الاستقلال ليس محطة من الماضي نعود إليها بالحنين فقط، بل هو فعل متجدِّد، وإرادة وطن لا تنكسر، ومسؤولية مستمرة في الدفاع عن الكيان السياسي للدولة وصون سيادتها وهويتها. الاستقلال تجسيد حيّ لرحلة وطن ووفاء دائم لمن صنعوا فجر الحرية من المؤسسين الأوائل، ولمن رسّخوا قواعد السيادة، وأطلقوا مشروع الدولة الأردنية الحديثة، ثم لمن واصلوا البناء والتحديث حتى غدت المملكة نموذجاً في الاستقرار والثبات والعقلانية وسط منطقة تمور بالاضطرابات.
نحتفل بالاستقلال، لأننا نمتلك ذاكرة وطنية تُدرك أنه لم يكن هبة، بل نتاج كفاح سياسي ورؤية نضجت في رحم الدولة الحديثة، ثم تعززت عبر أجيال حملت الراية، وبنت المؤسسات، ورسّخت قيم الاستقرار والانتماء.
لكننا أيضاً نحتفل لأننا نرى في ذكرى الاستقلال صورة الذات الأردنية حين تواجه التحدي وتصنع القرار. ففي خضم ما شهدته المنطقة من اضطرابات وصراعات، وقف الأردنيون صفاً واحداً يحرسون وطنهم بالغالي والنفيس، ويحولون دون أن تنال منه رياح الفوضى، حين كانت دول في المحيط تنهار واحدة تلو الأخرى. لم يكن ذلك صدفة، بل كان تعبيراً عميقاً عن الوعي الوطني الجمعي، وفهماً حقيقياً لمعنى أن تكون مستقلاً، وأحد أهم تجليات الاستقلال أن تذود عن حياض البلاد وأن تتمسك بها وطناً أبدياً تحميها من كل عابث وواهم وكاره.
وفي عامنا هذا، تأتي الذكرى التاسعة والسبعون للاستقلال وسط مشهد إقليمي بالغ القسوة، مع ظروف إقليمية شديدة التعقيد، واستمرار العدوان على غزة، وما يرافقه من مشاهد القتل والدمار الشامل لكل مظاهر الحياة ومعاناة الأشقاء من كارثة إنسانية غير مسبوقة. وبينما عبّر الأردنيون بكل صدق عن تضامنهم الإنساني والسياسي مع الأشقاء، ظهر في المقابل من حاول توظيف هذه القضية النبيلة والعادلة لأغراض مشبوهة، وأجندات لا تمتّ لمصلحة الأردن بصلة. فكان لا بدّ من موقف واضح يعيد التذكير بالحدود الفاصلة بين نصرة الشقيق المظلوم وصون أمن ال?ولة، فقالت الدولة كلمتها وأعادت الأمور إلى حيث يجب أن تكون الدول الراسخة والوازنة.
وقد أثبت الأردنيون مرة أخرى أن ولاءهم الأول والأخير لوطنهم، حين رفضوا الانجرار إلى دعوات الفوضى، ورفضوا أن يُستخدم الوطن منصة لصراعات الآخرين. وكانت الدولة حازمة في موقفها، متيقظة في تعاملها، حريصة على أمن الوطن ومكانته.
ورغم التحديات الاقتصادية والمعيشية التي نواجهها – من بطالة ومديونية وضغوط متزايدة – فإن المؤشرات تؤكد أن الأردن يسير على طريق التعافي بثبات، مستندًا إلى مشروع تحديث شامل يقوده جلالة الملك عبدالله الثاني، في أبعاده السياسية والاقتصادية والإدارية.
لكن نجاح هذا المشروع يتطلب انخراطاً وطنيًا فاعلًا، ومؤسسات تتقدم الصفوف، وتطرح مبادرات تلهم الناس وتعيد بناء الثقة في المجال العام. فقد آن الأوان لتجاوز حالة الحذر والإحباط والتردد، والانطلاق نحو أهداف وطنية كبرى توحد الأردنيين وتفتح أمامهم أفق الأمل والطموح، فأردن الغد بما فيه نهوض وازدهار ورفاه مشروع ينبغي أن يلهم الجميع ليكونوا شركاء في ورشة بناء لا تهدأ حتى بلوغ الهدف.
قد نختلف في الرأي، لكننا لا نختلف على الأردن. والاستقلال الحقيقي لا يُقاس فقط برفع الراية، بل بالقدرة على بناء دولة قوية، عادلة، مزدهرة، تليق بأحلام مواطنيها. وها نحن نفعل.
