ما يزال التكريم الملكي الهاشمي للمثقفين يعطي أطيب الأثر في نفوس العاملين في الوسط الثقافي الأردني والعربي؛ ذلك أنّ هذا التكريم هو بمنزلة كلمة «شكرًا» للمبدعين من الأدباء والمثقفين والكتّاب، وهذه المرة نحن مع أستاذ قدير في النقد الأدبي، أنعم عليه جلالة الملك عبدالله الثاني في حفل عيد الاستقلال التاسع والسبعين مساء أمس، بوسام الملك عبدالله الثاني للتميز من الدرجة الأولى، وهو صاحب تجربة كبيرة، ما يزال يُتعبنا نحن معشر الإعلاميين والصحفيين بتصويباته اليومية وانخراطه في أتون المشهد الثقافي، وقد أبدع الترجمة الرائعة لـ«رباعيات الخيام» الشاعر الإيراني المعروف؛ بل ودخل في خضمّ هذه الرباعيات، ودرس لأجلها اللغة الفارسية وخالط الناس والعائلات ولغة المثقفين والأكاديميين، فوقف على المعاني الصحيحة والألفاظ والمداليل الحقيقية لها، ثم ذهب يندب نفسه للأدب الفارسي الذي درسهُ وكان متفوقًا فيه، بشهاده أبناء هذا الأدب أنفسهم، فضلًا عن شهادة الأكاديميين والمثقفين العرب، إذا ما عرفنا أنّ هذا العَلَم الأكاديمي المُحقق والباحث والناقد قد تحصّل مبكرًا على شهاداته العلمية في البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في الأدب العربي، واستطاع أن يترك أثرًا ما يزال يتجدد في طبعات الأعمال الكثيرة التي قدّمها، وفي بحوثه المهمة، بل وجائزته التي أطلقها حول تحقيق الأعمال الفكرية والأدبية الشرقية- الشرقية، وفي تحكيمه كثيرًا من الجوائز العربية في ميدان الأدب والنقد، وحصوله على جوائز وتكريمات رفيعة، من مثل جائزة الشيخ حمد للترجمة بقطر، وجائزة الدولة التقديرية من قبل، وتكريمه من حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فضلًا عن جوائز وتكريمات نوعية تدل على مراسه واشتغاله الأدبي والنقدي والبحثي في سياق ريادة أدبية أردنية عربية عالمية، وفي إصدارات تعدّ من المراجع المهمة والأصيلة في مجالها، كما في الترجمات الكاملة لرباعيات الخيام التي تمرّس فيها وصوّب وعدّل ونقّح السائد والمنمّط فيها، فهو اليوم نموذج للأكاديمي الأديب الناقد الذي يشعرنا أنّ النقد دائمًا حاضر ولا يمكن أن يُغفل دوره بحال من الأحوال.
كلما كتب أحدنا في الصحيفة مادة ثقافية كان اتصال يوسف بكار الصباحي هو قهوة صباحنا في توجيهاته وإحاطة أبنائه وأصدقائه من الصحفيين والأدباء بالقديم والجديد والمساحات النقدية والمعرفية التي من الضروري أن يتم تغطيتها والعمل عليها نحو تثقيف أجيال عليها أن تتمسك بإرثها الثقافي والأدبي، اعتمادًا على أنّ الأدب له رسالة فكرية حقيقية يستشفّها القارئ ويعمل عليها الأديب.
وفي حضور الجانب النقدي ليوسف بكار الذي يصرّ أن يكون اسمه مجردًا من «ألف دال» أي الأستاذ الدكتور، كدرجات علمية؛ متواضعًا، وأنّه كلما كلما زاد أحدنا في علمه وقراءته عليه أن يجعل من التواضع ديدنًا له وصفة يحتكم إليها، ولهذا فكثيرًا ما أثّر ودقق أوراق عمل لزملاء وأصدقاء قبل نشرها مجانًا وبنفَس المحبّ الساعي لخدمة كل الأجيال.
كنت ممن شهد تكريم الدكتور يوسف بكار شخصيةً ثقافيةً لمعرض عمان الدولي الكتاب في دورته العام الفائت، وممن قرأ الحفاوة الأكاديمية به، وفي حين يتغزل الأكاديميون، إلا من طلبتهم ومريديهم ومادحيهم، ظلّ يوسف بكار إنسانًا دمثًا وقريبًا من ضمير هذا الوسط، يمزج النقد بالصحافة بالأدب بالثقافة، لتكريس قيمة النقد والتوجيه، لكي لا تكون هناك مسافة بين ما يكتبه الأدباء وما ينهض به النقاد من جهود بحثية تقوِّم هذه الأبحاث وتعزز من حضورها في الوسط الثقافي.
وفي الإعلام الثقافي تحديدًا ربما يلتفت الصحافيون في العادة، إلى منصات الشعر والرواية والحراك اليومي على هذه المنصات، في حفلات رعايات الكتب والمدح الاعتيادي، وفي غمره ذلك ربما ينسون أهمية النقد الأكاديمي الحقيقي وبحوث مراكز الإشعاع العلمي والأدبي المهمّة، من مثل مجمع اللغة العربية الأردني الذي احتفينا قبل أيام بإصداره لسان العرب الاقتصادي، في سبعة أجزاء، وإصدارات الجامعات ومراكز البحث والتأريخ والتوثيق المهمة، وهذا من شأنه أن يعمّق من المسافة بين الأجيال المتقدمة تكنولوجيًّا وقليل الحظ في الجانب الثقافي والمعرفي، ولذلك فإنّ رؤية العمل الصحفي الثقافي الحقيقية هي التي يحضر فيها روّادنا وعلماؤنا وأدباؤنا وأكاديميونا ومراكز البحث والدراسات والتوثيق والتأريخ الحافلة بالإنجاز وكل جديد نافع يجب أن يكون محل احتفاء واقتداء وثقة واحترام.
ومع أنّ السيرة العلميّة ليوسف بكار كبيرة ويضيق عنها هذا المجال، إلا أنّنا يمكن أن نشير إلى شيء منها لا يغني عن الرجوع إليها، ومنها أنّه أستاذ شرف بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة اليرموك، حصل على دكتوراه النقد الأدبي في جامعة القاهرة بامتياز مع مرتبة الشرف، في سبعينات القرن الماضي، وهو يتقن اللغتين الفارسيّة والإنجليزية، وكانت له مهمّات علميّة وبحثيّة خاصة في جامعة كمبريدج ببريطانيا في تلك الفترة، وعدد من الجامعات الأمريكية. درّس في جامعة مشهد بإيران، وجامعات: اليرموك، والأردنية، وقطر، وآل البيت، والسلطان قابوس، وإربد الأهلية.كان رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الفردوسي- مشهد (1973-1978)، كما كان عضو لجنة تحكيم جائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري 1994.
ولدى الهاشميين في بلدنا، فإنّ أرشيف التكريم الثقافي حاضرٌ دائمًا منذ أن كان جلالة الملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين يدني الشعراء ويحترم إبداعهم في مجلسه ويستمع إلى قصائدهم، بل ويعارض هذه القصائد بإبداع حاضر في وجدان الشعراء الرواد والمثقفين والإعلاميين، إذ ظلّ هذا الاحترام سُنّةً لدى الهاشميين في كل العقود الماضية التي تكللها الرعاية الملكية الهاشمية المستمرة للمثقفين، وتأكيد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه الدور الحيوي لهم، إذ كرّم جلالته الأدباء والفنانين والكتّاب في كل الأعياد الوطنية المهمة، كعيد الاستقلال، فأعطى بذلك حضورًا مهمًّا للجانب الثقافي بالشراكة مع كل جوانب العمل التطوعي والبحث العلمي والخدمة الاجتماعية والحقول الاقتصادية والسياسية الأخرى، كما زار جلالته وولي عهده الأمين سموّ الأمير الحسين بن عبدالله الثاني حفظهما الله، الفنانين وأشعروهم بأنهم في أعين القيادة الهاشمية ومحطّ رعايتها، بالحسّ الأصيل والإنساني القريب منهم، والسؤال عنهم، ومتابعة شؤونهم وظروفهم على الدوام.