإسلامية، قاد إلى انتشار الخوف والرهبة في نفوس هؤلاء الفقراء والمظلومين والمحرومين. مما أدى إلى انتشار ظاهرة التصوف وحركات التصوف بين الفئات الفقيرة والمحرومة والمهمشة اجتماعيا واقتصاديا.
ونرى أيضا أن الثورات التي شهدها المجتمع العربي والإسلامي على مدار التاريخ بعد ثورة الزنج والقرامطة إنما كانت محدودة، ولم يكن هناك ثورات تؤدي إلى تغيير وجه المركز أو طريقته في معالجة مسألة الثروة، والحكم، والقضايا الاجتماعية الأخرى مثل البطالة، والرقيق، والتمايز العرقي والديني والقبلي، والتفرقة الجنسية. ولهذا يمكن القول إن امتداد حركة التصعلك بدأ بالانحسار تدريجيا على مستوى الأفراد، وبدأت بعض القبائل تمارس الصعلكة بمفهوم قطع الطريق والسلب والنهب والإغارة، ولا سيما إذا قرأنا في كتب التاريخ عما كانت محامل الحج تتعرض له بين الحين والآخر.
وأما في العصر الحديث، فالشيء بالشيء يذكر؛ إذ إن الذي ثار عليه الصعاليك في العصر الجاهلي، برز من جديد، ومن ذلك التفرقة والتمييز والطبقية البغيضة، ومنها الحرمان والاستئثار بالأموال والقيمة الاجتماعية، ومنها انقسام الناس في فئتين: أغنياء وفقراء، ومنها عجز النظام العربي عن إقناع المواطن العربي بقدرته على معالجة مشكلاته وقضاياه الخاصة وكذلك العامة المصيرية. لهذا تجد كثيرا من الشعراء العرب في العصر الحديث يمموا شطر نص الصعاليك، وتقاطعوا معهم في نصوصهم، بل جعل بعضهم شخصيات الصعاليك محاور لنصوصهم الجديدة، ومن هؤلاء سميح القاسم والشنفرى، ووليد سيف وتأبط خيرا، وحيدر محمود وتأبط شرا، وناصر شبانة والشنفرى، وقاسم حداد والشنفرى، والمتوكل طه وتأبط شرا.
لقد ثار الصعاليك قديما فنيا وعمليا على النظام الاجتماعي القبلي الظالم قبل الإسلام، وثاروا فنيا وعمليا على النظام السياسي والاقتصادي الذي حكم باسم الإسلام قرونا طويلة؛ ثم انسربوا تحت وطأة القمع والقهر والتسلط والبطش والظلم والعسف في مسرب الحركات الصوفية؛ وبعضهم في العصر الحديث مال إلى التناص مع الصعاليك بما يرغب في الثورة فنيا على العسف والظلم والاضطهاد، وعلى النظام العاجز الذي لم يقو إلى الآن ـ منذ سبعين سنة ويزيد ـ على معالجة مشكلات الإنسان العربي، وحل قضاياه المصيرية: الخاصة الذاتية، والعامة الاجتماعية.
ولعلي أشير هنا إلى بعض الخصائص الفنية والموضوعية لشعر الصعاليك:
1. أنهم خرجوا على بناء القصيدة العربية الذي وصفه ابن قتيبة في الشعر والشعراء، فلم يبدءوا قصائدهم بمقدمات طللية، إنما كانت بداياتهم متنوعة بحسب الموقف.
2. أن أكثر قصائدهم ومقطوعاتهم ليست مصرعة المطالع، على غير ما ألفناه في الشعر الجاهلي.
3. أن ما نعثر عليه من شعرهم في الأغلب الأعم مقطعات لا قصائد مطولة، سوى ما وجدناه للشنفرى في لاميته وتأئيته، وبعض أشعار تأبط شرا وأبي خراش الهذلي، ولهذا أسبابه.
4. أن أشعارهم تفيض بألفاظ الغريب من النبات والحيوان وأحوالها وأحوال الإنسان والبيئة، ولعل ذلك أيضا له علته الخاصة، فهم يعتادون حياة الصحراء والجبال والأودية، ويرون فيها ما لا يراه الإنسان العادي المنتمي لمكان يألفه، كما أن أحوالهم النفسية مختلفة مباينة أيضا.
5. لا ترى في شعرهم مديحا لسواهم؛ فهم إن مدحوا مدحوا أمثالهم من الصعاليك، أو افتخروا بأنفسهم. كما أن صفات الفخر والمديح عندهم لا تتجاوز الشجاعة والكرم والنجدة والجرأة على خوض الأهوال، والصبر على الجوع، والسرعة...
6. أن الصعلوك لا يأبه كثيرا بثيابه ومظهره الخارجي ولذاته، ولا يكترث للقضايا ذاتها التي يكترث لها الشاعر المقيم من غير الصعاليك؛ فهم لا يأبهون بالدهر ولا الزمان، ولا الموت، ولا الزواج ومظاهره الاحتفالية، ولا ينتبهون لتكثير الأموال؛ وغاية النهاية عندهم الاهتمام بالخيل والسلاح واليقظة والحذر والترقب ومهارات القيافة والفراسة والعيش بأقل القليل.
7. لا تجد لدى الصعاليك اهتماما بالوطن أو حنينا إليه إلا في النادر، وهم في هذا منسجمون مع طبيعة حياتهم، فضلا عن انسجامهم مع كراهيتهم لقبائلهم التي لفظتهم وظلمتهم، وبالتالي انطبق عليهم المثل القائل (ولكن حب من سكن الديارا) معكوسا (ولكن كره...) ؛ فالصعلوك لا ينتمي إلى مكان ثابت في الديار أو الوطن، إنما ينتمي إلى الجبال والوديان والصحراء وموارد الماء.
8. لا تجد عناية بالتجنيس أو الطباق أو المحسنات في شعرهم، فما ورد منها يرد عفو الخاطر، ولعلها سمة شعر العرب في الجاهلية؛ لكنك لا تقف في شعر الصعاليك أيضا على الحكمة التي يتروى في اصطناعها الشعراء المقيمون كزهير والنابغة والأعشى.
9. لا تجد للتحكيك أثرا في شعر الصعاليك، فهم ليسوا من أتباع هذا النهج في الشعر، إنما يقولون الشعر فيحفظ وينقل فيتناقل عنهم بين الرواة، ولعل ظروف الحياة التي عاشوها تقتضي مثل هذه العفوية والمبادأة والمبادرة في فن القول.
وأسوق هنا ابياتا لعروة بن العورد يقول فيها :
وسائله: أين الرحيل؟ وسائل
ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه؟
مذاهبه أن الفجاج عريضة
اذا ضن عنه بالفعال اقاربه
فلا أترك الأخوان ما عشت للردى
كما أنه لا يترك الماء شاربه
ويقول تأبط شرا
يظل بموماة ويمسي بغيرها
جحيشا، ويعروري ظهور المهالك
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي
بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك

.alrai-related-topic { width: 100%; } .alrai-related-topic .wrapper-row { gap: 27px; flex-wrap: nowrap } .alrai-related-topic .item-row { padding-right: 1px; width: 280px; } .alrai-related-topic .item-row .item-info { padding: 15px 15px 28px 16px; border: 1px solid rgba(211, 211, 211, 1); height: 118px; } .alrai-related-topic .item-row .item-info a { color: #000; color: color(display-p3 0 0 0); text-align: right; font-family: Almarai; font-size: 15px; font-style: normal; font-weight: 800; line-height: 25px; text-decoration: none; -webkit-line-clamp: 3; -webkit-box-orient: vertical; display: -webkit-box; overflow: hidden; } @media screen and (max-width:768px) { .alrai-related-topic .wrapper-row { flex-wrap: wrap } .container .row .col-md-9:has(.alrai-related-topic) { width: 100%; } .alrai-related-topic { margin-top: 10px; } .alrai-related-topic .item-row { width: 100%; } }
.alrai-culture-art-widget{border-right:1px solid #d9d9d9;padding-right:11px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1 a{color:color(display-p3 0 .6157 .8745);text-align:right;font-family:Almarai;font-size:24px;font-style:normal;font-weight:800;line-height:39px;text-decoration:none;padding-bottom:5px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1{margin-bottom:26px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1::after{content:"";position:absolute;left:0;right:0;bottom:0;background:linear-gradient(90deg,rgba(0,85,121,.05) 0,#009ddf 100%);z-index:1;height:3px;width:100%}.alrai-culture-art-widget .img-row{width:100%}.alrai-culture-art-widget .img-ratio{padding-bottom:58%}.alrai-culture-art-widget .item-info{padding:23px 0}.alrai-culture-art-widget .item-info a{color:#000;color:color(display-p3 0 0 0);text-align:right;text-decoration:none}.alrai-culture-art-widget .item-row:not(:first-child)>a{display:none}.alrai-culture-art-widget .item-row a{color:#000;color:color(display-p3 0 0 0);text-align:right;text-decoration:none;-webkit-line-clamp:3;-webkit-box-orient:vertical;display:-webkit-box;overflow:hidden}.alrai-culture-art-widget .item-row:not(:last-child){border-bottom:1px solid #d9d9d9}@media screen and (min-width:1200px){#widget_1703 .alrai-culture-art-widget{border-right:0px;padding-right:0}}
.alrai-epaper-widget{margin-top: 20px; max-width:250px}
Tweets by alrai
.alrai-facebook-embed{margin-top: 70px;}
#widget_2097 .alrai-section-last-widget {padding-top:35px;margin-top:0;} .alrai-section-last-widget .row-element .item-row .img-ratio{ display:flex; } /* Horizontal scroll container */ .alrai-section-last-widget .full-col { overflow-x: auto; overflow-y: hidden; -webkit-overflow-scrolling: touch; width: 100%; } /* Flex container - critical changes */ .alrai-section-last-widget .content-wrapper { display: flex; flex-direction: row; flex-wrap: nowrap; /* Prevent wrapping to new line */ align-items: stretch; width: max-content; /* Allow container to expand */ min-width: 100%; } /* Flex items */ .alrai-section-last-widget .item-row { flex: 0 0 auto; width: 200px; /* Fixed width or use min-width */ margin-right: 7px; display: flex; /* Maintain your flex structure */ flex-direction: column; } /* Text handling */ .alrai-section-last-widget .article-title { white-space: nowrap; /* Prevent text wrapping */ overflow: hidden; text-overflow: ellipsis; display: block; } /* Multi-line text truncation */ .alrai-section-last-widget .item-row .item-info a { display: -webkit-box; -webkit-line-clamp: 3; -webkit-box-orient: vertical; overflow: hidden; white-space: normal; /* Allows line breaks for truncation */ } /* Hide scrollbar */ .alrai-section-last-widget .full-col::-webkit-scrollbar { display: none; } @media screen and (min-width:1200px){ .alrai-section-last-widget::after { transform: translateX(0); } } @media screen and (max-width: 768px) { .alrai-section-last-widget .row-element .content-wrapper { flex-direction: row !important; } .alrai-section-last-widget::after{ transform: translateX(100%); right:0; left:0; } }
.death-statistics-marquee .article-title a,.death-statistics-marquee .title-widget-2 a{text-align:right;font-family:Almarai;font-style:normal;font-weight:700;line-height:25px;text-decoration:none}.death-statistics-marquee .breaking-news-wrapper{width:100%;display:flex}.death-statistics-marquee .breaking-news{background-color:#7c0000;padding:22px 17px 24px 18px;color:#fff;text-align:right;font-family:Almarai;font-size:22px;font-weight:700;line-height:25px}.death-statistics-marquee .breaking-news-content{background-color:#b90000;padding:22px 18px 24px 21px;color:#fff;text-align:right;font-family:Almarai;font-size:22px;font-weight:700;line-height:25px;width:100%;position:relative}.full-container .marquee-container-widget:not(.relative-widget) .wrapper-row{position:fixed;width:100%;right:0;bottom:0;z-index:100000}.death-statistics-marquee .marquee-container-widget .title-widget-2{width:75px;background-color:#757575;color:#fff;height:60px;display:flex;align-items:center;justify-content:center}.death-statistics-marquee .title-widget-2 a{color:#fff;color:color(display-p3 1 1 1);font-size:15px;padding:16px 18px 16px 15px;display:block}.death-statistics-marquee .content-row:not(.content-row-full){width:calc(100% - 100px);background-color:#000}.death-statistics-marquee .content-row marquee{direction:ltr}.death-statistics-marquee .content-row .img-item{display:inline-flex;height:60px;align-items:center;vertical-align:top}.death-statistics-marquee .content-row .article-title{height:60px;display:inline-flex;align-items:center;color:#fff;padding:0 15px;direction:rtl}.death-statistics-marquee .article-title a{color:#fff;color:color(display-p3 1 1 1);font-size:17px}.death-statistics-marquee .title-widget-2{width:100px}#widget_1932{position:static;bottom:0;width:100%;z-index:1}