نعود لبداية عملي في المركز، فلم تكن بداية رحلتي سهلة، وقد راودتني فكرة الهروب أكثر من مرة، فالجو العام يوحي بالكآبة ، وأعداد المرضى المراجعين كانت قليلة تكاد لا تتجاوز أصابع اليدين، والحالات المرضية متقدمة، ناهيك عن أن للعمل في مركز متخصص في علاج السرطان رهبة ، خاصة بالنسبة لشاب ما زال يتلمس أولى خطواته المهنية.
لكن «الباشا» لم يتركني وحيداً، فكنت أذهب إلى مكتبه في مستشفى المركز العربي متأبطاً المغلفات المليئة بالصور الشعاعية لمرضى من اليوم السابق لمراجعتها معاً، إذ لم تكن تتوفر أنظمة للأرشفة الألكترونية في ذلك الوقت، فكان يملي عليّ عصارة علمه وتجربته، وأشاركه قهوته الصباحية، وفطوره الجماعي أيضاً مع فريقه، الذي اعتاد تنظيمه يوم الخميس من كل اسبوع.
وبقيت على هذه الحال حوالي سنتين، شعرت خلالها بأنني قد نضجت علمياً، وأصبحت متمكناً أكثر، وازدادت ثقتي بنفسي. ورويداً رويداً تضاءلت زياراتي العلمية للباشا، لكن بقيت علاقة الحب والاحترام والوصل موجودة إلى أن تقاعد رحمه الله، وجعل ما قدمه لي وللعشرات من طلابه من علم في ميزان حسناته.
وحقيقة الأمر أنني استطعت التغلب على الجانب المهني من عملي بمساعدة الباشا، لكن الجانب النفسي كان الأكثر صعوبة، فأعداد المرضى الذين يراجعون المركز كان مرشحاً للارتفاع بشكل مضطرد بمرور الوقت. وفي ظل غياب أي نوع من أنواع الرعاية النفسية كان المرضى يلجؤون إلى أي شخص لديه القابلية والقدرة على الاستماع، ليلقوا بين يديه هواجسهم وأوجاعهم ومخاوفهم وهمومهم، ويشاركونه أحزانهم، وما أصعبها من مهمة، فلكل منا همومه الخاصة،التي لا نكاد ننجح في اخفائها خلف ابتسامات زائفة أو أقنعة مستعارة، فما بالك اذا ما زدنا عليها هموم المرضى وقصصهم الانسانية التي تدمي القلوب! وتمر بك لحظات تشعر فيها بأنك على وشك الانهيار امام كل هذا الوجع الانساني وأنت تمارس عملك، لكنني كنت قد اتخذت قرارا صعبا بوضع مسافة أمان بيني وبين المرضى، بحيث اقترب منهم بالمقدار الذي يمكنني من تقديم أفضل رعاية لهم مع حفظ كرامتهم الإنسانية، دون الاقتراب اللصيق الذي قد يؤدي الى إلحاق الضرر النفسي بي.
واليوم أشعر بالفخر وأنا أرى المركز قد حقق رؤيته التي وضعها قبل ما يزيد عن عشرين عاماً بتقديم رعاية شمولية للمرضى تشمل الجوانب الجسدية والنفسية والاجتماعية والروحية وقد امتلك قسماً متطوراً للرعاية النفسية يقوم عليه عدد كبير من الزملاء والزميلات، يقدمون رعاية نفسية متكاملة ومتخصصة لجميع المرضى.
وقد كانت نقطة التحول الحقيقية في تاريخ المركز في عام 2001 عندما تم تعيين الاميرة غيداء طلال رئيسة لهيئة أمناء المركز، والتي عايشت تجربة شخصية مع المرض، فقد أصيب زوجها الأمير طلال بن محمد بسرطان الغدد الليمفاوية، وقد خبرت الأميرة غيداء أثناء مرافقتها لزوجها خلال رحلة علاجه في الولايات المتحدة مدى المعاناة التي يتكبدها مريض السرطان، حتى أولئك الذين سنحت لهم فرصة للعلاج في أعرق المؤسسات الطبية الغربية، فما بالك بأولئك الذين لم يحصلوا على هذه الفرصة؟! كما راقبت عن كثب مدى تطور رعاية مرضى السرطان في دول الغرب.
لذلك لم يكن مستغرباً أن تكون الخطوة الأولى هي إعادة بناء المركز وفقاً لأسس عصرية من خلال الاستعانة بإحدى أهم مؤسسات السرطان الأمريكية، وأقصد هنا المعهد الوطني للسرطان، الذي قام المركز المركز بتوقيع اتفاقية تعاون معه في عام 2002، كانت أولى ثمراتها قدوم إدارة جديدة للمركز متسلحة بالمعرفة والخبرة اللازمتين لقيادة الرمكز، والارتقاء به لمستوى آخر من الرعاية.