القارئ المتأمل لمشهد الاحتفاء بعيد الاستقلال الأردني لا يحتاج إلى كثير من العناء ليُدرك أن هذا اليوم لم يعد مجرد مناسبة وطنية تُزيَّن فيها الشوارع بالأعلام، وتُرفع فيها الشعارات، بل هو حالة وجدانية يعيشها الأردنيون بكامل وعيهم، ترتبط بتاريخ مشبع بالتضحيات، وتتشكل من حاضر مليء بالتحديات، وتتطلع نحو مستقبل تُبنى ملامحه بالثقة والإصرار.
إن عيد الاستقلال، الذي يُصادف الخامس والعشرين من أيار في كل عام، لا يُقاس فقط بتاريخ إعلان التحرر من الانتداب، ولكن يُقاس بما تحقق بعده من صبر شعب، وحكمة قيادة، وبذل مؤسسات، وبناء متماسك لدولة حافظت على كينونتها وسط محيط مضطرب مزقته الحروب، واستطاعت أن ترسّخ كيانًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا شامخًا رغم العواصف العاتية.
في لحظة التأمل بيوم الاستقلال، نستحضر صورًا لجنودٍ حملوا السلاح دفاعًا عن السيادة، ولمعلمين غرسوا الوعي في عقول الأجيال، ولأمهات ربّين بصبر وعزيمة، ولمزارعين وفلاحين شقّوا دروب العطاء من صخر الأرض، ولكل أردني قرر أن يكون لبنةً في صرح هذا الوطن لا عبئًا عليه.
لقد مرّ الأردن بمحطات دقيقة، كادت أن تُثقل كاهله، لكنه خرج منها أكثر صلابة، تمامًا كما تُصفّى المعادن في لهيب النار.
والمشاهد تجاوزه تحديات اللجوء، والضغوطات اقتصادية والسياسية، حيث كان يلوذ بقيادته وشعبه، ويصمد، وهذا ليس بغريب على وطن جذوره ضاربة في الأرض، وولاء أبنائه لا يُقاس بخطابات وإنما يُترجم في مواقف البطولة والفداء.
ولكي يكتمل الاحتفال بعيد الاستقلال، نحتاج اليوم إلى مراجعة صادقة لما تحقق، واستذكار حقيقي لمن صنعوا المجد وتركوا الأمانة في أعناقنا، فكرامة الوطن لا تنفصل عن كرامة المواطن، وصون الاستقلال لا يكون إلا بتحقيق العدالة، وتعزيز التنمية، وترسيخ المواطنة الفاعلة التي ترى في النقد مسؤولية، وفي الإخلاص واجبًا، وفي العمل أداة للنهوض لا وسيلة للنجاة الفردية.
في هذا اليوم يوم الاستقلال نرفع رؤوسنا، لا فخرًا بذكرى وحسب، بل التزامًا بمسؤولية متجددة تجاه وطنٍ يستحق أن نحمي استقلاله بالفعل لا بالشعارات، أن نحفظ أمنه بالوعي، وأن نُعظّم منجزاته بعملٍ صادق.
في عيد استقلاله التاسع والسبعين، لا نقول فقط «كل عام وأنت بخير يا أردن»، بل نقول سنكون كما أردتنا أن نكون، حراسًا لكرامتك، أوفياء لمسيرتك، عازمين على أن تبقى رايتك خفّاقة كما رفعتها أول مرة، وكما سترفرف دومًا عاليا في السماء.