ثقافة وفنون

»حكاية الغراب الطيب« لمحمد جمال عمرو.. بين الدهاء والنقاء

 

في عالم الحكايات حيثُ تنطق الطيور وتتحاور الحيوانات وتكشف الطبيعة عن أسرارها، تُروى القصص لا لتسلية الأذهان فحسب؛ بل لتكون مشاعل هدى تهدي العقول، ومرايا صافية تعكس دروس الحياة، وفي قصتنا اليوم نُعيد النظر في حكاية قديمة سُردت على مسامع الأجيال، لكن بروح جديدة ومعنى أعمق. حكاية » الغراب الطيب»، لأديب الأطفال الشاعر محمد جمال عمرو، ليست مجرد سردٍ تقليدي عن مكر الثعالب وسذاجة الغربان وإنما هي حكاية تُعيد حد الذكاء، وتُبدّل مفاهيم القوة والضعف، فتخبرنا أنَّ الحكمة أسمى من الحيلة، والعطاء لا ينقص صاحبه بل يزيده?رفعة. فكيف واجه الغراب مكائد الثعلب؟ وهل انطلت عليه حيلة المديح كما انطلت على أسلافه؟ هذا ما سنكشفه في رحاب هذه الحكاية الشعرية الرائعة، إذ يمتزج البيان بالحكمة، ويترقرق الأدب بأعذب القيم.

ماذا نفهم يا أحباب حين يقال فلان غراب؟

وفلان كغراب البين أبدا لا تخطئه عين

بالشؤم أيوصف والشدة؟

أم طيبة نفس ومودة؟

في غابة تفيض بالحياة، حيث الأشجار تعانق السماء، والبلابل ترسل أنغامها كاللآلئ المتناثرة في الفضاء، والشمس تنثر خيوطها الذهبية على وجه الطبيعة، وكل مخلوق يعيش في وئام وسكينة- كان يجلس غراب على غصن باسق، تتراقص بين أوراقه أنسام الربيع ممسكًا بمنقاره قطعة جبن كأنها كنز ثمين بين فكيه، فجاءه الضيف الماكر ينسلّ من بين الأغصان بخطى وئيدة، وعيناه تشعان بمكر خفي، إنه الثعلب الذي صال وجال في طرقات الغابة، يبحث عن فريسة سهلة يُوقعها في شِباك دهائه فألقى بنظره الحاد نحو الغراب، فرأى في الجبن غنيمة، وفي الغراب فرصة لا ?عوض، ولم يهجم كما يفعل الضواري بل أخرج من جرابه حيلة طالما استخدمت وخُدع بها الكثير، ورفع رأسه وصاح بصوت يفيض نفاقًا:

» يا أجمل غربان الغابة عيناك الحلوة جذابة

أذكر صوتك حين تغني عذبا يتألق باللحن'

لكن الغراب في هذه المرة كان قد ورث عن أجداده حكمة التجارب، لم يبهره هذا المدح المصطنع، ولم ينسَ كيف سقط أسلافه في هذا الفخ الساذج، ونظر إلى الثعلب نظرة ثاقبة، كأنما يقرأ في عينيه خبث السنين، ثم ابتسم بينه وبين نفسه وقال:

'لا تترك غصنك وتذكر أجدادك في القصة واحذر فالثعلب يبقى ماكرا...'

وبهدوء العاقل وكرم النبيل، ألقى الغراب قطعة الجبن إلى الثعلب وقال:

» سأعطيه الجبن الآن من نفسي عن طيب خاطر...'

وقف الثعلب مذهولًا، لم يصدق ما سمعه فقد اعتاد أن يأخذ بالحيلة لا بالهبة، فارتجف قلبه بين الضلوع، وأحس لأول مرة أن هناك ذكاءً أسمى من المكر، وكرمًا أعظم من الطمع، فأخذ الجبن بين أنيابه وانصرف، تاركًا خلفه حكاية مختلفة، لن تُروى كما رُويت من قبل، أما الغراب فقد ظلَّ على غصنه شامخًا يحمل في جناحيه درسًا خالدًا، أن الذكاء ليس في الخداع؛ بل أن تدرك الحيلة وتختار كيف تواجهها، وأن الكرم لا يجبر عليه وإنما تمنحه بطيب نفس دون أن تنحني للمكر والخداع.

يستخلص من هذه الحكاية أن الأساليب اللغوية تميزت بأسلوب لغوي بسيط سلس يناسب الأطفال، إذ استخدمت ألفاظًا واضحة وتراكيب سهلة الفهم، مع وجود قافية موسيقية جميلة تجعل القراءة ممتعة وشيقة، وعملت على إيصال القيم بأسلوب غير مباشر مما يجعل التعلم ممتعًا وليس مجرد تلقين وقد استخدم الكاتب عدة أساليب من أبرزها:

أولًا- الأسلوب الاستفهامي: استخدم الكاتب الاستفهام لشد انتباه القارئ وإثارة التفكير، مما يدل على ذلك قوله:» ماذا نفهم يا أحباب حين يُقال فُلانُ غراب؟»، هنا يُوجه السؤال إلى القارئ ليجعله يشارك في استنتاج المعنى، مما يزيد من تفاعله مع القصة.

ثانيًا- أسلوب التعجب: إذ استخدمه ليبرز دهشة الشخصيات ويؤكد على المفاجأة في القصة، وذلك في قوله:» يا للعجب! هذا لم يُذكر في الكتب»، فيظهر تعجب الثعلب من تصرف الغراب غير المتوقع، مما يزيد من عنصر التشويق.

ثالثًا- أسلوب التصوير والتشخيص: صورت المشاهد بطريقة حية، إذ استخدمت الصور البلاغية لإضفاء الحيوية على الأحداث، مثل:» عيناك الحلوة جذابة»، وهذا تشخيص يجعل الثعلب يبدو وكأنه يحاول إغواء الغراب بمدحه، مما يعكس نواياه الخادعة.

أخيرًا- أسلوب الحوار: اعتمد الكاتب على الحوار بين الغراب والثعلب، مما يجعل القصة أكثر حيوية ويشجع الأطفال على متابعة الأحداث وفهم الشخصيات.

أما القيم المستفادة من هذه الحكاية عديدة:

أولًا- أن الذكاء ليس خداعًا فقط بل حكمة ووعي ففي معظم القصص يرتبط الذكاء بالمكر والخداع لكن الغراب هنا يظهر نوعًا آخر من الذكاء، وهو القدرة على التفكير السليم واتخاذ قرارات حكيمة، فهو لم يقع في الفخ ولم يكن قاسيُا بل اختار التصرف بلطف وحذر.

ثانيًا- الخير والعطاء من علامات القوة والمروءة وليس الضعف: غالبًا ما يُنظر إلى العطاء على أنه ضعف، وجاء الغراب هنا يثبت عكس ذلك فهو لم يُجبر على إعطاء الجبن بل فعل ذلك عن طيب خاطر مما جعله يبدو أقوى من الثعلب الذي كان يعتمد على الحيلة للحصول على ما يريد.

ثالثًا- عدم الانسياق وراء المديح الزائف: حاول الثعلب خداع الغراب بالكلمات الجميلة لكن الغراب لم ينخدع بها وهذه رسالة للأطفال بأن لا يصدقوا كل من يمدحهم بل عليهم التفكير جيدًا قبل اتخاذ أي قرار.

أخيرًا- التفكير النقدي وتعلم الدروس من الماضي: الغراب لم يكرر أخطاء أجداده إنما استوعب دروسهم واستفاد منها وهذا يساهم في تعلّم الأطفال من تجارب الآخرين وعدم تكرار الأخطاء التي وقعوا بها.

وبعد تحليلي هذا أقول: يا لروعة الدرس وعظمة العِبرة! فليست القوة في الانقياد للمكر، ولا في مجاراة الخداع بالخداع، وإنَّما في الحكمة التي تزن الأمور بميزان العقل، وتختار المواجهة بأسلوب يسمو عن السذاجة،دون أن يسقط في شِباك المكر، فقد أثبت الغراب أن الذكاء الحقيقي ليس في الاحتيال،بل في اتخاذ القرار الصائب في اللحظة المناسبة.

وهكذا مضى الثعلب بحيرته والغراب بكرامته وظلت الغابة تروي قصتهما لا كما عرفت من قبل وإنما برؤية جديدة تنصف العقل النبيل، وتكشف أن الخير حين يُصقل بالحكمة يصبح قوة لا تُهزم.