زهير توفيق - لم يكن فيلسوفا عاديّا لنمر به مرور الكرام، فقد كان مفكرا موسوعيا عملاقا، وكان روائيا ومسرحيا وقاصا ومفكرا سياسيا وناقدا وناشطا اجتماعيا. لقد كان بالفعل فيلسوفا استثنائيا، شغل عصره، وانشغل به، وانطبق عليه لقب «ديناصور الثقافة الفرنسية» لتعدد مواهبه وقدراته واستنتاجاته الخارقة.
ولد سارتر في 21/6/1905، ونشأ يتيما، عاش في كنف أمه التي تزوجت في صباه، فتربى في بيت جدته، لا يعرف إلا عالم الكبار، وألغى طفولته تلقائيا، وعاش بين الكتب التي أصبحت عالمه وألعابه، ولم يمارس طفولته في مطاردة العصافير كما يقول في كتاب مذكراته «الكلمات»، بل في مطاردة الأفكار والأحداث.
درس سارتر الفلسفة، ومارس التدريس في المدارس الثانوية، وربّى تلاميذ ومريدين، وبدأ بنشر أبحاثه ومقالاته الفلسفية، لافتاً الإنتباه اليه، وعندما اصبحت الكتابة تدر عليه دخلا ثابتا ووافرا، انقطع عن التدريس، وتفرغ للكتابة التي أصبحت معنى حياته ومصدر معاشه، وأسس مجلة «الأزمنة الحديثة» التي لعبت دورا فعالا في الحياة الثقافية الفرنسية، ونافست «المقاومة» مجلة البير كامو.
في سنة 1943 نشر سارتر كتابه الأهم «الوجود والعدم» الذي تضمن مجمل أفكاره الوجودية، وهو كتاب في غاية الصعوبة والتعقيد، وزادت ترجمة د.عبد الرحمن بدوي التعقيد تعقيدا، وأجازف فأقول: أن مجمل التلاميذ والمثقفين الذين تبنّوا الوجودية وأفكار سارتر، استمدوها من أعماله الأدبية والمسرحية التي كانت بشكل أو بآخر تفسيرا لمقولات «الوجود والعدم»، ولكن بلغة أبسط ، وبشاعرية متدفقة، وهذا ما أيقنه سارتر نفسه، فنشر تباعا المسرحيات «الذباب» سنة 1943، «جلسة سرية» 1944 «موتى بلا قبور» 1946، «سجناء التونا» 1960، «قصة الغثيان» 1938، كما نشر روايته «دروب الحرية» التي صدر منها الأجزاء الثلاثة فقط. «سن الرشد» 1945، «وقف التنفيذ» 1945 «، والموت في النفس» 1949، ولم ينجز الجزء الرابع منها.
عاش سارتر حياة حافلة بالأحداث، فقد كان مثال الفيلسوف المنخرط أو الملتزم بقضايا عصره، ومزق صورة الفيلسوف التقليدي في برجه العاجي الذي يفكر بالحقائق المجردة.
تجلّت إنسانية سارتر والتزامه بالدفاع عن المضطهدين والمستعمـرين في الجزائر، والهند الصينية، وفلسطين، وشارك مع الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسّل في المحكمة الاعتبارية لمجرمي الحرب في فيتنام، ومحاكمة الرئيس الأميركي جونسون، وقاد المظاهرات مع أقرانه وسيمون دي بوفوار في شوارع باريس لنصرة الجزائر المناضلة «مذكرات سيمون قوة الأشياء» وكتاب سارتر «عارنا في الجزائر» ، وزار أغلب دول العالم، وتضامن مع المسحوقين والمناضلين في كل مكان، من ريجيه دوبرويه الذي أعتقل في بوليفيا على إثر تصفية جيفارا 1967، الى فرانس فانون الذي كتب مقدمة كتابه الرائع« المعذبون في الأرض»، عن الثورة واستراتيجياتها في العالم الثالث، واكتشف مواهب أصبحت أعلاما في سماء الفكر والثقافة الفرنسية.
هذا ولبعض الأحداث تأثير كبير في حياته السياسية والفكرية، فعمقت هذه الاحداث إحساسه بالواقع الفكري والسياسي، ومنها ارتباطه الأبدي بصديقته الفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفوار بلا زواج، تعبيرا عن تمردهما على التقاليد والمؤسسات البرجوازية، ومنها رفضه المدوّي لجائزة نوبل 1964 بقيمتيها المعنوية والمادية، وأثبت سارتر بكتاب الإعتذار انه أكبر من الجائزة، ومن المانحين لها والمتهالكين عليها، ومنها حادثة اعتقاله في أحد معسكرات الإعتقال النازية بعد احتلال القوات الألمانية لفرنسا وكان أسعد حظا من أقرانه الماركسيين الذين أعدمتهم السلطات النازية وكان على رأسهم الفيلسوف المناضل جورج بوليتزر ومنها تحديه للنظام البرجوازي الوطني في فرنسا وعلى رأسه ديغول المهيب، فقد كان (بالإضافة للحزب الشيوعي الفرنسي)، القادر فعلا على تحدي ومعارضة سياسي عالمي يعتبر في نظر الفرنسيين رمزا وطنيا كبيرا.
تأثر سارتر بفلسفته الوجودية بهوسيرل؛الفيلسوف الظاهراتي الألماني، واتّبع منهجه الفينومولوجي، كما تأثر بمعاصره الوجودي الكبير مارتن هيدجر، الذي جنح نحو اليمين والنازية، وفي الخمسينيات والستينيات اقترب من الماركسية، إلا ان مواقفه ظلت ملتبسة، فتارة يدافع عن الإشتراكية والماركسية، وتارة يدينها، فهاجم البيروقراطية والاستبداد الستاليني في الدول الاشتراكية سابقا، والأحزاب الشيوعية التي وافقت على التدخل السوفياتي في المجر 1956 وبراغ 1968، لقمع توجهات الشعب والحزب لإصلاح الإشتراكية، وإعطاء مسحة إنسانية لها، ولكنه بقي يكن الإحترام والتقدير العميقين للحزب الشيوعي الإيطالي، وقيادته التاريخية بالميرو تولياتي، الذي كتب عنه وعن أصالة حزبه وتراثه الفلسفي ممثلا بـ(غرامشي) الذي استلهم منه أفكاره عن المثقف والسلطة.
وتوالت كتابات سارتر الفلسفية والإبداعية، واشترك وشارك في عشرات المناظرات والحوارات مع كبار مفكري فرنسا والعالم؛ جورج لوكاش، روجيه غارودي، هنري لوفيفر، كلود ليفي شتراوس، ميشال فوكو،مورياك، البير كامو، وغيرهم . وعلق وكتب مقدمات لمؤلفات لا تعد ولا تحصى، وفي سنة 1960 أصدر كتابه الفلسفي «نقد العقل الديالكتيكي» الذي لا يقل أهمية وصعوبة وتعقيدا عن كتابه الأول «الوجود والعدم» وشكل الكتاب نقلة نوعية في تفكيره الفلسفي، وكشف عما تشكله الماركسية في تفكيره الوجودي، وانتقل من الفينومينولوجيا الى المادية التاريخية؛ اي من الذاتية الى الانسان الاجتماعي، ومن المقولات الذاتية كالقلق الى الحاجة، ومن الحرية المجردة الميتافيزيقية الى الحرية الاجتماعية المشروطة بالواقع.
وتميز الكتاب بلغة فلسفية على جانب كبير من التكثيف والتعقيد، وبلغ من الضخامة في الجزء الاول ان صفحاته كانت أكثر من الف صفحة، ووعد سارتر باستكماله بالجزء الثاني الذي لم ير النور، فقد أرهقه وأرهق القراء وكبار المثقفين في فرنسا والخارج.
انطلق سارتر في كتابه من تحدي العصر والتغيرات الكبيرة في الثورة العلمية التي انعكست على العلوم الانسانية وما أصاب الماركسية من تكلس وجمود فكري، ادى الى عدم استطاعتها مجاراة التغير والتبدل، ولكن سارتر منذ البداية نوّه بأن الوجودية ليست الا أيديولوجيا الى جانب الماركسية؛ فلسفة العصر التي لا يمكن تجاوزها الا بتجاوز الزمن التاريخي الذي انتجها، فالاستغلال والندرة والحاجة وفائض القيمة والاستلاب والتشيؤ والطبقات ليست مفاهيم عقلية حسب؛ بل هي وقائع حية ينتجها نمط الانتاج الرأسمالي، وكانت مهمة سارتر تطعيم الماركسية بمقولات الوجودية الحية؛ اي الانسان الفرد في وجوده الواقعي كما تفهمه الوجودية: كائن اجتماعي زماني محدد ، خاضع للصيرورة، فالانسان كمشروع لذاته، أي يتحول ويتكون في إطار جدلي تضعه الوجودية في شروط أكثر تحديدا من تحديد الماركسية في مقولاتها المجردة؛ اي في أنماط الانتاج وعلاقاته المادية.
والماركسية بهذا الاجراء انغلقت على ذاتها، وأصابها الجمود والانيميا، وعاشت على مجموعة من القوانين المطلقة، والتصورات الاشد عمومية، والتي قامت بفرضها على الواقع الاجتماعي لكشف تلك القوانين،؛ اي تحويل الديالكتيك من منهج للتطبيق الى منهج مطبق .. ومن استقراء الواقع الى مجموعة تصورات يجب استنباطها من هذا الواقع مهما كانت خصوصيته، وغالبا ما لا يمت ذلك الواقع لتلك التخطيطات العامة بصلة، فتصبح حركة الافكار هي الصورة الوحيدة الممكنة للمعرفة، وتفقد أساسها وإحساسها بواقعها التجريبي؛ أي الممارسة الانسانية الحية التي تصبح منفية، ولا حاجة لنا بها، ولا تؤسس إطارا مرجعيا حقيقيا للنظرية.
ان دعامة علم الانسان هي الانسان نفسه لا كموضوع للمعرفة العلمية ؛ بل ككائن عضوي عملي ينتج المعرفة كلحظة من لحظات نشاطه، فلا يكفي لفهم هذا الكائن وصف عمليات رأس المال؛ بل ينبغي النظر في الانسان من حيث هو كائن مغترب كيف يتخطى هذا الاغتراب، وكيف يسعه ان يتغلب على التناقض الذي يجري بين فهم الانسان من حيث هو كائن ذو فاعلية بيّن المعرفة من جهة والانسان من حيث هو موضوع تنصب عليه الفاعلية من جهة اخرى، والوجودية لا تستطيع ان تتخلى عن القيام بهذه المهمة إزاء سلبية الماركسيين المعاصرين ما دام هؤلاء لا يقرون بما يعانيه فكرهم من الانيميا، وما داموا يتشبثون بميتافيزيقيا دوغماتية في أخذهم بديالكتيك الطبيعة بدلا من استنادهم الى فهم الانسان الحي.
وجودية سارتر
ينطلق سارتر في وجوديته من تجربة الغثيان؛ وهي التجربة الميتافيزيقية الاساسية التي يدرك فيها الانسان عرضية الوجود، ووجود الاشياء بلا ضرورة او سبب؛ اي عدم وجودها على نحو آخر، وأما هذا الوجود فلا ينفصل عن ظواهره، فلا وجود خلف الظاهرة البادية للعيان؛ اي لا وجود للشيء في ذاته، كما كان يقول كانت، ونتعرف على هذا الوجود بمستويات ثلاثة: الوجود في ذاته؛ وهو الوجود المادي للأشياء والعالم، والوجود لذاته؛ اي الوعي والشعور الانساني بالاشياء والعالم، والوجود للآخرين من حيث علاقاته الاجتماعية.
ولا نجانب الحقيقة اذا قلنا ان وجودية سارتر فلسفة في الحرية، فهي ماهية الانسان، ولا معنى لوجوده الا بها، ومن دونها فهو عدم، والانسان كائن حر بالمطلق، والحرية قدره الحتمي الذي لا مفر منه، ولأنه كذلك فهو مسؤول مسؤولية مطلقة عن أفعاله، والوجود سابق على الماهية؛ أي لا يوجد ماهية ثابتة للإنسان، فهو صانع ذاته بأفعاله، ولما هو موجود فيه رغم العقبات الموضوعية التي تدخل في حسابه كممكنات، وهي ركيزة القيم ؛ اي انها المؤسسة للقيم والتفكير، ولهذا فالحرية الوجودية ليست ميّزة مفرحة وامتيازا جميلا كما كان يتصور رجال النهضة الاوروبية، الذين دعوا للحرية والفردية للخروج من الاقطاع وقيوده؛ بل هي عبء ثقيل وقدر الانسان، ولهذا فلا مهرب للإنسان الا ان يحمل ويتحمل حريته وشقاء نفسه في عالم يفتقر للمعنى والضرورة، وان يعطيه المعنى المنشود، ويعيش فيه بوجوده الاصيل الحقيقي؛ ولا يتهرب من حريته ويخادع نفسه (بسوء النية) ويعيش وجوده الزائف، ولذلك فلا تنفصل الحرية عن القلق المصاحب للاختيار، ولا عن المسؤولية التي تبرهن على الحرية، ولا حرية من دون التزام بقضية الانسان، والانسان صيرورة ، مشروع يصنعه الانسان الحر الملتزم والمسؤول عن نفسه وعن الاخرين.
ظل سارتر سلطة مرجعية في الثقافة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وامتدت سريعا الى الفكر العربي المعاصر؛ وخاصة في الادب والفن في عقدي الخمسينيات والستينيات إبّان المد القومي التحرري، ومعارك الاستقلال، وكان لمقولاته الاثر الاكبر في توجهات واتجاهات النخبة الفكرية والادبية، وساهم كبار المترجمين والمفكرين مثل عبد الرحمن بدوي، وزكريا إبراهيم، وسهيل إدريس صاحب مجلة «الاداب» البيروتية بتعريف العرب بسارتر، فيلسوف الحرية، وبقيت أفكاره فاعلة وحاضرة حتى السبعينيات؛ حيث تدهورت مكانة الوجودية أمام تصاعد تيّارات فكرية منافسة؛ كالبنيوية، والبنيوية الماركسية، والتفكيكية، وتزامن ذلك مع تدهور صحته، وإصابته بالعمى، مما حدّ من نشاطه الفكري والعملي، فعاش على أمجاده يتأمل العالم بقرب صديقته سيمون دي بوفوار، حتى مات سنة 1980، فودع العالم ما سمّاه ديغول يوما «ضمير فرنسا»، أو كما وصفوه «عاصفــة على العصر».
هذا وما زالت افكار سارتر وخاصة الحرية وتحقيق الذات هي نفسها جوهر المشروع الحضاري العربي الحالم بالحرية، ولن يتحقق ذلك الا بالذات العربية نفسها؛ المسؤولة والملتزمة بقضايا التقدم والتحرر والاستقلال، وما دام هذا المشروع النهضوي راهنا ومشروعا، فسارتر ما زال حيّا.