في ظل التراجع الحاد في كميات المياه المخزنة في سدود المملكة، دقّ المهندس إياد الدحيات، الأمين العام السابق لوزارة المياه والري، ناقوس الخطر، محذراً من تداعيات التغيرات المناخية على الأمن المائي الأردني، داعياً إلى ضرورة اعتماد مجموعة مرتكزات عملية لإدارة مصادر المياه في ظل تراجع منسوب المياه في السدود في هذا العام والأعوام القادمة.
ويأتي هذا التحذير في وقت تظهر فيه بيانات وزارة المياه والري تراجعا ملحوظا في نسبة تخزين المياه في السدود بين عامي 2023 و2024 بنسبة وصلت إلى 26.24%. إذ بلغ حجم التخزين الكلي في السدود خلال عام 2023 نحو 118.6 مليون متر مكعب، بينما انخفض هذا الرقم في العام الحالي إلى نحو 87.6 مليون متر مكعب فقط، ما يعكس خطورة الوضع ويستدعي استجابة استراتيجية عاجلة.
وشدّد الدحيات على أن الأردن بات في طليعة الدول الأكثر فقرا مائيا في العالم، حيث لا تتجاوز حصة الفرد السنوية من المياه 60 مترا مكعبا، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 500 متر مكعب. ويضيف أن هذه الحصة مرشحة للانخفاض إلى أقل من 30 مترًا مكعبًا سنويًا خلال السنوات القادمة، ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة وحاسمة.
وأشار إلى أن التعامل مع هذه الأزمة يبدأ من تحديث الخارطة المائية للمملكة، بالاستناد إلى الدراسات الجيولوجية المتقدمة التي أجراها مكتب البحوث الجيولوجية والتعدين الفرنسي (BRGM) ومعهد علوم الأرض الفيدرالية الألماني (BGR). وتكشف هذه الدراسات عن وجود طبقات مائية واعدة، يمكن استثمارها سواء كانت تحتوي على مياه مالحة أو عذبة، داعيًا إلى طرح هذه الفرص أمام القطاع الخاص ضمن عقود تنقيب واستخراج، تشتري بموجبها الحكومة المياه المنتجة، ما يعزز الأمن المائي دون إثقال كاهل الميزانية العامة.
وفي ظل التوزيع غير المتوازن لمصادر المياه، ينوّه الدحيات بتعزيز الإدارة المركزية والمرنة للأنظمة المائية الكبرى، التي تخدم عدة محافظات، مثل نظام الديسي ونظام محطة زي، ونظام سد الموجب، داعياً إلى توسيع قدرة ضخ هذه الأنظمة كونخا تمل على تعزيز مرونة نقل المياه بين المحافظات، بما يعزز منعة التزود في حالات الجفاف أو الطوارئ.
وفي هذا السياق، يقول خبير المياه المهندس محمد بشير إن "الوضع المائي في الأردن بات مقلقا للغاية." ويشير إلى أن "العديد من السدود تعاني من الترسيب وتهالك في بنيتها التحتية، في وقت نحتاج فيه إلى رفع كفاءة التخزين وضمان دقة الإدارة التشغيلية لكل متر مكعب يتم تجميعه." ويشدد بشير على أن "شح المياه أصبح اليوم أزمة أمن وطني، تتطلب تكاملا بين الحلول التقنية والحوكمة الرشيدة والاستثمار في الابتكار والتوعية المجتمعية."وتابع أن أرقام الوزارة تشير إلى تدفق كميات كبيرة من المياه خارج السدود العام الماضي بلغت نحو 219 مليون متر مكعب، مقارنة بكميات المياه الداخلة التي بلغت حوالي 187 مليون متر مكعب، ما يؤكد أهمية إعادة تقييم سياسات التوزيع والتخزين والاستخدام. كما يشير إلى أهمية دراسة واقع كل سد على حدة، إذ يظهر التقرير أن مخزون سد الملك طلال بلغ أكثر من 31 مليون متر مكعب يُستخدم للري وتوليد الكهرباء، في حين خُصص مخزون سد الموجب الذي بلغ نحو 11 مليون متر مكعب للشرب والري، وسد التنور قرابة 5.2 مليون متر مكعب للاستخدامات الصناعية والزراعية، وغير ذلك من السدود التي تختلف وظائفها وأهميتها بحسب موقعها الجغرافي والاحتياجات المحلية.
وفي إطار ضمان استدامة الموارد الحالية، يؤكد المهندس إياد الدحيات إلى أهمية استمرارية صيانة وتشغيل الآبار الجوفية، وتعميقها للوصول إلى الطبقات السفلية، من خلال إشراك شركات خاصة متخصصة ضمن عقود تمويلها مخصص من الموازنة العامة، بما يعزز سرعة الاستجابة ويضمن استمرارية الضخ دون انقطاع.
ودعا إلى توسيع دور القطاع الخاص في تطوير البنية التحتية للمياه، من خلال نماذج شراكة تمويلية ناجحة تبنى على أسس جدوى اقتصادية ومصداقية الائتمان الأردني المتحسن. ويشدد على ضرورة إعداد وتحديث دراسات جدوى تمويل إنشاء سدود سطحية جديدة من الموازنة العامة في ظل تراجع كميات الأمطار السنوية نتيجة التقلبات المناخية.
وفي جانب الهيكلة المؤسسية، يشدد الدحيات على أهمية الإدارة اللامركزية، بحيث تتم إدارة شبكات المياه حالياً على مستوى المحافظة من خلال شركات حكومية متخصصة تقوم بأعمال التوزيع والصيانة وتحصيل الفواتير، مع تقليل فاقد المياه وتعزيز الكفاءة التشغيلية، ويقترح لاستمرار بتطوير عمل هذه الشركات الحكومية بشراكات استراتيجية من خلال التحضير لطرح أسهم هذه الشركات للاكتتاب العام مستقبلاً بعد إعادة تقييم أصولها، من أجل تقليل الاعتماد على الدعم الحكومي، وزيادة كفاءتها واستقلاليتها وتقليل من ديونها.
كما يشير إلى ضرورة تأسيس مجالس شراكة محلية تضم ممثلين عن المجتمع المحلي ومؤسسات المياه، لضمان أن تأخذ القرارات بعدها الاجتماعي والاقتصادي، وتحاكي احتياجات الناس الحقيقية، لا سيما في ظل تزايد الطلب وتراجع التزود.
ويشدد الدحيات أخيرا على أهمية تعزيز قنوات الاتصال مع المواطنين، من خلال حملات توعوية رقمية وتفاعلية تعتمد على الحقائق، لتوضيح حجم الجهد المبذول في تأمين المياه، وأهمية ترشيد الاستهلاك، وبناء شراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع في مواجهة أي أزمة طارئة.
ويختم الدحيات بالقول: "الأردن يقف اليوم عند مفترق طرق حقيقي في ملف المياه، والتحديات التي نواجهها يمكن أن تتحول إلى فرص من خلال ترجمة الخطط والاستراتجيات المتعددة إلى مشاريع تنفيذية قائمة على البيانات الداعمة لصانع القرار."
