في عالم يُقدَّر فيه المنصب أكثر من الاستقرار النفسي، قد تقودنا عقول مرهقة إلى قرارات مصيرية تمسّ حياة الآخرين. وقد يكون صانع القرار مثقفًا، مخضرمًا، صاحب إنجازات،لكنه في الوقت ذاته أسيرُ نمط نفسي خفي، يتحكّم في قراءته للأحداث وتعامله مع البشر. بيننا من يقرّر من خلف زجاج شفاف لا نراه، لكنه يشوّه كل رؤية: زجاج «البارانويا».
اضطراب الشخصية الزورية - أو كما يُعرف بالاسم الأشهر «البارانويا» – هو اضطراب نفسي يتسم بالشك المفرط وسوء تفسير النوايا، حتى وإن لم يكن هناك دليل واضح على وجود تهديد. المصاب به لا يتوقف عن طرح الأسئلة داخليًا: «ماذا يقصدون بكلامهم؟ لماذا لم يُشركوني؟ هل يريدون إبعادي؟». تلك الأسئلة ليست طبيعية في سياق التفكير المهني، بل تُسيطر عليه، وتُوجّه سلوكياته دون أن يشعر. في البداية، قد تبدو هذه الشخصية ناجحة ومتمكّنة: دقيقة في العمل، صارمة في الإدارة، لا تثق بسهولة، ولا تُمرّر الأخطاء. لكن مع الوقت، يبدأ من حولها بملاحظة نمط متكرر: النفور من الانتقاد، تفسير أي ملاحظة على أنها إهانة، تجنّب التواصل الشفاف، إحاطة النفس بالمؤيدين فقط، وتهميش الأصوات المستقلة. هكذا، شيئًا فشيئًا، يتحوّل الجو العام في المؤسسة إلى بيئة خانقة. الموظفون يتراجعون، الإبداع يخفت، والثقة الجماعية تنهار.
الشك المفرط ليس حذرًا مهنيًا
من المهم التمييز بين الحذر الطبيعي، الذي هو جزء من الذكاء الإداري، وبين الشك المرضي الذي يُنتج ثقافة خوف وتردد. الحذر المهني يُبنى على تقييم الوقائع، أما البارانويا فتُبنى على «ما قد يكون» و"ماذا لو». وهنا تحديدًا يكمن الخطر: القرارات لا تُتخذ بناءً على معطيات، بل على تصوّرات داخلية غير دقيقة.
عندما تصل البارانويا إلى موقع قيادة، تبدأ العدوى بالانتشار صامتة. يتحول الفريق من مجموعة تفكر بحرية إلى جماعة تهمّها النجاة، لا الجودة. يُستبدل الإبداع بالمجاملة، والمبادرة بالانتظار. بل وقد يضطر البعض إلى تزييف مواقفهم وآرائهم لإرضاء «الزعيم المرتاب»، حتى لا يُفسَّر الصمت كرفض، أو الكلام كتمرد.
البيئة الإدارية التي تسكنها البارانويا تستهلك طاقات بشرية هائلة، وتُهدر كفاءات حقيقية. وغالبًا ما تتحول المؤسسة إلى كيان هش، لا يتحمل الاختلاف، ولا يدعم النمو، ولا يُنتج إلا قرارات خائفة، مرتابة، موجهة بـ«حسابات شخصية» لا موضوعية.
هل نقيم القادة نفسيًا؟
المؤسف أن كثيرًا من أنظمة التقييم المهني لا تأخذ بعين الاعتبار الحالة النفسية للقائد. يُركّز على المؤهلات الأكاديمية، والخبرات السابقة، وربما المهارات التقنية. لكن، ماذا عن مرونة الشخصية؟ عن استقراره العاطفي؟ عن قدرته على التحمّل دون إسقاط؟ عن وعيه لذاته ومكامن ضعفه؟ البارانويا لا تُشوِّه القرارات فحسب، بل تُعيد إنتاج نفسها في البُنى الإدارية: تعيينات مبنية على الولاء لا الكفاءة، ترقّيات قائمة على «الثقة» الشخصية لا الأداء الفعلي، ومناخ عام يطرد المختلف، ويكافئ المتماهي.
حين نفهم أن القيادة مسؤولية نفسية قبل أن تكون إدارية، تبدأ الأمور بالتغير. نحتاج إلى إعادة تعريف القوة في بيئة العمل: ليست في الحزم القاسي، بل في الوعي العميق بالنفس. ليست في فرض الصمت، بل في احتواء التعدد والاختلاف.
فمن يحكم وهو يظن أن الجميع ضده، سيقود بحذر خانق، لا بثقة بنّاءة. ومن يُدير بعقلية البقاء الشخصي، سيُقصي من يضيء حوله. لذلك، فإن أكبر استثمار يمكن أن تُقدمه أي مؤسسة لمستقبلها، هو الوعي النفسي لقادتها. فالعقل المرهق لا ينتج قرارًا صحيًا، حتى وإن امتلك كل المعطيات الصحيحة.