د.محمد احمد عواد - تسعى هذه المقالة الى القاء الاضواء على طبيعة الخطاب الفلسفي في ضوء المتغيرات التي يمر بها الانسان في العقدين الاخيرين، فهناك ظروف جديدة افرزتها العولمة المعاصرة، وتركت آثارا بالغة على الخطاب الفلسفي في الغرب بعامة.
التغيرات الجديدة
المسألة الاولى التي تحتاج الى مراجعة دقيقة هي قضية التغير بحد ذاتها، فقد بدأت تجتاح البشرية تغيرات على الصعد كلها منذ منتصف الخمسينيات، وقد تنبه لها «الفين توفلر» منذ اوائل السبعينات، وقام برصدها في كتابه «صدمة المستقبل» ولاحقا في كتابه «الموجة الثالثة».
استنادا الى «توفلر» سيكون التغير حاسما وجوهريا، وسيقلب البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، وعلى الانسان ان يتكيف مع هذه التغيرات، واذا عجز عن التكيف سيصاب بصدمة المستقبل، ولا شك ان «توفلر» كان مدركا بان التغير هو السمة التي تحكم حياة الانسان في العقود القادمة.
وما حدث في الثمانينيات والتسعينيات هو ارتفاع معدلات التغير التي تحدث عنها «توفلر» الى عهد جديد، اخذ بعدا كيفيا لم يكن موجودا في السابق، فقد تمأسس هذا التغير في خطاب العولمة.
العولمة
كانت العولمة هي الصيغة الاشمل لهذا التغير، وقد اجتاحت العالم كله، وما تعنيه العولمة هو اندراج العالم في وحدة واحدة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وتكنولوجيا، ولم يسبق ان توحد العالم في تاريخ البشرية بهذه الصيغة، فقد كانت العولمة تظهر على شكل حالات جزئية هنا وهناك، وفي بعض السمات بصورة خاصة، ولم يكن هناك تطابق بين مستويات العالم بهذه الصورة.
ما زال كثير من المفكرين لا يرون الفارق الجوهري بين عهد العولمة في الثمانينيات والتسعينيات وبني العالم في العهود السابقة، ولا شك ان اصحاب هذه النظرة مخطئون، ولا يريدون مشاهدة الوقائع، فقد ضلوا كثيرا عن هذا الصعيد.
العولمة السياسية
توحد العالم سياسيا تحت قطب واحد هو الولايات المتحدة الاميركية، وسقط الاتحاد السوفياتي، وبدأت الدولة القومية بالانهيار التدريجي، وسيطر المحافظون الجدد على القيادة الاميركية، واخذوا يشنون حربا شاملة لتحقيق مصالحهم، وسقطت الشرعية الدولية ممثلة بمجلس الامن، فالشرعية تتبع القوة في النظام الجديد، وصاحب القوة هو صاحب الشرعية وهو الذي يقرر معايير ما هو صحيح وما هو خاطئ، وفي ضوء ذلك اصبح شارون رجل سلام، والاسلام ارهابا.
ما حدث هو ضربة قاضية لمفهوم الامبريالية والاشتراكية على الصعيد الماركسي، إذْ يبدو ان الاحلام التي راودت اصحاب المادية التاريخية لم تكن ترتكز الى رؤية واضحة، وبدأت الامبريالية الاميركية عهدا يصعب التنبؤ بمستقبله، وبغض النظر عن طبيعة هذا المستقبل فلن يكون في صالح الضعفاء والاشتراكيين.
العولمة الاقتصادية
توحد العالم اقتصاديا، فهناك منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي والشركات المتعددة الجنسيات التي تفرض النظام الاقتصادي الجديد. ويذكر صاحب كتاب «فخ العولمة»: «ان 358 مليارديرا يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 5ر2 مليار من سكان المعمورة، اي ما يزيد قليلا على نصف سكان العالم، وان هناك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الاجمالي. (ص 1).
اجتمع حشد من هؤلاء في سان فرانسيسكو في سنة 1995م لمراجعة مستقبل العالم كما يتصورونه، ويبدو من نقاشاتهم انهم تخلوا عن كل المبادئ الاخلاقية التي كانت في العهود السابقة، إذ لم يعد هناك من يخافونه، وهم ليسوا مستعدين للمساهمة في مشاريع الرحمة او حتى التخفيف قليلا من ويلات العمال والبطالة التي بدأت ترفرف اعلامها في كل مكان.
العولمة التقنية
توحد العالم تقنيا وعلميا، فالمحطات الفضائية والحواسيب الالكترونية جعلت العالم قرية صغيرة، ويستطيع الانسان اليوم ان يشاهد مباراة للدوري الاسباني ويتابع آخر صرعات الازياء في باريس واليابان.
لم تكن هناك ثورة علمية وحيدة في الغرب، ولكن هناك ثورات متتالية بدأت الاولى مع كوبرنيكس وجاليليو في حدود العام 1960م، وفي سنة 1900م اخترقوا الذرة، وفي سنة 1945م قُصفت هيروشيما بالقنابل الذرية، وفي سنة 1962 أنزل اول رجل على القمر، وبدأت ثورة الحواسيب في الستينيات والسبعينيات، وانتهينا اليوم بالثورة الجينية.
العولمة الثقافية
توحد العالم ثقافيا، فهناك طراز عالمي بدأ يكتسب القبول من الجميع مثل دخان المارلبورو، والجينز، والمأكولات الاميركية الشهيرة، ويقال ان عددا من الخبراء تقدموا باقتراح للرئيس الاميركي في العام 1997م يطالبون فيه بتوحيد العالم ثقافيا.
مراجعة
1- هناك اختلافات في درجة تحقق العولمة على المستويات الاربعة، وابطؤها العولمة الثقافية.
2- نعم للعولمة التقنية والعلم، ولا للعولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية.
3- العولمة ليست قدرا تاريخيا لا يمكن مواجهته، وهناك استراتيجيات ممكنة لمواجهة العولمة.
الفلسفة في عهود التحول
كان امرا طبيعيا ان تتأثر الفلسفة بالتغيرات التي حدثت على الصعد كلها، وهناك اشاعات كثيرة حول طرد الفلاسفة من المدن الغربية والمطالبة بالقبض عليهم، فقد دخل العالم في عهد العولمة، وجاء هذا العهد يُعلنُ بلسان ميشال فوكو ان الانسان قد مات، والمؤلف قد مات والفيلسوف الكلاسيكي ايضا قد مات، ولذلك هناك مطاردات له في كل الشوارع.
لا يجب علينا ان نأخذ الصورة السابقة بحرفيتها، فما نعنيه هنا ان الصيغة الكلاسيكية للفيلسوف التي ورثناها -من افلاطون وارسطو وابن رشد الى ديكارت وهيجل وراسل وسارتر- هي التي قد اندثرت، وبدأت تظهر صورة جديدة للفيلسوف اعلن عنها فلاسفة ما بعد الحداثة مثل فوكو ودريدا وديلوز وليوتار، وهؤلاء يركزون على التحليل والتفكيك والهامشي والعرضي، فلم يعد هناك مجال للبناءات الفلسفي الكلاسيكية، وهناك مطالبات شديدة النبرة لتحويل الفلاسفة الى قطاع العلوم الانسانية، وتصفية حقلهم المعرفي.
الازمة الجديدة
تنبه الفلاسفة في الغرب الى حجم التغيرات التي اجتاحت العالم في العقود الاخيرة، واصيبوا بالفاجعة والتي كانت سببا في نشوء خطاب فلسفي جيدد هو خطاب ما بعد الحداثة، وقد اعلن الفلاسفة الجدد ان فلسفة التنوير قد انتهت، وبذا سقطت شرعية العقل والتاريخ والحقيقة، وتحول العالم والفيلسوف في خدمة السياسي.
وبالغ بورريار بصورة تدعو الى الدهشة، فقد شكك في العالم الموضوعي، وانكر فيما اذا كان يعرف تماما ان ملجأ العامرية الذي قصفته الطائرات الاميركية فعلا، قد قُصف، فهو يعيش في عالم من النصوص، ومن الصعب الخروج من هذا العالم الى العالم الموضوعي، واعلن ليوتار ضرورة ترتيب البيت من جديد، واخذ يعد العدة لانجاز رواية جديدة، فالسرد الروائي اخذ يتبوأ مكانة جديدة عن ليوتار.
وكانت مدرسة فرانكفورت الفلسفية قد ادركت طبيعة التحولات مبكرا قبل منتصف القرن العشرين، ونجد ماركوز يكتب عن العقل الادائي الذي بدأ يسيطر على اميركا والغرب في كتابه «الانسان ذو البعد الواحد».
تعرض خطاب ما بعد الحداثة الفلسفي الى نقد من بعض الفلاسفة المعاصرين وابرزهم هابرماس الذي دافع عن التنوير والحداثة، ورد على الاعتراضات التي قدمها فلاسفة ما بعد الحداثة، واتهم دريدا وفوكو بالفوضوية في كتابه «القول الفلسفي للحداثة»، ويقول هابرماس: «انهم يوجهون نقدا جذريا للحداثة والعقل ناسين ان هذا النقد نفسه لا يمكن ان يتم خارج اللغة وخارج مقاييس البرهاني». (محمد افاية، الحداثة والتواصل، ص 235).
وعلى الرغم من اهمية الانجاز الذي قدمه هابرماس في نظريته التواصلية، الا انه لم ينجح في الدفاع عن النزعة الانسانية وخطاب التنوير بصيغة تلقى القبول على الاقل من الفلاسفة الذين ما زالوا يرون في الماركسية خطابا متماسكا، وقد تحول الفيلسوف في مدرسة فرانكفورت عن تغيير العالم الى تفسيره، متراجعا بذلك عن الدور الثوري للفيلسوف.
هناك صورة للفلسفة فرضتها التغيرات التاريخية الكبرى التي مرت بها اوروبا، وتمثلت الاستجابة الاولى بفلسفات ما بعد الحداثة، ونظر الى كل الفلسفات الاخرى الموجودة في العالم باعتبارها مضللة تخضع لشروط العقل الحداثي، ولا شك ان هناك ازمة حقيقية يمر بها العقل الفلسفي، وعلينا الاعتراف بذلك، ولا يكفي ادانة خطاب ما بعد الحداثة، والانكفاء الى مواقع الحداثة كما فعل هابرماس.
الفيلسوف العربي
تأثر الفلاسفة العرب بالازمة التي حدثت في الغرب للخطاب الفلسفي وتباينت الردود بينهم.
هناك نفر من الفلاسفة العرب الذين اعتبروا فلسفة ما بعد الحداثة هي الخطاب الفلسفي المعاصر الذي يجب ان يحتذى، ومن ثم حاولوا التوفيق بين جوانبه المختلفة.
وهناك من تبنى فوكو او دريدا ونظر اليهما باعتبارهما الحقيقة المطلقة التي وهبها الله للبشر في آخر الزمان.
لم يقم الفيلسوف العربي بانتقاد خطاب ما بعد الحداثة، ومن قام بذلك، بقي عالة على النقد الغربي تحديدا، وهناك من قدم نقدا مهما مثل صادق جلال العظم، ولكنه بقي خاضعا للفلسفة الماركسية الكلاسيكية.
وقد انشغل الفيلوسف العربي حتما بالتغيرات الكبرى التي عصفت بالعالم مثل الفيلسوف الغربي، وهو يواجه وضعا اضافيا يتعلق بشرعية خطابه، فالفيلسوف العربي عديم الثقة بالنفس، ولا يقبل ان يسمي نفسه فيلسوفا. وقلة هم الذين اعتبروا انفسهم فلاسفة مثل عبدالرحمن بدوي، يوسف كرم، عادل ضاهر، ومعظمهم لا يطلق على اعماله الصيغة الفلسفية، لانه يقارن نفسه بالفيلسوف الغربي، وطالما ان عقدة النقص هذه موجودة فلن يبدع خطابا حقيقيا.
والمشكلة الكبرى عند الفيلسوف العربي قبل ان تكون عصر العولمة والتغيرات الكبرى هي مسألة الواقع العربي المتخلف علميا وتكنولوجيا واقتصاديا وسياسيا، ويخوض الفيلسوف العربي معركة مضاعفة هي معركة الشرعية وبعد ذلك معركة العولمة الجديدة.
الخاتمة
1- تعني العولمة خضوع العالم للارهاب الاميركي السياسي والاقتصادي والثقافي، وهذا امر نرفضه كليا من جميع المواقع، اما اذا كانت العولمة العلم والتكنولوجيا فهذا نرحب به.
2- لا ينفع مع هذا الارهاب الحوار العقلاني او الفلسفي، فالمحافظون الجدد لا يحتكمون لعقل على الاطلاق، ولكن للقوة.
3- وطالما ان هذه الامة ما زالت خاضعة للاستعمار من قبل النخب العربية، فعلى الفلسفة ان تخوض حربا شرسة من اجل هتك الحجاب وبيان وهم الاستقلال الذي يعيش فيه المواطن العربي.
4- لا يجوز للفيلسوف العربي ان يتقبل النتاج الفلسفي الغربي بعامة دون نقد حقيقي، وهؤلاء الذين يصرون على ان يبقوا شرّاحا للخطابات الفلسفية لا مستقبل امامهم الا الشرح.
5- لا يجوز التقليل من الشأن الذاتي، وعلى الفيلسوف العربي ان يثق بنفسه اذا اراد ان يكون فيلسوفا حقيقيا.
6- لا يكفي للفيلسوف العربي ان يقول «لا للارهاب الاميركي» ولكن عليه ان ينتقل من مقام القول الى مقام الفعل، فالفلاسفة مهمتهم تغيير العالم .