-1-
فلقد كان لعمر الخيّام حضور جيّد ولافت في التّراث العربي القديم، ربّما لأنّه كان من أصحاب اللّسانين الفارسي والعربي. عاش الحكيم في العصر السّلجوقي، وكان من علماء المسلمين المشهورين في القرن الخامس الهجري، ومن شعرائه أيضًا. أتقن اللّغة العربيّة وتعلّم بها وعلّم، وحاور بعض علماء عصره كالزّمخشري والغزالي وناظرهم وأجاب عن سؤالاتهم؛ وكتب بها معظم مؤلّفاته العلميّة والفلسفيّة، وترجم منها إلى الفارسيّة خُطبة لابن سينا، فضلًا عن أنه نظم بها شعرًا، ولو قليلًا.
لم يُشتهر الخيّام قديمًا بأنّه شاعر لا بما نظم من رباعيّات بالفارسيّة لأنّها باعتراف نفر من الباحثين والعلماء الإيرانيين المعاصرين أنفسهم من مثل: ذبيح الله صفا وجلال الدّين همائى وعلى دشتى ومحمد علي فروغي وقاسم غني كانت قليلة، ولا بشعره العربي القليل جدًّا؛ بل اشتهر كثيرًا وعُرف بعلوم الحكمة التي كانت تضم، آنذاك، الفَلك والرّياضيّات والنّجوم والطّبيعيات والفلسفة وما يرتبط بها جميعًا.
إنّ في أخبار «حجة الحقّ» و«الدّستور» في كتب التّراث العربي القليلة التي تحدّثت عنه ما يؤكد إسهامه في معارف عصره المختلفة سواء في ما ترك من آثار مكتوبة أم شفويّة تناقلتها الأخبار والرّوايات. لقد أنصفه، إلى حدٍّ كبير، مؤلفو تلك المصادر، وأشادوا بذكائه وفطنته وجهوده وفضله ومكانته العلميّة في العربيّة وعلومها. فممّا قيل عنه: «كان تلو أبي علي (ابن سينا) في أجزاء علوم الحكمة» و«كان عديم القرين في زمانه»، و«كان عارفًا بجميع أنواع الحكمة سيما نوع الرّياضيّات».
لست في صدد ذكر مؤلفاته بالعربيّة والفارسيّة، ولا ذكر أخباره وما نقل عنه شفويًّا، فكلها معروفة ومتداولة. وقد عُني بها وبنشرها عدد من علماء إيران من مثل: عبّاس إقبال، وسعيد نفيسي، ومحمد تقي أراني، وحبيب يغمائي، وجلال الدين همائي، ورحيم رضا زاده ملك. كما عُني بها من العرب: محيى الدّين صبري الكردي ورشدي راشد وأحمد جابر وعبدالحميد صبرة من مصر، وقدرى حافظ طوقان من فلسطين، ومن المسلمين سليمان النّدوي، فضلًا عن بعض المستشرقين. ولست معنيًّا، هنا، بذكر المصادر التّراثيّة التي تحدثت عنه، لأنّني تكلّمت على هذا كلّه با?تفصيل في كتابي «عمر الخيّام: أعمال عربيّة وأخبار تراثيّة» (دار صادر – بيروت 2012).
إذا ما أُنعم النّظر في آثاره العربيّة ولا سيّما جواباته الفلسفيّة ومقدّمات مؤلفاته العلميّة وشعره العربي، وفي ما جاء عنه في مصادر التّراث العربي من أخبار وروايات؛ يمكن أن يقال إنّها هي التي تمثّل عمر الخيّام الأقرب إلى الحقيقة والواقع ممّا في الأعداد الكثيرة من الرّباعيّات، التي لا يعرف، إلى الآن، لا عددها الصّحيح ولا الثّابت النّسبة منها إليه، هي التي اعتمدها، ولا سيّما في العصر الحديث، كثيرون في الحكم عليه عقيدةً وسلوكًا وفكرًا، وجاسوا خلالها لينسبوه إلى الكفر والإلحاد والباطنيّة ومذهب اللّذة والأبيقوريّة واللاأدريّة والتّناسخ. من هؤلاء، مثلاً، أحمد حامد الصرّاف، وعبد الحق فاضل، ومحمّد موسى هنداوي، وإحسان حقي، وعبد اللّطيف الجوهري. ومنهم من ذهب، بدءًا، إلى أشياء ممّا تقدم كعبّاس محمود العقّاد ومصطفى وهبي التّل، بيد أنّهم تراجع?ا عن آرائهم بعد أن تعمقوا في دراسة الخيّام من خلال آثاره وأخباره جميعًا وليس من خلال الرّباعيّات فقط حتى قال العقّاد: «والله لقد ظلموك يا صاحِ (صاحبي) بالتّصوف كما ظلموك بتناسخ الأرواح». وقد انتبه أحمد الصّافي النّجفي إلى سوء الاستفادة من ترجمة الرّباعيّات، فقال نثرًا: «وقد منعتُ إعادة طبع تلك الرّباعيّات عندما رأيتها تضرُّ بأكثريّة القرّاء الذين كانوا يسيئون الاستفادة منها، إذ كانوا يقرأونها في الحانات، ويزيدون من معاقرة بنت الحان (الخمرة)....» وقال شعرًا (ديوان ألحان اللّهيب 102):
قد كنت من خمرة الخيّام منتشيًا
وإنما خمرة الخيّام إلهامُ
يظنّه الجاهل المسكين منغمرًا
في الرّاح يطفو به في لجّها الجام
فراح يُدْمن سُكْرًا باسمه نفرٌ
كأنّهم إذ تدار الكأس أنعام
ظننتُ ترجمة الخيّام مأثرةً
إذا بها لضعاف الرأي إجرام
إنْ كان هذا مآل الشعر في نفرٍ
لا كان شعرٌ ولا خمر وخيّام
بيد أنّه جعل، بعد ذلك يقلل من شأن الخيّام لأسباب يقال إنها نفسية (راجع كتابي: في دوحة الخيّام: دراسة نقديّة. الآن ناشرون وموزّعون. عمّان 2022).
-2-
فأمّا في العصر الحديث ومنذ بدايات القرن العشرين، فقد اهتمّ العرب بالخيّام والرّباعيّات اهتمامًا كبيرًا جدًّا يفوق أيّ تصوّر وتوقع، ويفوق اهتمامهم بأيّ شاعر آخر من العرب قديمًا وحديثًا إلى حدّ يكاد لا يقلّ عمّا هو عليه عند الغربيين وربما الإيرانيين. وليس من شكّ في أنّ «الرّباعيّات» هي مبعث شهرته الأوّل، وإن جاءت قويّة من الغرب مع مطالع القرن العشرين. يقول طه حسين: «وقد كان عِلْمُنا بشؤون الأدب الإيراني قبل النهضة ضيّقًا محدود الوسائل، لا نستطيع تلمّسه عند أهله، وإنّما نتلمسه عند الإنجليز والفرنسيين والألمان?..، ويكفي أنّنا عرفنا، أوّل ما عرفنا، عمر الخيّام..... عن طريق التّراجم (التّرجمات)، وعن طريق ما كتب عنه الإنجليز» (مقدمته على كتاب حافظ الشّيرازي شاعر الغناء والغزل في إيران، لإبراهيم أمين الشواربي. مطبعة المعارف – القاهرة 1944).
يمكن حصر هذا الاهتمام – باختصار–في ثلاثة مسارب مهمّة، هي:
(1) ترجمة الرّباعيّات وشعره العربي.
(2) التّأليف فيه والكتابة عنه.
(3) التّأثر والتّأثير.
-3-
فأمّا المسرب الأول، فقد ترجمت أعداد متفاوتة من الرّباعيّات، التي لا يجمعها ديوان، شعرًا فصيحًا وشعبيًّا ونثرًا عن الفارسيّة والتّركية والإنجليزيّة والإيطاليّة نهض بها مترجمون من أكثر البلدان العربيّة ولا سيّما العراق ومصر. وقد أحصيت منها حتّى عام 2023م سبعًا وتسعين (97) ترجمة، هي التي درستها في كتابي «التّرجمات العربيّة لرباعيّات الخيّام: دراسة نقدية» (دار التّكوين – دمشق 2023)، وبيّنت ما لكلّ ترجمة وما عليها، فضلًا عن الفصل الرّابع من كتابي «التّرجمة الأدبيّة: إشكاليات ومزالق» (المؤسّسة العربيّة للدّراسات?والنشر – بيروت 2001). وهو «أهم إشكاليّات ترجمة رباعيّات الخيّام» (ص73-128) الذي خصّصته للمشكلات العامّة والخاصّة عند عدد من المترجمين. فأمّا المشكلات العامّة، فهي: مفهوم الرّباعيّة وقوالبها المختلفة: الثّلاثيّات (3 أبيات)، والمربّعات (4 أبيات)، والخماسيّات (5 أبيات)، والمسدّسات (6 شطور) والسّباعيّات (7 أبيات). أمّا المشكلات الخاصّة، فهي: ترجمة «جام جم» إلى «كأس جمشيد»، و«فانوس خيال» إلى «الفانوس السّحري»، و«ﭽـهره كهربا»، و«لعبت بازى» إلى «اللّعب» ومشتقاته أو «لعبة الشّطرنج». وجاءت التّرجمات كما يأتي:
(1) التّرجمات والمنظومات الشّعريّة ثمانٍ وأربعون (48).
(2) التّرجمات النثريّة تسع وثلاثون (39).
(3) المنظومات والتّرجمات الشعبيّة عشرٌ (10). وهي لمترجمين من مصر والعراق ولبنان والجزائر والإمارات.
من المهم أن يشار إلى أنّ نظام الدين الأصفهاني المتوفى سنة 680هـ كان أوّل من ترجم رباعيّة واحدة إلى العربيّة، هي الرّباعيّة المشهورة:
دارنده ﭽوتركيب عناصر آرست... الخ
وردّ عليها بأربع رباعيّات من نظمه هو.
فأمّا المعاصرون، فكان أحمد حافظ عوض (من مصر) أوّل من ترجم تسع (9) رباعيّات نثرًا عن الإنجليزيّة ونشرها عام 1901م (شعراء الفرس: عمر الخيّام. المجلّة المصريّة. العدد 7 – سبتمبر 1901)، وتلاه عيسى إسكندر المعلوف بترجمة ست (6) رباعيّات شعرًا عن الإنجليزيّة عام 1904 نشرها عام 1910 (عمر الخيّام: ما عرفه العرب عنه. مجلة الهلال. السّنة 18–الجزء 6. مارس 1910). بهذا ينتفي ما شاع من أنّ وديع البستاني اللّبناني كان أوّل من ترجم عام 1912 رباعيّات للخيّام عن منظومة الإنجليزي فيتزجيرالد.
أمّا شعر الخيّام العربي، وهو قليل، فقد لاحقته في المصادر القديمة، التي كان أوّلها «خريدة القصر – قسم شعراء العجم» للعماد الأصفهاني، الذي كان أول من لفت الانتباه إلى الخيّام الشاعر إذ أورد له مقطوعة عربيّة من أربعة أبيات، وجمعتُ له واحدًا وثلاثين بيتًا هي التي حققّتها وخلّصتها ممّا ابتليت به من تصحيف وتحريف عند القدماء والمعاصرين من إيرانيين وعرب، ونشرتها مع مقدمة ضافية في كتابي «عمر الخيّام: أعمال عربيّة وأخبار تراثيّة».
إنّ شعر الخيّام العربي مهم ولافت لمزيد من البحث عن حقيقة الخيّام والرّباعيّات في الفارسيّة والعربيّة من حيث العدد والمضامين معًا.
-4-
أمّا المسرب الثّاني فالتّأليف في الخيّام والكتابة عنه، فثمّة كتب مستقلة بذاتها، وأعداد من البحوث والمقالات وفصول الكتب، هي التي تتبعت أكثرها ودوّنته في كتابي «عمر الخيّام والرّباعيّات في آثار الدّارسين العرب» (دار المناهل–بيروت 1988)، فكانت، والتّرجمات فيها، مئتين وتسعة وخمسين (259) عملًا. وقد عثرت، بعد ذلك، على أعداد أخرى، فضلًا عمّا جدّ بعد عام 1988، وهو ما سوف تتضمنه الطّبعة الجديدة من الكتاب إن شاء الله.
ونتج عن قراءتي لأكثر هذه الكتب والبحوث والمقالات أنّني وجدت فيها كثيرًا من الأوهام والأخطاء ما دعاني إلى تأليف كتابي «الأوهام في كتابات العرب عن الخيّام» (دار المناهل–بيروت 1988) الذي جعلته في قسمين: الأول للأوهام والأخطاء المشتركة، والآخِر للأوهام والأخطاء الفرديّة عند باحثين بأعيانهم.
فأمّا المشتركة، فأهمها في: تاريخ ميلاد الخيّام ووفاته، وشعره العربي، وأوّل مترجم عربي للرّباعيّات، والسّرقة والاختلاط، وأعداد رباعيّات بعض التّرجمات. أمّا الأخطاء والأوهام الفرديّة المختلفة فما وجدته عند عدد من الدّارسين، من مثل: كامل مصطفى الشّيبي وجعفر الخليلي (العراق)، وطه وادي وكمال الملّاخ (مصر)، وإبراهيم العريّض ومكي البحراني (البحرين)، وتوفيق ضعون وعيسى إسكندر المعلوف (لبنان)، وسليمان الأزرعي (الأردن).
وثمّة أوهام وأخطاء أخرى عثرت عليها بعد عام 1988 سوف تأخذ طريقها إلى الطّبعة الجديدة من الكتاب إن شاء الله.
-5-
وأمّا المسرب الأخير التأثّر والتّأثير الذي يندرج في الأدب المقارن، فقد عُني عدد من الباحثين بتأثر عمر الخيّام بأبي العلاء المعري؛ كان أقدمهم أمين الريحاني (1903)، ثم عبّاس محمود العقّاد (1908)، وفؤاد أفرام البستاني (1928)، وأحمد حامد الصرّاف (1930)، وعبد الوهّاب عزّام، وعمر فرّوخ في كتابه «حكيم المعرّة» (بيروت. دون تاريخ)، وعبد الحق فاضل في كتابه «ثورة الخيّام» (بيروت 1968م)، وعبد القادر محمود (1986)، وأحمد كمال حلمي (1980)؛ ناهيك بما في كتاب «ببليوغرافيا الدّراسات العربيّة المقارنة في اللّغات الشّرقيّة وآدابها» ليوسف بكّار.
وثمّة تأثرات أخرى للخيّام بالشّعر العربي لم يفطن أحد إليها إلى الآن، هي التي تكشف عن تأثر الخيّام أو صاحب الرّباعيّات بشعر كلّ من أبي محجن الثّقفي، وأبي نواس، وأبي العتاهيّة، وابن الرومي كما في كتابي في «الأدب المقارن: مفاهيم وعلاقات وتطبيقات». (ط3: مكتبة الأسرة – عمّان 2023).
أما تأثير الخيّام نفسه في الشّعر العربي المعاصر، فقد كشف بعض الدّارسين جوانب منه في مؤلفات عامّة، كما في كتاب «تيارات ثقافية بين العرب والفرس» لأحمد محمد الحوفي (القاهرة 1978)، وكتاب «دير الملاك» لمحسن اطيمش (بغداد 1982)، وكتاب «دراسات مقارنة في الأدب العربي والتركي المعاصر» لعبد الرزاق بركات (القاهرة 2006م) الذي يعرض فيه لتأثير رباعيّات الخيّام في الشعر العربي والتركي الحديث (ص135-250)؛ في حين أنّ بعضهم درس تأثير الخيّام في شاعر معيّن. من هذه الدراسات: «رباعيّات الخيّام وطلاسم أبي ماضي» لماهر حسن فهمي (مج?ّة تراث الإنسانيّة 1969م)، و"أثر الخيّام في شعر مصطفى وهبي التّل» لكمال فحماوي في كتابه «الشّاعر مصطفى وهبي التل: حياته وشعره» و"الغواية والاستغفار والغفران بين أبي نواس وعمر الخيّام ومصطفى وهبي التّل» لعيسى النّاعوري «مجلّة أفكار – الأردن 1983» (يوسف بكّار: عمر الخيّام والرباعيّات في آثار الدارسين العرب، وببليوغرافيا الدّراسات العربيّة المقارنة في اللّغات الشّرقية وآدابها).
يضاف إلى هذا تأثر شعراء الدّيوان: عبّاس العقّاد، وعبدالرّحمن شكري، وإبراهيم المازني كما في كتابي «جماعة الدّيوان وعمر الخيّام» (دار فضاءات – عمّان. ط2: 2025).
ومن الشّعراء العرب من نظم وكتب في الخيّام بوحيٍ منه واتخاذه «قناعًا»، كعبد الوهاب البياتي في ديوانيه «الذي لا يأتي ولا يأتي» و"الموت في الحياة»، وفي مسرحيته النثريّة «محاكمة في نيسابور» (مجلّة المعرفة – دمشق 1970).
-6-
وثمّة اهتمامات عربيّة كثيرة بالخيّام والرّباعيّات مبثوثة في ما أصدرته عنهما من كتب وصل عددها، إلى الآن، إلى اثنين وعشرين كتابًا يمكن أن يرجع إليها في قائمة أعمالي الملحقة بها.