في الخامس والعشرين من أيار من كل عام، يرفع الأردنيون رايتهم عالياً، ويملأ النشيد الوطني قلوبهم قبل الآذان. لكن خلف الاحتفال، تكمن قصة نضال صامت، وتاريخ من الحكمة، وبناء دولة صاغت شخصيتها من بين شقوق الزمن المضطرب.
يُجسّد يوم الاستقلال لحظةً مفصلية في حياة الشعوب، وهي ليست مجرد ذكرى تحرير من استعمار، بل إعلان وعي جمعي بأن الوقت قد حان لتمتلك الأمة قرارها، وتصوغ حاضرها بيدها.
استقلال الأردن عام 1946 لم يكن وليد لحظة دبلوماسية عابرة، بل حصيلة لنضال سياسي، وإرثٍ من الكرامة العربية، وإصرار ملكي وشعبي على أن لا تُدار البلاد إلا من أبنائها.
علم النفس الاجتماعي يعرّف الاستقلال بأنه لحظة نضوج للهوية الجمعية، حيث تتجاوز الأمة التبعية، وتنتقل من «نحن تابعون» إلى «نحن صانعو القرار». فحين قرر الأردنيون في أربعينات القرن الماضي أن الوقت قد حان للاستقلال، كانوا يعبرون عن حالة وعي جمعي ناضجة، قائمة على الانتماء والإصرار.
الاستقلال لا يُبنى فقط على التحرر السياسي، بل على إحساس الفرد بأنه جزء أصيل من كيان أكبر. وهذا ما ميّز التجربة الأردنية؛ فقد جاءت اللحظة التاريخية مدعومة بوعي شعبي عميق بالهوية، وحسّ وطني قوي يسبق قدرات الموارد أو القوة العسكرية.
في محيط متقلب سياسيًا، وملتهب عسكريًا، كان لا بد أن تكون البوصلة مختلفة. وقد اختار الأردن، بقيادة الملك المؤسس عبدالله الأول، نهج التوازن والحكمة والواقعية السياسية.
ومنذ ذلك اليوم، أُسست الدولة على ثلاثية فريدة: الشرعية الهاشمية، الهوية الوطنية الجامعة، والوعي الجمعي المتماسك.
ورغم كل التحديات الإقليمية والدولية، بقي الأردن دولة متماسكة، محمية بالولاء، مدفوعة بالعقل، ومسنودة بشعبٍ يعرف متى يصبر، ومتى يتحرك.
الاستقلال لا يعني فقط رفع العلم، بل يتطلب صيانته يومًا بيوم. فالمؤسسات تبني الاستقلال حين تكون عادلة. والمدارس ترسّخ الاستقلال حين تزرع المواطنة في العقول. والمواطن البسيط يمارس استقلاله حين يختار أن يحمي البلد من الفساد، والتطرف، والانقسام.
الاستقلال الحقيقي يبدأ حين يصبح حب الوطن فعلًا لا شعارًا، وقرارًا لا فقط انتماءً عاطفيًا.
ما لا يمكن إغفاله في مشهد الاستقلال هو الحضور المتنامي للمرأة والشباب في بناء الأردن الحديث.
المرأة الأردنية، التي كانت دومًا حاضرة في الحقل والبيت والمدرسة، باتت اليوم صانعة قرار، وشريكة في القيادة.
أما الشباب، فهم الطاقة الحقيقية التي تحمي من الجمود، وتدفع نحو التقدم. وكلما تم تمكينهم، كلما ترسّخ الاستقلال في عمق الدولة، لا على أطرافها.
ليس هناك استقلال يُهدى، بل يُنتزع ويُصان. وقد اختار الأردنيون أن يكون استقلالهم ناضجًا، متزنًا، وواقعيًا، يزهر كل عام رغم شحّ الماء، ويشتد رغم ثقل الظروف.
في كل الخامس والعشرين من أيار، لا نحتفل فقط بما حدث عام 1946، بل بما نواصل صناعته منذ ذلك اليوم: دولة حرة، واقفة، وإنسان فيها لا يركع إلا لله.
شكر وامتنان... إلى من صاغوا المجد وصانوا الكرامة
في هذا اليوم الأغر، لا يسعنا إلا أن نرفع أسمى آيات الشكر والولاء إلى العائلة الهاشمية، التي قادت السفينة بحكمة وحنكة في محيط متلاطم، فحفظت الأردن وطنًا آمنًا، واحة استقرار، ومنارة اعتدال.
من الملك المؤسس عبدالله الأول، إلى الملك الباني الحسين بن طلال، وصولًا إلى جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي يحمل الأمانة بشرف وعزم، ويقود البلاد بثقة نحو المستقبل.
وإلى الشعب الأردني العظيم – رجالًا ونساءً، شبابًا وشيوخًا – نقول: أنتم الركيزة، أنتم الحصن، أنتم من يكتب فصول الاستقلال الحقيقي كل يوم، حين تختارون الأمل رغم الضيق، والعمل رغم التحديات، والوحدة رغم الاختلاف.
كل أردني وأردنية هو سطر في كتاب الوطن.
وكل من يحمل في قلبه حب الأردن، هو جندي في معركة الكرامة اليومية.
فلنحمل الراية معًا... ولنُكمل ما بدأه الأوائل، لأن الأردن لا يُبنى إلا بسواعد أبنائه، وبقيادة لا تعرف الانكسار.
كل عام والأردن حر، سيّد، قوي بقيادته، شامخ بشعبه.
أستاذة جامعية واخصائية علاج نفسي
