د. أنور الزعبي - بادئ ذي بدء، لا بد لنا من إيضاح دلالة «عالم متغير» «العبارة التي تشكل جزءا من اسم هذا الملف» وعلاقتها بالفلسفة، وان هذا يدل حصرا على وضع الفلسفة المستقبلي، باعتبار أن العالم مذ وجد كان متغيرا، الا أن تغيره الحالي والمستقبلي بات يتسارع بشكل ليس له نظير فيما سبق، الأمر الذي يسوّغ أكثر من أي حقبة مضت وسم العالم بأنه متغير، لا سيما وان هذا التغير اصبح يتجلى بمظاهر عديدة، منها ما يمكن ان ندعوه، تجمع المكان، وتكثف الزمان، وتدافع الطاقة، وتعاظم قدرة التفكير والتشغيل بوساطة الأدوات والوسائل التي تؤمن استطالة قدرات الإنسان، فكل هذا وغيره ادى الى انفساح الأفق بما لا يحد أمام الانسان، وجعل العالم قرية كونية واحدة تعيش لحظات مشتركة مما يترك تأثيرا على الطاقة غير محدود، وينذر بقيام العولمة واستمرارها.
وإذا ما أخذنا بأن الفلسفة معنية بالنظر الكلي للاشياء، وتقديم الافكار التي بوسعها مراجعة المواقف المختلفة، وإعادة نظمها، واستشراف ما يمكن ان تؤول اليه، من منظور نقدي، فإن موضوع «الفلسفة في عالم متغير» يتحدد لدينا بما طرأ ويطرأ من تحولات كلية ناتجة عن هذا النظر ويتماهى بالتغير المتسارع.
دعونا نقترح ان العنوان الجامع الأبرز على ما يجري من تحولات، من وجهة نظر شمولية كلية، ويضمن لنا دخول مختلف التوجهات الفلسفية الطارئة، لا يتجاوز عنوان «الحداثة وما بعد الحداثة» لدلالته الواسعة واشتماله على مختلف التوجهات الفلسفية القائمة في الحاضر والمستقبل، مع التنبه الى اشكالية التصنيف باعتبار أنها تفترض المساواة في المعطيات والعناصر، من جهة كلية، في حين أن المفارقات في التفاصيل كثيرة ومتشعبة، ولا أدل على هذا من ان مفهوم الحداثة مثلا يتضمن بعض النقائض عندما يجمع الفكرين الليبرالي والاشتراكي معا في بوتقة واحدة.
ذلك ان مفهوم الحداثة، بصرف النظر عن التنازع حول الحقبة التي يشملها، يدل على معظم نتاج الحضارة الغربية الحديثة المعرفي والابداعي حتى وقت قريب «1950» في مختلف الحقول، والارتداد العكسي له قد يمتد الى بداية عصر النهضة، على خلاف في هذا بين من يرى أن الحداثة قد تشمل اربعة قرون أم قرنا واحدا فقط. أما ما بعد الحداثة فيشمل انتاج هذه الحضارة المعرفي والابداعي الذي يتجاوز فترة الانتاج السابق ويتماهى بالحقبة المعاصرة المعيشة تماما.
ومع ان لهذين المصطلحين ايضا اشكاليتيهما والتي لا بد لها من حلول: الا إننا سنتجاوز في هذه المقالة عن هذا، مذكرين بسوء استعمالهما، لنحاول التعرف على طبيعة توجهات ما يدعى بالحداثة وما يدعى ببعد الحداثة، والجوامع المشتركة بينهما، والدلالات المختلفة لهما، بما يهيئ لنا التعرف على المعنى والدلالات لهما معا.
ولا أفشي سرا اذا ذكرت بأنني الى عهد قريب كنت اتساءل، وبسبب من اشكالية المصطلح تحديدا، عما تعنيه الحداثة وكذلك ما بعد الحداثة، مفضلا تسمية المذاهب والنظريات بأسمائها، ولكم فوجئت بدلالات لم أكن أتوقع ان تنضوي ضمن مفهوم الحداثة، أو ما بعد الحداثة، الأمر الذي يزيد في حدة اشكالية المصطلح ويفرض وضع حل لها .. غير أننا مضطرون للتعامل مع هذا والمضي في التعرف على ما تعنيه الحداثة وما بعد الحداثة من وجهة نظر المنظرين لهما.
ان مفهوم الحداثة، من وجهة نظر هؤلاء، بات حصرا يعني جملة من المسائل:
1- ان الحداثة تعني الطموح الى الاعتماد على العقل الانساني وحده بازاء الطبيعة مصدرا وحيدا في انتاج المعرفة وتداولها ورسم سياسة المصير، في مقابل «القدامة» والتي تنطوي على مصادر وتداولات للمعرفة تتجاوز العقل في عرفهم كالوحي مثلا .. وهذا يؤدي الى نظام اجتماعي عقلاني شمولي لا تأثير فيه لغير العقل، وقد تحقق هذا لا سيما من خلال الأخذ بالليبرالية وتطبيقها الأمر الذي يبرر رسم هذه الحضارة بالحداثة.
يعبر أحد منظري الحداثة عن هذا بقوله: «إن ما يميز الفكر العربي في أقوى لحظات تماهية بالحداثة هو ارادة الانتقال من الدور المحدود لعملية العقلنة الى فكرة المجتمع العقلاني الأكثر شمولا والذي لا يقوم العقل فيه بتوجيه النشاط العلمي والتقني حسب، ولكنه يوجه حكم البشر وادارة الاشياء»، وانه «لا ينبغي للنظام الاجتماعي ان يستند على شيء آخر سوى القرار الانساني» وطبقا لهذا «يجب ان تحل معرفة قوانين الطبيعة محل تعسف الاخلاق الدينية» ذلك أنه «لا المجتمع ولا الحياة الفردية تخضع لارادة كائن أسمى يجب الاذعان له».
إذن فنحن هنا بازاء مرجعية مختلفة في فهم العالم وتغييره عن المرجعيات السابقة، ولا تقر بفاعلية بإزاء الطبيعة والمجتمع الا للانسان، وبالتحديد عقله.
بطبيعة الحال يمكن رد مثل هذه النظرة الى مقولات كثير من الفلاسفة دون ان يعني هذا اقتصارهم عليها كجون لوك مؤسس الليبرالية حين يقول: «إن الله بإعطائه العقل الانساني لكي يوجه فعله قد منحه ايضا حرية الارادة وحرية التصرف». او مقولة نيتشه بأن «الله قد مات» او غير هذا، لذا فإنه من الصعب رد الفهم السالف للحداثة وتحديدها الى فلسفة بعينها .. وبما أننا هنا بازاء الفكر الليبرالي الرأسمالي، القطب المحوري في الحداثة، وسيادته المتأخرة، فمن المنطقي ان لا ينظر الى التحديث سوى أنه «قطيعة مع الماضي وتشكيل نخبة رأسمالية خالصة .. فهذان شرطان لتشكيل مجتمع حديث» وبالتالي فإن منظري هذا الفهم للحداثة والتحديث لا يقرون بغير حداثتهم «ويوحدون غالبا بين تحديثهم والحداثة بشكل عام»، غير أننا سنرى ان مضمون الحداثة يشتمل على اوسع من هذا وينظم عدة توجهات فلسفية كالتوجه الاشتراكي مثلا وكذلك التوجه العلموي البحت «اشترك الليبراليون والماركسيون في الثقة في ممارسة العقل» بل «كانت الشيوعية هي الشكل الاكثر طموحا والاكثر عنفا للدولة التحديثية الثورية، فباسم العلم وقوانين التاريخ شرعت في تدمير نظم الحكم القديمة». وهكذا فإن «الغرب تمثل الحداثة وعاشها كثورة، العقل لا يعترف بأي مكتسب من الماضي، بل على العكس يتخلص من المعتقدات وأشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي التي لا تؤسس على أدلة من النوع العلمي .. وهو ما نسميه الحياة طبقا للعقل» ومن هنا تبرز العلموية او العلمنة، وهي ذات صلة بالعلمانية باعتبارها نقطة بارزة وشبه وحيدة في التوجه الحداثي .. إذن فالحداثة تتحدد بالعيش طبقا للعقل وحده.
يستتبع هذا التصور ان كل فكر لا يعود في مصدره للعقل بالتحديد أعلاه هو فكر مرفوض وينبغي القطيعة معه، ويشمل هذا على وجه الخصوص الافكار الدينية والميتافيزيقية والعادات والتقاليد والمشاعر التقليدية، وترى فيها جميعا عائقا أمام تقدم المجتمع والمسيرة الانسانية وتحقيق الخير والسعادة للجميع، ذلك «ان التحديث يفرض تحطيم العلاقات الاجتماعية والمشاعر والعادات والاعتقادات المسماة بالتقليدية، وأن فاعل التحديث ليس فئة او طبقة اجتماعية، وإنما هو العقل نفسه والضرورة التاريخية التي مهدت لانتصاره» وهذا يقتضي «تدمير النظم القديمة» لأن «صورة العالم القدسي متغلغلا في الخبرة اليومية هي صورة معادية للحداثة»، وبهذا تتحدد الحداثة من جانب بأنها «معاداة للتراث وسقوط الاعراف والتقاليد والعقائد، هي الخروج من الخصوصيات الى الدخول في الكونية»، ولنلاحظ هنا ان الحداثة تفترض ايضا العالمية او الأممية ووجوب تعميم النموذج الحداثي على الجميع.
طبقا لهذا التصور فإن الانسان سيد مصيره ولا ينبغي ان يخضع في سيره لغير مقتضى العقل ومنتج العلم وما يحققانه من نظام اجتماعي، والمجتمع هنا كما تحدد ادبيات الحداثة هو اما المجتمع الكوني كما سلف، أو هو المجتمع القومي كما هو واقع الحال في كثير من المجتمعات الحداثية، ويحل المجتمع بهذه الصفة محل الله في الفكر التقليدي .. يقول احد المنظرين: «ان صياغة فكر سياسي اجتماعي جديد هو التكملة التي لا غنى عنها للفكرة الكلاسيكية عن الحداثة في ارتباطها بالعلمنة، يحل المجتمع محل الله كأساس للحكم الاخلاقي ويصبح مبدأ للتفسير وتقييم السلوك»، «وإن العلمنة وإزالة سحر الاوهام تحددان الحداثة باعتبارها عقلنة».
العلمنة هنا او العلموية وكذلك العالمية ليست بعيدة عن العلمانية، فإذا كانت العلموية تعني اعتبار ما يفرزه العلم مرجعية معرفية وصيرورة مستمرة التطور، فإن أي مرجعية اخرى كالدين ينبغي اقصاؤها، لذا اقترنت نظرية الحداثة بالعلمانية، فضلا عن العلمنة او العلموية، وتحددت الحداثة برباط وثيق بالعلمانية، غير أنه تجدر الاشارة الى ان العلمانية قد تعني احيانا تحييد الدين حسب وهي بهذا ليست مذهبا يتماهى بالعلمنة، بل مناخ محايد تترك فيه الحرية للاعتقادات الفردية على ان لا يمس هذا او يتدخل في شؤون المجتمع المختلفة كالسياسة مثلا .. ولعل هذا ما يفسر اختلاف الكثيرين حول العلمانية قبولا او رفضا، لا سيما في المجتمعات غير الحداثية.
بالطبع ان التصورات السالفة تسلم بأن الوجود بجملته ذو طبيعة موضوعية مستقلة، وأن لا فاعلية فيه لغير المادة والانسان، عقله، وإنه باستثمار علاقتهما ببعضهما بعضا يحقق الانسان الحضارة والمدنية ومزيدا من حريته ورفاهه وبالتالي فإن النظريتين الدينية والميتافيزيقية لا تجديان في تحقيق شيء مما يبرز النظرة الوضعية على اعتبار «أن المفهوم التقليدي للحداثة هو قبل كل شيء بناء صورة عقلية للعالم الذي يدمج الانسان بالطبيعة»، «فالعقل وحده هو الذي يعقد الصلة بين العقل الانساني والعالم»، وهذا بطبيعة الحال يذكرنا بفكرة «اللوجوس» القديمة التي تنظم العالم، غير ان «اللوجوس» هنا انساني طارئ وليس مفارقا، وهو محدود بعلاقة الانسان بالطبيعة، وليس ناظما لكل الاشياء.
ما يلاحظ هنا وفيما سبق ان العقلانية المشار بها وان باتت هي المرجع والفيصل في الحكم على مختلف المسائل، فهي تحتاج الى تحديد الامر الذي يلزمنا بتقصي دلالات هذه العقلانية، لا سيما من ناحية البعد المعرفي والمنهجي .. فما هي العقلانية من هذا الجانب، واي مناهج تسندها؟
واضح ان العقلانية تتحدد هنا بالعلاقة بين الانسان والطبيعة، فكل ما يثمر في التعرف على الطبيعة علميا واستثمارها انسانيا هو الذي يمكن وسمه حداثيا بالعقلانية، ويشمل هذا علاقة الانسان بالانسان وعلاقته بالمجتمع وبالطبيعة، فكل هذا يخضع للنظر والدرس والفحص لاتخاذ قرارات بازائه، وبهذا يتحول الوجود برمته الى وجود انساني يكون فيه الانسان هو الوسيلة والغاية باعتباره منتميا الى مجتمع .. واذا ما تقصينا المناهج التي يمكن الاستعانة بها على تحقيق هذا، والتي تشكل اصولا مرجعية منهجية، سنجد انها معنية بالبداهة، والتجربة، والاستدلال بأنواعه، والحدس نسبيا، وما يتصل بهذا من مناهج فرعية ومذهبية، كالمنهج التاريخي، والمنهج الجدلي، والمنهج الاحصائي، والظاهراتي، والتحليلي اللغوي، والبنيوي، وغير هذا من مناهج وثيقة الصلة بالأصول .. وهذا يعني استبعاد الفطرة، والرؤيات والوحي، وكل الدعاوى الاخرى التي تتجاوز تلك المرجعية، واذا جاز لنا ان نعدد الرؤى الفلسفية والمذهبية الحديثة التي تستند الى مثل تلك المنهجيات لوجدنا انها تتمثل بالمذاهب الكبرى، الوضعية، الليبرالية، الاشتراكية، الظاهراتية، الوجودية، وغير هذا مما لا يستبعد كطروحات الفلاسفة الشموليين بدءا من «ديكارت»، و «كانت» وصولا الى «رسل» وفلاسفة التحليل .. على التفاوت بينهم في الأخذ بهذا او ذاك او تجاوزهم الجزئي له في أمر أو آخر.
بطبيعة الحال توجد الى جوار التوجهات السالفة، ضمن الحضارة الغربية الحديثة، توجهات بقيت على صلة وثيقة بالدين والميتافيزيقيا وطروحات الماضي، الا أن لفظ الحداثة لا يشمل هذه التوجهات رغما عن التطور الملحوظ فيها، والتأثير الذي لحق بها، كالقوماوية الجديدة، او الفلسفات اليهودية المعاصرة، او المسيحية المعاصرة، وغيرها .. لكنها تعتبر خارج الحداثة ومقصرة عن اللحاق بركبها، ينطبق هذا ايضا على جميع التوجهات الفلسفية خارج نطاق الفكر الغربي الحديث، كالفلسفات الصينية واليابانية، والعربية الاسلامية.
ما يلفت النظر هنا ان مثل هذه التصنيفات تسمح بكثير من الخلط في المسائل، الأمر الذي يضيف الى اشكالات مفهوم الحداثة اشكالات مضاعفة، فجميع التوجهات حداثية وغير حداثية، تقر بالعقلانية اساسا، ولا نرى غير الحداثية منها، في أخذها بالدين او الميتافيزيقيا تجاوزا للعقل، بل ترى انها تستند اليه في كل توجهاتها .. يضاف الى هذا ان مذاهب متباينة بل ومتصادمة تنسب للحداثة وتندرج ضمن وصف حداثي، في حين ان مذاهب متوازية ومتساوقة تخرج عنه.
بطبيعة الحال فإن التحديد السالف للحداثة واعتبارها قمة التقدم ونهاية المطاف في الإنجاز الانساني، كان دوما عرضة للنقد، بل إن بذور هذا النقد قد برزت من داخل توجهات الحداثة ذاتها، فضلا على النقود التي تعرضت لها من خارجها، اي من قبل التوجهات التقليدية، كالنقد على اساس ديني، وهذا بالتحديد ما انشأ توجهات ما بعد الحداثة اصلا .. فمن بين هذه البذور ـ في رأينا ـ والتي تعتبر من صلب الحداثة ذاتها، تلك المذاهب والنظريات التي يمكن اعتبارها ناقدة للفهم السالف للعقلانية، او هي تتجه به اتجاها آخر لا يسمح باستقرار مفهوم العقلانية على نحو دون آخر، ومن بين هذه التوجهات:
1- المذهب الاكسيومي وهو يفيد بأن الحقيقة ذات طبيعة نسقية تعتمد على الاوليات المعرفة، بما فيه البديهيات والمصادرات والمسلمات وأن اي اختلاف في نوعيتها يؤدي الى اختلاف في مسار النسق، مع بقاء النسق ذاته غير متناقض من الناحية المنطقية، الأمر الذي يسمح ببناء العديد من الأنساق المختلفة ولكنها مسوغة جميعا، وعليه، فثمة بدائل او وجهات نظر مختلفة بازاء الموضوع الواحد وكلها منطقي، كمقولة المكان مثلا، وأنه يمكن افتراض مستويا، او محدبا، او مقعرا، مثلما هو الحال في الهندسات اللااقليدية .. ان هذا يقود الى انه لا توجد حقائق مطلقة ولا نسق بعينه يمكن اعتباره يقينيا ورفض باقي الانساق لصالحه.
2- النظرية النسبية، ومعروف ان القيمة ضمن هذا التوجه ليست مطلقة بل نسبية، وتعود الى المنظار الذي ننظر من خلاله الى المسائل، الأمر الذي لا يجعل الحقيقة مطلقة وواحدة لدى الجميع، وتدعو لاعتبار الشيء ذاته مختلفا باختلاف الجهة التي تنظر من خلالها اليه .. يقول احد الباحثين: «ان النظرية النسبية كشفت عن حقيقة المفاهيم التي اعتقد الانسان فيما مضى انها مطلقة لقد أصبح معظمها نسبيا وتبين أنه لا توجد لدينا أية أسس منطقية او علمية تجعلنا نفترض محاور مرجعية معينة ونتخذها دون غيرها للقياسات المكانية والزمانية، ذلك ان كل ملاحظ يعتقد ان محاوره هي الحقيقية وان المحاور الأخرى ظاهرية».
3- نظرية النموذج، وهذه النظرية ترى أنه لا يوجد نموذج نهائي ومطلق في تفسير الحقائق، وأن ثمة ثورة مستمرة في تكوين التصورات العلمية بازاء اي عصر، وكل ما في الأمر بالنسبة للحقيقة هنا هو تفسيرها لأكبر عدد ممكن من الوقائع، وبهذا الاعتبار فالنموذج واقعي وعلمي، ولكن هذا النموذج من المملكن ان يعدل وان يصوب او تدخل عليه ثورة مما يسمح بتغيير النموذج ليصبح اكثر شمولا لوقائع لم يكن متيسرا تفسيرها حسب النموذج السابق، الأمر الذي يؤكد صلاحية النموذج الجديد وحلوليته محل القديم، ولا يدع نموذجا بعينه نموذجا نهائيا، يقول أحد الباحثين «ان التقدم الفكري والعلمي يتكون من ازاحة نموذج اصبح عاجزا عن تفسير حقائق جديدة او مكتشفة حديثا، واحلال نموذج جديد يفسر تلك الحقائق بطريقة اكثر مقبولية».
ويشبه الامر أنه «لكي يشق المرء طريقه عبر ارض غير مألوفة فإن ذلك يتطلب وجود خريطة ما، ورسم الخرائط مثل المعرفة نفسها».
والنموذج ليس سوى خريطة أولية قابلة للتعديل باستمرار.
4- نظرية الاحتمالات و «الكوانتا» في الفيزياء الذرية، وهي متشعبة في كثير من الحقول ومن بينها الاستقراء والسببية، غير ان الفيزياء الذرية عالجتها بأبعاد جديدة تدعو الى الارتياب بحتمية العلم «فالحتمية العلمية تقوم كلها على الاعتقاد في امكانية توقع موقع الجسم اذا عرفت سرعته، وبما ان هذا التوقع اصبح مستحيلا في الفيزياء الذرية، فالتصور الكلاسيكي للحتمية ينهار تماما ليحل محله الاحتمال.
اما «الكوانتا» وهذه النظرية عميقة في الفيزياء الذرية، فيقول أحد الباحثين حولها: «اذا كنا في الفيزياء الكلاسيكية نلاحظ ان ادوات القياس لا تؤثر، في الموضوع الذي نقيسه فإن الامر ليس كذلك في عالم الميكروفيزياء، ان ادوات القياس تؤثر بشكل واضح في الموضوع نفسه، وبالتالي فإنه الذات والموضوع يتعاونان بالضرورة على صنع الشيء الخارجي، فالجسم إذن هو مزيج من الذاتية والموضوعية، وبالتالي فإن العالم الخارجي شارك الذات في صنعه، ومن هنا المسحة الثمالية التي ترافق الوضعية الجديدة».
5- تعدد القيم في المنطق وتجاوزه للقيمة الثنائية التي تفترض الواجب والممتنع او الصدق والكذب فقط الى ما هو مفتوح في دائرة الممكن بحيث يتيسر وجود منطق ثلاثي القيم او رباعي وغير هذا «لذا ينبغي تكميل المنطق الثنائي القيم بالانسان المنطقية المتعددة القيم، بما فيها النسق لا تتباهى القيم، الذي يستخدم في مجرى الحكم على موضوعات تنعكس في مفاهيم ذات ما صدق غير معينة، وتكون قيم صدقها اللامتناهية واقعة بين الصفر والواحد.
إن هذه النظريات في مجملها، وغيرها، مما يندرج ضمن الحداثة، لا تسمح بترسيخ التصور الذي تحاول اتجاهات الحداثة تأكيده، من ان العالم موضوعي تماما، وأنه خاضع للحتمية، والعقلانية الموصوفة، ولا يسمع بسيادة نموذج وحيد وضروري يمكن على أساسه تسيير الحياة الانسانية، الأمر الذي يستدعى مزيدا من النظر والبحث، والتوقف عن النظر الى سيناريو واحد، بل سيناريوهات ممكنة او مرغوب فيها .. الخ .. وهذا يؤدي الى أن الحكم بكيفية نهائية ومطلقة، مثلما هو طرح نهاية التاريخ، إنما هو خاطئ، وان استعمال مفهوم الحداثة بما يوحي بنهائية الأمور هو غير مستقيم مع النظرة العلمية ذاتها، الأمر الذي يبرر تأكيدنا بوجوب التخلف من اشكالية المصطلح بأوجهها المختلفة ... ثم ان النظم التي اعتبرت حداثوية في الجوانب الطبيعية والاجتماعية والسياسية، وان اسهمت في تقدم الانسان ويسرت له اشباع كثير من حاجاته، وهذا مما يحمد للاتجاهات الحداثوية في كثير من المسائل، الا أنها تركت جوانب سلبية ملحوظة، وفي هذا الصدد يمكن التذكير بأسلحة الدمار الشامل، وتدمير البيئة والاستعمار الجديد، والاستغلال، وكثير من المظاهر السلبية التي افرزتها الحداثة وتدعو الى نشوء قيم تحاول النظم الحداثية تبنيها، كالحد من انتشار الاسلحة، والحفاظ على البيئة وحقوق الانسان، والتعددية، والديمقراطية، وغير هذا.
يضاف الى هذا ان تحولات جسيمة، بات العصر تبعا لحداثته يفرزها، كالعولمة الاميركية والعلموية، والأتحتة والتخايلية، والفصامية، والعنفوية، مما لنا فيه رأي ليس هذا موضعه.
كل هذا وغيره بات يصب في توجهات ما بعد الحداثة والتي تبدو وكأنها في معظمها رافضة لمسيرة الحداثة الموصوفة، وبطبيعة الحال يمكن اضافة تنبيهات وارشادات نهض بعبئها فلاسفة ممن ينتمون الى عصر الحداثة، ولكن افكارهم اثرت بتوجهات ما بعد الحداثة كنيتشة، وفرويد وغيرهما.
والآن ما هي طبيعة توجهات ما بعد الحداثة وكيف يمكن لنا التعريف بها؟
في الواقع توجد صعوبة كبيرة في تعداد وتصنيف توجهات ما بعد الحداثة وكيف تلتقي وكيف تختلف؟ الا أننا رغما عن هذا سنحاول لملمة المسائل واقتراح تصنيف يرجع هذه التوجهات الى تيارات ثلاثة:
1- تيار العدمية الايجابية.
2- تيار الفلسفة الصنعة او الذكاء الصنعي.
3- تيار النقد الذاتي.
ولكل خصائصه المختلفة عن غيره .. ولكن رغما عن هذا فإنها تلتقي غالبا في رفض الحداثة الموصوفة والبحث عن اتجاه جديد او معدل او مكمل، وتنطلق من ان الحداثة في أزمة .. ثم ان علنيا أن نأخذ بالاعتبار التوجهات التقليدية ما قبل الحداثية، فلها نقودها ايضا، أي النقود الناشئة عن أفكار دينية او ميتافيزيقية سواء في المجتمعات الغربية او غير الغربية، لا سيما الفكر العربي الاسلامي، وكذلك التوجهات العبثية التي لا يمكن حصرها .. فكل هذا خلق وضعا دراميا لما وسم بالحداثة، ويشكل ثورة معرفية حقيقية ليس في حقل الفلسفة حسب، ولكن في العلوم وفي الفنون، فإذا كانت الحداثة ذاتها قد أعلنت موت الإله في جانب، فإن ما بعد الحداثة اعلنت موت النص جملة، وستبين لنا هذا باستعراض التوجهات السالفة من خلال بعض النصوص المعبرة.
تيار العدمية الايجابية، يصف أحد الباحثين هذه العدمية بانها «سلب للوجود، وهي النصف الآخر الذي يقابل الوجود .. وهي قوة او نشاط ذاتي يقوم به الفرد للتعرف على تاريخ الوجود من خلال الموجود هنا والآن».
ويرى ان الفلسفة بحد ذاتها «عدمية مطلقة» .. و «موقف رافض ومهدم ومدمر لجميع النصوص، وذلك لإفساح المجال لانطلاق الجدة والجديد». وهي لا تعيش الا من خلال الصرع والصدام والالغاء والتدمير والرفض والاختلاف وتدمير العمارة الفكرية والبناءات اللغوية والقواعد.
وإن الأنا النصية كان اعظم انتاج تم في النصف الأخير في القرن العشرين، ويمكن اجمال مقولات العدمية الايجابية بأنها الرفض المطلق لما هو قائم بالمعنى التقليدي، وتحقيق الشفافية لرؤى أبواب المستحيل، والانتحار البطيء كمقاومة اصيلة، وتدمير سلطة الذاكرة، والغاء الأنا السردية والنصية، وإذابة شيئية النص ورفض هيمنة السلطة والملكية.
وإن هذا جميعا قد حصل أو انبثق عن «النضال الكبير الذي يخوضه الفوضويون» والصعاليك، والارهابيون وشذاذ الآفاق والمنحرفون، والزنادقة والملحدون واليساريون المتطرفون، والمهمشون، والمنبوذون، فهم الأمل الكبير في الغاء الاستلاب والغاء سيطرة الملكية والمؤسسات الانسانية، وهذا يعنى في مجمله محايثة الوجود ذلك ان التقدم الانساني لن يتم وينطلق الا من خلال المحايثة، التي هي قدر الانسان ومرجعة .. وان مجمل الشرور التي رافقت الانسان منذ بدء الحضارة مرجعها التعالي والمفارقة.
ولا يؤمن هذه المحايثة بشكل كبير «الا تأسيس وعي جديد قيمة عدمية، لا تخضع لقانون او معيار او عرف، الأمر الذي سيفرز قيما اجتماعية واخلاقية وفنية وعلمية وشعرية جديدة.
وبهذا فإن اتجاه العدمية الايجابية لا يركز على البحث عن نقطة بدء جديدة حسب، بل إدانة ما كان موضع استحسان واستحسان ما كان موضع ادانة، عبر التاريخ تقريبا.
2- تيار الفلسفة الصنعة، او الذكاء الصنعي ويبدو ان هذا التيار مكمل للتيار الاول، يقول احد الباحثين: ثمة طريقان امام الثقافة والهوية الجديدة اللاانسانية، الطريق العدمي اللاوجودي والطريق الصنعوي التكنولوجي العلموي، والانسان محصلة هاتين القوتين الهائلتين، صراع عدمي صنعي، الطريق الاول الهم الشعراء والفلاسفة والمفكرين، والثاني طريق العلماء في صراعهم مع الطبيعة، والذكاء الصنفي هنا يحيل الى المعلوماتية والتكنولوجيا المتطورة، يقول الباحث نفسه: «المعلوماتية التي انطلقت من عقالها بعد الحرب العالمية الثانية. حملت في طياتها مسلمات جديدية فأرست قواعد ما بعد الحداثة، وما بعد الفلسفة، وما بعد الحضارة، وما بعد التاريخ، وما بعد الانسان .. ألغت او اتمت التاريخ القديم واطلقت اللاانسان».
وبهذا «لم تعد الحقيقة في الطبيعة كما ارادتها الفلسفة اليونانية، ولا في عقل الانسان كما أرادها كانت، وإنما اصبحت في الأنا أفكر الصنعي، الذي امتد مع البناءات الفكرية والمصنوعات التكنولوجية والأجهزة العلمية الدقيقة والآلات المفكرة التي ابتدعها الانسان».
وبهذا فهي انقلاب ايستمولوجي وانتولوجي حيث «ان الوجود لم يظهر ولم يتجل لا في التجربة العلمانية «الحداثة» ولا اللاهوتية: «لم يكن مستهدفا الا من خلال الفكر واللغة والخيال .. لكن ثورة التكنولوجيا الحديثة الغت هذا العقل كما ألغت مقولة وجود سابق على التكنولوجيا وعلى الوجود الصنعي، ولم يعد الوجود في أس الموجود الخام او في المادة والاستقصاءات، وإنما اصبح صنيعا تكنولوجيا».
لم يعد الوجود يونانيا او مسيحيا بل تحول الى تكنولوجي علموي .. لقد هزمت التكنولوجيا الوجود .. ولم يعد التجسد في الانسان بل في الآلة الذكية .. لم يعد المسيح هو الحقيقة في المشروع الغربي، بل الحقيقة هي تكنو ـ علمي ـ لوبيا، وهي بذلك تقترب من الآلة الذكية ومن الفلسفة الصفة، وسينتهي الوضع الى ان المساحة المفكرة ستكبر ويسيطر الانسان على الآلة بمساعدتها ويصبح سوبرمانا.
ذلك ان الآلة الصنعية هي جوهر الحقيقة، ومن دونها يظل الإنسان عاجزا عن إنجاز او إتمام مساره التحرري .. الفضاء الجديد ليس يونانيا بل صنعي تكنولوجي يمهد لقيام فضاءات اخرى أكثر تطورا وابعد مدى، واكثر توغلا في التكنولوجيا التي تكون ماهية الانسان.
3- تيار النقد الذاتي، ويرى أصحاب هذا الاتجاه ان الحداثة جيدة ولا غنى عنها، ولكنها تحتاج الى تصويب بما يحقق بديلا معقولا للدين والاخلاق التقليدية، وليس هذا البديل سوى تحقيق الذات الانسانية، وبهذا فإن اختزال الحداثة الى العقلنة او العلموية غير كاف، لذا ينبغي اعادة اكتشاف جانب في الحداثة ذاتها كان قد نسي او حورب بواسطة العقلانية المنتصرة. وتحقيق الذات هنا ليس بعيدا عن الابتكار المتصاعد لعالم اصطناعي نتيجة الفكر والعقل الانسانيين، الا أنه «لكي نتمكن من الكلام عن الحداثة ينبغي العثور على مبدأ للتماسك في هذا العالم المتناقض، وينبغي ان نعيد جبر شظاياه»، فقد «ظلت الحداثة لوقت طويل لا تتحدد الا بفاعلية العقلانية الأداتية، أي بالتحكم في العالم، والذي صار ممكنا بواسطة العلم والتكنولوجيا، لا ينبغي رفض هذه النزعة العقلانية في أي حال، لأنها السلاح النظري ضد كل النزعات الكلية، وكل الشموليات وكل الاصوليات، لكنها لا تعطي فكرة كاملة عن الحداثة، بل هي تخفي نصفها، وهو انبثاق الذات الانسانية كحرية وابداع، ليس هناك وجه واحد للحداثة، ولكنهما وجهان ينظر كلاهما للآخر، ومن الحوار بينهما تتشكل الحداثة، وما يتحدد به معنى الذات هنا «هي قبل كل شيء خلق عالم منظم بواسطة قوانين عقلية ومعقولة بالنسبة للفكر الانساني، بحيث يتماهى تشكل الانسان كذات كما نرى في برامج التعليم، مع تعلم الفكر العقلاني القدرة على مقاومة ضغوط العادة والرغبة».
لا توجد حداثة من دون التفاعل المتنامي بين الذات والعقل، بين الظهير والعلم، تحقيق الذات هو نقيض خضوع الفرد لقيم تتجاوزه.
فكرة الذات كمبدأ اخلاقي تتعارض مع فكرة سيطرة المجتمع على العواطف.
لا يكون هناك مبدأ للاخلاق خارج حق كل شخص في أن نحيا بحرية رغباته الفردية، وهذا موقف طبيعي يؤدي الى الغاء كل قاعدة».
من الافضل معارضة اخلاق النظام المرتبطة بالرؤية المراتبية للمجتمع والكون بأخلاق حقوق الانسان.
ليس هناك ما هو أكثر عبثية ودمارا من رفض العلمانية، ولكن ليس هناك ما يسمح برفض الذات والدين دفعة واحدة، الأمر هنا يتعلق بغرض حدود على السلطة الاجتماعية والسياسية وبالاعتراف بالحق في ان يكون المرؤ ذاتا اسمى من القانون».
الانسان الحديث مهدد باستمرار بالسلطة المطلقة للمجتمع ولأن قرننا وقد سودت الشمولية صفحاته، يميل أكثر من القرن السابق الى الاعتراف بفكرة الذات كمبدأ مركزي لمقاومة السلطة القهرية. ان فكرة الذات وحدها لا يمكن ان توحد العقل المنفرط للحداثة، ولا يمكن ان يحقق هذه المهمة سوى اقتران الذات بالعقل، فمن جانب يبعث العقل الادائي الحياة في مجتمعنا مجتمع الانتاج والاستهلاك .. ومن جانب آخر يعتبر مجتمعنا الهوية مسكون بالرغبة الفردية والذاكرة الجمعية واندفاع الحياة والموت دفاعا عن الهوية الجماعية.
هذه هي ابرز توجهات وتيارات ما بعد الحداثة، واذا ما اضفنا اليها التوجهات العبثية الخالصة. وهذه التوجهات قائمة في كل عصر فإن هذا يعطينا فكرة اولية عن توجهات ما بعد الحداثة .. وما يلاحظ على هذه التوجهات عموما انها ترى نفسها واعدة أكثر مما ترى انها قائمة، بمعنى انها تبشر بتداعيات مستقبلية مؤثرة وحاسمة، ومن هنا ربما ووجهت ببعض العداء والاستخفاف.من كثير من الناقدين، ولكن على الرغم من هذا فإن لها رؤاها العميقة باتجاه البحث عن تجاوز للحداثة .. ولكن ربما انها ستقع في نفس المطب الذي وقعت فيه الحداثة، واصبحت مثارا للنقد.
من هنا يعجبني قول أحد الباحثين ان الاحكام المعممة تنبثق غالبا من منظومات فكرية مكتملة، او من تكوينات منطقية تدعى ذاتية الشمول، ثم تصير نفسها سجينة النظرة المقعرة التي تشكلها هذه النظم، وبالرغم من انها تبدأ غالبا بداية تمنحها فعلا مؤثرا ضد الغباء، ينتهي بها الأمر ان تصبح هي نفسها اسير هذا الغباء.
ولكن هل صحيح ان هذه الاتجاهات ما بعد حداثوية حقيقية؟ وهل هذه الدعاوى العريضة التي تحملها ما بعد الحداثة، او حتى الحداثة ذاتها هي دعاوى دقيقة؟
فيما يتعلق بما بعد الحداثة فإن الاتجاه العدمي يرتكز على قاعدة تقليدية في الفلسفة تقول بالانطلاق من الشك في بناء الحقائق، وهذا يعني التخلص من تأكيد اي حقيقة قبل ان يثبت لنا انها حقيقة، اما القول إن الجانب العدمي هو الاساس وأنه يعتمد على كل ما اعتبر سالبا في الحياة الاجتماعية، فهو قول غير دقيق ويحتاج الى مراجعة، ذلك ان المعرفة على اي وجه كان يجب ان تنطلق من معرفة سابق او اولية، سواء كانت هذه المعرفة العادية، أم البديهيات، أم المسلمات، ام المصادرات، فكل العلوم لا بد فيها من المسلمات والمصادرات وبالتالي تسقط مقولة الانتاج من العدم.
اما توجه الفلسفة الصنعة، فهو امتداد للتوجه الحداثي العلموي، الذي يقصر المعرفة على حقل العقلانية العلمية، ولا يرى ان يتم تجاوز هذا لمعرفة من أي نوع، وبما ان منتج العلم يتمثل بالتكنولوجيا اكثر ما يتمثل ضمن المنطقي ان يؤدي هذا الى تغيير في الادوار التي يضطلع بها الإنسان، ويجعل لما يعلي من شأنه او يمنحه القيمة، كالتكنولوجيا والذكاء الصفي، دورا مركزيا في مستقبله، وبهذا فإن ما هو مصنوع وأعد لخدمة الانسان أصلا، فإن الانسان يصبح خادما له، وبالتالي فبدلا من ان يكون الانسان هو المحور والمركز، فيكون الهامش والتابع .. ولا يغرنا التأكيد بأن هذا الوضع على علاقة، سيجعل من الانسان سوبرمانا .. دون ضمانات أكيدة، ولا نحسب ان هذه الضمانات موجودة، أو أنها كافية في حال السعي الى ايجادها.
اما تيار النقد الذاتي وتحقيق الذات الى جوار الحداثة فهو تيار يبدو اقرب الى الواقعية والى العدالة، ومحاولة تجنب مضار الحداثة. لكن هذا غير كاف في المعالجة، لا سيما وان تحقيق الذات والحرية الفردية عبر تماسكها مع الحداثة، لا يشكل بديلا دينيا واخلاقيا يستعاض به عن كل الموروث القديم .. ذلك ان فكرتي الدين والاخلاق أصيلتان في المجتمعات البشرية، ولا يمكن القفز عنهما بسهولة .. وإن كان ذلك لا يعني عدم تحديثهما، وهذا ما تقوم به محاولات العديد من الاطراف، سواء ضمن المجتمعات الحداثوية او المجتمعات غير الحداثوية.
اما التوجهات العبثية فهذه يمكن تناولها باعتبارها حالات فردية، لأنها غالبا ما تعبر عن ذاتها عبر الأعمال الادبية والفنية، ولا تنضوي ضمن التوجهات الفلسفية.
ننتقل الآن الى ايراد دعاوى اخرى يمكن ان نلمسها من خلال العروض السابقة كدعاوى القطيعة النهائية مع الماضي، ودعوى ان الحداثة تقتصر على الحداثة الغربية، ودعوى أن الحداثة الغربية ممثلة بالنظام الليبرالي نهاية التاريخ، ودعوى إيجاد البدائل عن طريق تجاوز الروحانية، ودعوى الانطلاق من حالة لا شيء، ودعوى الخلاص عن طريق الرأسمالية، ودعوى الحل الاشتراكي.
فكل هذه الدعاوى لا دليل حاسم لها، وإنما هي دعاوى تشبه دعاوى الغلبة .. وعليه فإن البدائل ما زالت مفتوحة، لا سيما باتجاه بناء فكر شمولي تكاملي يأخذ من كل توجه بمقدار، ويكون بوسعه ان يبقى متجددا باستمرار، فالحقيقة ليست حكرا على طرح بعينه، ولا سردية بعينها، فهي نتيجة جهد إنساني مشترك يجدله في الطروحات النافعة متنفسا لاستئناف سيرة.
نعود هنا الى ما أفرزته اتجاهات ما بعد الحداثة، وربم الحداثة، في حقل الادب والفن، لا سيما في وقتنا الراهن، لنؤكد ان اكبر خاصية للأعمال الادبية والفنية تكاد تنحصر في التجريب والتجريد .. والتجريب في أساسه منهجه قديم، لكنه ازدهر في فترة الحداثة في نطاق العلوم، غير ان نقله الى مجال الأدب والفن هيأ له خصائص جديدة، إذ كان التجريب يعني الذهاب الى الاشياء واختبارها للوصول الى احكام بشأنها، في حين يعني التجريب في الحقل الابداعي البدء في العمل من غير تمثل لشيء، وإنما ترك العمل يفصح عن نفسه من خلال الشروع بإنجازه والاستمرار على هذا المنوال، وليكن بعد ذلك ما يكون .. فهذا يهيئ اصلا ان يتم التعبير على وجه تلقائي وشفاف .. ويجعل العمل الابداعي «يملك قدرة مدهشة على استنباط وابتكار خصوبة ابداعية اصيلة بطرق غريبة وغير متوقعة»، وبهذا «فإن ما تطرحه ما بعد الحداثة من اعمال فنية، ربما يبدو للوهلة الاولى سلبية الوقع، الا أنها مع النظر الدقيق تفصح عن معان فنية غاية في العمق والايجابية، و «إن الفن التجريبي يجب ان يساهم في صنع اخلاقيات نصية وجمالية جديدة».
من هنا يمكن فهم هذه الاعمال الابداعية على اساس انها تتطلع الى الجديد من خلال شرفة اللاوعي .. وبهذا فهي محاولة لارتياد المجهول ولكن بوضع المعلوم جانبا، والتخلص من كل التصورات المسبقة .. وبهذا يشبه عمل المبدعين في هذا الحقل عمل القطاعات المتقدمة في جيش محارب عليها ان تتحمل افدح الخسائر في سبيل إمكانية تحقيق الفوز.
ان هذا يفسر موت كثير من الحالات الابداعية اثناء ولادتها وقبل ان يتيسر ميلاد إبداع حقيقي .. على هذا الوجه ينبغي النظر الى الاعمال الابداعية التجريبية فهل يسوغ هذا الاعتراف بشرعية التجريب .. أجل يسوّغه، وإن كانت الثمرة مرجوة أكثر منها متوقعة .. أما التجديد فهو خاصية اخرى تحاول البحث لها عن فضاءات جديدة .. فضاءات غير نمطية وتقاوم ان تبدو مفهومة أو مألوفة، لذا لا ينبغي التعاطي معها معرفيا، لأنها ببساطة مضادة للمعرفة .. ربما يمكن التعاطي معها بالاحساس والانفعال لمن له قدرة على احتمال الآخرين! فهذا يسوّغ التعاطي معها .. بل ربما دفع التأمل في أي عمل إبداعي مهما كان نوعه المتلقي الى استلهام فكرة ما كانت خبيئة او تحاول الاخلال دون جدوى .. فكرة في اي حقل من الحقول المعرفية .. وبهذا يبدو العمل التجريبي كمقامرة عائدها مشكوك فيه.
ماذا بعد؟ ربما بقي ان نقول ان طبيعة الفهم العربي للحداثة وما بعد الحداثة تحتاج الى جهد كبير كي لا تختزل المفاهيم بأشكال غير دقيقة، وهذا ما هو واقع بالفعل، وما نأمل ان تكون هذه المقالة على قصورها قد اوضحت بعضه .. واذا جاز لي ان اذكر شيئا في ختام هذه المقالة فإنني أذكر ان معالجتي لكثير من المسائل السالفة قد كانت مبكرة منذ نحو من ثلاثين عاما، لكنه لم يكن بوسعي نشرها آنئذ، ولم تنشر الا منذ عام، وربما كنت ايضا في عجلة من أمرى .. على أي حال فإنني أحيل على كتابي «رسائل في المعرفة والمنهج» للوقوف على تفاصيل كثير من الاراء والمعالجات الواردة في هذه المقالة، وفي الختام لا يسعني الا ان اقول بأن المهمة الاساسية للحياة هي ان تعاش بطريقة جيدة وعادلة في أي موقع من المواقع بصرف النظر عما اذا كانت قابلة للفهم على هذا النحو او ذاك .. اما متابعة اي شيء وعلى اي وجه فهذا شأن فردي ليس قابلا للتعميم.