حسين جلعاد - بزغت الفلسفة في فجر البشرية باعتبارها الوعاء الاشمل لفهم النفس والمحيط البشري، وقد هيمنت في وقت ما على تاريخ العلوم الانسانية الاخرى بوصفها النسق الاعلى الذي يعبر عن شمولية فهم الكائن والكون وما وراء الطبيعة، لكن تلك الصورة ما لبثت ان تغيرت مع صعود العلوم التطبيقة ذات النسق التكنولوجي، علاوة على اتساع وسائل القياس والمعارف الانسانية.
وقد لا نتجاوز الحقيقة اذا قلنا ان التفكير الفلسفي في الفن والادب عموما امر يرفضه كثير من الادباء والفنانين، وبدعوى تطهر المبدعين من تأثيرات الايدولوجيا فإن الصوت الأعلى السائد هو الاعلاء من قيمة الادب والابداع المتحرر من «التفلسف»، ذلك ان الحديث عن فلسفة الادب انما هو «سفسطة» فكرية تقتل ما يسمى ب«الوجه النابض» بالحياة للتجربة الادبية والفنية ذاتها، ويميل كثير من المبدعين والادباء الى دفع الشبهة بالايدولوجيا او الفلسفة حرصا على احتفاظهم بحيوية الفن وتلقائيته.
ان الرغبة في عدم تسييس النتاج الابداعي يوقع دعاة التطهر اولئك في مأزق التسطيح، ذلك ان الاصرار على ان مجال الادب الوحيد يتجلى في فرديته انما هو خلط لأوراق التفكير الانساني الامر الذي ينزع عن تلك الاعمال صبغتها الانسانية بحرمانها من فلسفة حقيقية تقوم عليها، ورغم ان الادب في مجمله قائم على التحرر والانعتاق من القيود باعتبار ان ميدانه العبقرية التلقائية، فإن ذلك لا يعني بتاتا ان تلك الاعمال رغم تطهرها لا تحمل فلسفة او لا تقوم على مقولات فلسفية حتى وان اصر اصحابها على دفع التفلسف بعيدا عن اعمالهم.
وقد تكون الفلسفة ميدانا مستقلا خاصا بذاته، الا ان الادب في حد ذاته لا يستوي دون «فلسفة» خاصة به، منبثقة من ثناياه، ذلك ان الاكتفاء بجمالية النص او العنصر الفني معزولا عن سياقاته، سيدفع قارئه الى عدم التواصل معه حيث ان التأمل الفني او الادبي الخالص يتنافى مع وحدة الانسان ذاته وبالتالي اعتماد اداة قياسية ما تربط النص تلقائيا بسائر جوانب النشاط الانساني الخارج عن النص كجزء من عملية التلقي ذاتها، والتي يكون انطباع القارئ فيها اولى عتبات «التفلسف» والفلسفةالمبثوثة في ثناياه.
غالب هلسا: الفلسفة وعلم الجمال
تمتاز كتابات الروائي غالب هلسا على نحو اساسي ببعديها التأملي والفكري الذين يندمجان في سرديته. وحسب تعبير الروائي المصري ادوار الخراط فقد كان هلسا من اوائل الذين شقوا طريقا هاما في الابداع الروائي لجهة الافصاح عن «رعب وجودي» يكتنف قدر الانسان في مداراته وتحولاته النفسية والاجتماعية، وقد تجلى ذلك في تقنيات السرد الروائية لدى غالب وخصوصا في بناء مشاهد عبر التقاطها بعين شديدة الحساسية.
بنى غالب هلسا معماره الادبي الروائي من خلال نظرته للعلاقة الجدلية بين الفلسفة وعلم الجمال والتي تنطلق من علاقة النظرية بالواقع، فقد رأى ان التعصب ينشأ عندما يسود الاعتقاد بأن النظرية هي الاساس وان الواقع قد خلق على صورتها ومثالها، الامر الذي يقود بالضرورة في منحاه السياسي والاجتماعي الى تدمير المؤسسات وسيطرة القمع البوليسي لارغام الواقع على اطاعة النظرية، وتعد رواية «الروائيون»في الخط الاساسي العام رصدا فكريا ونفسيا لهزيمة 1967 وتأثيراتها والتي تمخضت في النهاية عن نزع آخر قناع عن وجه المؤسسات ودفع الفردية الى اقصى درجاتها.
امتاز غالب هلسا بين اقرانه وابناء جيله من الروائيين والقاصين بانه مارس التنظير الفكري والفلسفي الى جانب كتابته الادبية، كما ان في رواياته على وجه الخصوص ملامح اساسية مهمة من خطوط فلسفته الفكرية العامة، والتي لم تسع فقط نحو تحرير الانسان في سياقة الاجتماعي فقط بل وطمحت نحو خلق انسان جديد من الداخل، وقد انعكس كل ذلك في بناءات روائية وطروحات فلسفية على حد سواء، بحيث جاءت تلك الفلسفة متضمنة في ثنايا الاعمال كجزء عضوي منها، وليست محض غطاء ايدولوجي مقحم عليها من الخارج.
لقد اقتحم هلسا اعتى اسوار تابوهات الحياة العربية، ليس فقط ما ثبت في مقولاتها الرسمية بل انه قدم نموذجا جماليا فلسفيا من جهة، ورسم ملامح لصورة المبدع والمثقف التثويري من جهة اخرى حتى داخل الاطر الثورية والفكرية والسياسية التي انتمى لها، وهنا نجدنا امام ظاهرة فكرية ايضا حيث ترسم ذلك منذ بدايات اعماله سواء ذات الصبغة السياسية-الفكرية او الجمالية الادبية.
ففي الوقت الذي انتمى فيه فكريا الى اطروحات اليسار العربي ، فانه قد مارس نقدا جدليا للكثير من المقولات والبنى الايدولوجية المتشنجة، الامر الذي انعكس بالضرورة في رؤاه الادبية، وهنا نجد ان التجلي الفني لرفض الواقع لديه يكمن في ثورية البناء الروائي الذي اقترحه في رواياته وقصصه وذلك عبر رفض الزمن الواقعي وخلق شخصيات هي في جانب كبير منها في منطقة مبهمة وغامضة بين الوهم والواقع، بمعنى انتمائها لصورة حلمية على نحو ما، أي في منطقة التخييل تماما بحيث يبدو ذلك معادلا فنيا لفكرة تحطيم الزمن التقليدي بكل ما فيه من مفاسد ومآزق وأزمات، وهو تجل ما لفلسفته الرافضة والباحثة عن فردوس آخر.
كما ان رفض غالب هلسا لمحددات الجمود العقائدي والدوغما السياسية، وانحيازه الى النموذج الجمالي في الانسان والمجتمع قد تمظهر في عين ناقدة التقطت الواقع الفعلي، مما تفرع عنه بالضرورة رفض لما شاع عن نمط كتابة «الواقعية الاشتراكية» وتحديدا لجهة تنميطها وتسطيحها الثراء الانساني العام في جملة من المقولات المقحمة التي لا تحفل بالوظيفة الجمالية والانسانية للفن، وهو امر لم يثر مطلقا الاهتمام الروائي والجمالي عند غالب، ولم يلب بالضرورة اشواقه المتفجرة بمختلف صنوف الابداع والفكر، بل والاهم تلك التي لم تقدم ادوات ديناميكية في التعامل مع الداخل والخارج الانساني المعقد.
امتازت الرواية الحديثة كما ظهرت في منجز هلسا بالجرأة الفكرية التي قامت على فلسفة تكشف النقاب عن امراض المجتمع دون وجل، كما انها تنظر الى الانسان من خلال موشور يحلل اطيافه ومستويات وعيه ولا وعيه، فقد نخرت التركيبات المجتمعية بسلطاتها المتعددة روح الانسان، وبالتالي تصدت الرواية الى اظهار اهوال الصراعات ومستويات التسلط المتعددة، وانبرى الروائي الى ممارسة دور الفيلسوف والمحلل النفسي والمؤرخ معا، لكشف طبقات الصراع وطبقات الوعي على حد سواء، من خلال تسليط الضوء على المضامين التي لم تجرؤ الرواية التقليدية على تحليلها او حتى الاقتراب منها كالحرية والانعتاق والتسلط والشطحات المخزونة التي تراود الانسان ويخجل من التعبير عنها اضافة الى اجواء الكوابيس والهواجس البشرية المختزنة في طبقات اللاوعي.
لقد انعكست الفلسفة الجمالية والفكرية عند غالب هلسا في تطوير انساق سردية ناقشت القضايا الانسانية ضمن نسيج كلي فكري ونفسي واجتماعي محكم في مستويات متداخلة، فالشر مثلا ومستويات التسلط ومآزق العقم الطبقي والحضاري لا تعالج معزولة عن بقية العوامل التي ساهمت في بناء الشخصيات من الداخل، ولذلك نرى الحب قد امتزج بالجنس والامل بالعجز، والجلاد بالضحية، كل ذلك في السياق الانساني، ولكن في الوقت نفسه، ضمن تمايز مستويي الاخلاق العليا والبـــــــــــــهيمية البشرية، وما يقـــــــــــــابله اجتماعيا من تعالق الضرورة بالحرية في جميع اشكالها ومستوياتها.
لقد امتاز البطل كما ظهر في جل روايات هلسا بالثورة من اجل ذاته ومحيطه في معظم الاحيان لكنه يقع ضحية نفسه ومجتمعه في نهاية الامر، ولعل اهم ما يدلل على ذلك هو شخصية ايهاب في «الروائيون» وهي قمة عطاء غالب الروائي ان جاز التعبير، ولعل السبب في تلك الخصائص التي ظهر بها البطل في ذلك الشكل يكمن في فلسفة جمعت بين شخصية المتمرد والضحية في الآن ذاته، وهي شخصية تكمن بنيتها في الجمع بين المتناقضات في داخلها، اذ تتردد بين المعاناة واللانتماء، وبين الالتزام والفوضوية، وبين القداسة والجريمة، وهو بناء ينتمي في حدوده العامة الى الظنريات الفرودية في تقسيم النفس البشرية بين الانا والهو والانا العليا، وتلك تعد واحدة من ملامح فلسفة هلسا في تعقبه لخلفيات ابطاله وبناءاتهم.
لقد تأسس على ذلك اندثار مفهوم البطل التقليدي حيث اظهره هلسا وكأنه «شهيد ذاتي الصنع» اي ذلك البطل الذي يضع نفسه في خضم الظروف التي تطحنه، على انها تعكس في الوقت ذاته صورة جديدة لزمن آخر جديد، حيث تتمثل الروح مفهوم البراءة الطفولية المقترنة بحلم الام الكبرى في مواجهة عالم معقد معاد يكون نتيجتها الانهزام في مواجهة العالم، وعموما يظهر ابطال هلسا الاساسيـــــــــون كأنهم طريدو الــــــفردوس ودائمو البحث عنه، لكن البـــــــــطل مع ذلك لا ينتهي دائما الى استعـــــــــــــــــادة «الحضن الامومي- الوطن المفقود».
ولعل السمة الابرز للرواية الحديثة عموما ولاعمال هلسا خصوصا هي اسلوبها في معالجة الداخل الانساني وتلقيه لكل ما هو خارج عنه واذا استعرنا اللغة السينمائية فإن كادر التصوير عموما ينطلق من عين الشخص-البطل نحو الخارج، وليست الكتابة الروائية في هذا الشكل رصدا او وصفا تاريخيا خارجيا، ويظهر ذلك في اسلوب معالجة القضايا والثيمات الاساسية كالحب والجنس والحرية والقمع،فغالبا ما يقع البطل في خضم المتناقضات النفسية والاجتماعية، فيدور بين شقي الرحى المتمثلين بعوالمه وغرائزة الداخلية المتفجرة التتي تلهبه بسياط التبكيت، وبين قوانين الخارج- المجتمع التي تقف لها بالمرصاد، وغالبا ما يكون الانفجار النفسي والتفســـــخ نتيجة حتمية تكشف الرواية عنها في رصدها لذلك الصراع.