«تفاصيل» هي مختارات قصصية للقاص جمعة شنب، صدرت عام 2021 عن دار العائدون بعمّان. تضم 106 قصص متنوعة، من القصيرة التقليدية إلى الحداثية، في 228 صفحة. وتشمل قصصاً من أعمال سابقة مثل «الرسالة الأخيرة» (1982)، و"موت ملاك صغير» (1984)، و«قهوة رديئة» (2015)، و"بنت الحرام» (2017)، و«رجل غير مهم بالمرة» (2019)، إلى جانب قصص جديدة كُتبت في 2020 خلال جائحة كورونا.
تتميز «تفاصيل» بتنوعها الأسلوبي والموضوعي، مستعرضة تجربة شنب الإبداعية على مدى أربعة عقود، وتجمع القصص بين الواقعية والفانتازيا، مع طابع سوداوي يتخلله الأمل. وتتميز لغة شنب بالرشاقة والشاعرية، مقتربة أحياناً من الشعر، وتتناول قضايا إنسانية واجتماعية بعمق، مستلهمة تجاربه في مخيمات اللاجئين والغربة. يرى المحرر أن المختارات تفتح نافذة على عالم شنب الممتد، مبرزة عناصره الأساسية وسماته الفريدة، حيث تتيح قراءة شاملة تكشف عن المؤتلف والمختلف، والواقعي والفانتازي، مع تفاصيل مدهشة ولغة شاعرية تعكس عالمه الثري.
تقدم هذه المجموعة رؤية متكاملة لتطور أسلوب جمعة الأدبي، بدءاً من مرحلته المبكرة التي ركزت على النضال وتجربة المخيمات، وصولاً إلى مرحلة لاحقة اتسمت بوعي أعمق بالواقع الإنساني والوجودي، مما يجعل أعماله نافذة تطل على عالمه الأدبي الغني والمتميز.
تُعدّ نظرية الفوضى في الأدب نهجاً مبتكراً يمكن أن يُلقي الضوء على تعقيدات أسلوب شنب، حيث يستلهم هذا النهج مفاهيم من الرياضيات والفيزياء لتفسير وفهم الظواهر الأدبية. ففي الأصل، تركز نظرية الفوضى على الأنظمة الديناميكية غير الخطية التي تبدو عشوائية، لكنها تخضع لأنماط معقدة وحساسية كبيرة للظروف الأولية، وعند تطبيقها على الأدب، تُستخدم لتحليل النصوص أو بناء عوالم سردية تعكس التعقيد، وعدم القدرة على التنبؤ، والترابط العميق بين عناصر السرد.
ويمكن تطبيق هذا المنظور على نصوص شنب لرصد التعقيد، وعدم القدرة على التنبؤ، والترابط الخفي بين عناصرها السردية، كما تعكس المجموعة حساسية شنب للتفاصيل الدقيقة، التي تشكل أنماطاً سردية معقدة تعبّر عن الواقع الإنساني بطريقة عميقة ومبتكرة. وهكذا، يصبح أسلوبه الأدبي انعكاساً لهذا النهج، حيث تتداخل عناصر النضال والوجودية في تشكيل عالم روائي غني ومتعدد الطبقات.
الفوضى في البنية السردية
في «تفاصيل»، تتعدد الأصوات والقصص (105 أو 106 بحسب الإحصاء) بأطوال وأساليب مختلفة، من القصيرة جداً إلى التقليدية، مما يخلق انطباعاً أولياً بالفوضى السردية. لكن عند التدقيق، يظهر نمط خفي يربط هذه القصص: همّ الإنسان العربي في مواجهة الغربة، الهوية، والوجود. هذا الانتقال من الفوضى الظاهرة إلى النظام الداخلي يتماشى مع فكرة نظرية الفوضى التي ترى أن العشوائية ليست مطلقة، بل تحمل ترتيباً ضمنياً.
على سبيل المثال، قصص مثل «قهوة رديئة» أو «رجل غير مهم بالمرة» قد تبدو للوهلة الأولى مشاهد متفرقة من حياة شخصيات عادية، لكنها تتراكم لتشكل صورة أكبر عن الإحباط الوجودي والصراع الداخلي، كما لو أن كل قصة هي «جزء صغير» (fractal) يكرر النمط الأوسع للمجموعة.
الحساسية للظروف الابتدائية
في نظرية الفوضى، تؤدي التغييرات الطفيفة في البداية إلى نتائج غير متوقعة. في «تفاصيل»، نجد أن العديد من القصص تبدأ من لحظات عابرة أو تفاصيل صغيرة (مثل فنجان قهوة، رسالة، أو نظرة عابرة) لتنتهي بتحولات جذرية في حياة الشخصيات أو رؤيتهم للعالم. هذا يعكس تجربة شنب نفسه، حيث نشأ في بيئة متواضعة (مخيم للاجئين) ثم انتقل إلى الاغتراب في أمريكا، وكيف أثرت هذه «الظروف الابتدائية» على رؤيته الأدبية.
في قصة مثل «موت ملاك صغير»، قد تكون لحظة وفاة طفل نقطة انطلاق تبدو بسيطة، لكنها تفتح باباً لتأملات عميقة حول الحياة والموت، كما لو أن الحدث الصغير هو الفراشة التي تطلق عاصفة من المعاني.
التكرار والتشعب (Fractals)
تستخدم نظرية الفوضى مفهوم «الفراكتلز»، وهي أنماط تتكرر على مستويات مختلفة. في «تفاصيل»، نجد تكراراً لموضوعات مثل الفقدان، الاغتراب، والبحث عن الهوية في قصص متنوعة، سواء في سياق مخيم اللاجئين أو في شوارع نيويورك. كل قصة تعمل كوحدة مستقلة، لكنها تتشعب لتعكس النمط العام للمجموعة. هذا التكرار غير المنتظم يشبه الأنظمة الفوضوية التي تبدو عشوائية لكنها متماسكة داخلياً.
على سبيل المثال، قصة «بنت الحرام» قد تتناول الوصم الاجتماعي في سياق محلي، بينما هي ذات نزوع رمزي تتمركز دلالاتها في رفض الواقع الاجتماعي القائم على تناقضات الغدر والخيانة، والفساد والسلب، وحب الذات والتسلط
الفوضى الزمنية والمكانية
تمتد المجموعة عبر أربعة عقود من كتابات شنب، مع قصص تعود إلى الثمانينيات وأخرى كُتبت في 2020. هذا الامتداد الزمني يخلق طبقات متعددة من الفوضى الزمنية، حيث تتداخل الماضي (الحياة في المخيمات) بالحاضر (تجربة الجائحة). المكان أيضاً يتحول بين الأردن والولايات المتحدة، مما يعزز الشعور بالاضطراب وعدم الاستقرار. هذا التداخل يشبه الأنظمة الفوضوية التي لا تعتمد على تسلسل خطي، بل على نقاط تقاطع غير منتظمة تكشف عن ترابط خفي.
العلاقة بين النظام والفوضى
يمزج شنب بين الواقعية والفانتازيا، وبين السوداوية والأمل، مما يضع القارئ في حالة توتر بين النظام (الحياة اليومية المألوفة) والفوضى (الأسئلة الوجودية والعبث). هذا التوازن الهش يتماشى مع فكرة نظرية الفوضى بأن الأنظمة تعيش على حافة الفوضى والنظام معاً. لغته الرشيقة التي تقترب من الشعر تضيف طبقة من النظام الجمالي، بينما الموضوعات العميقة والمفتوحة تثير شعوراً بالفوضى الفكرية. في قصص كُتبت خلال جائحة كورونا (2020)، يبرز هذا الصراع بوضوح: العالم الخارجي في حالة فوضى بسبب الوباء، لكن القصص تحاول فرض معنى أو نمط داخلي من خلال التأمل والسخرية.
الفوضى كمرآة للواقع الإنساني
في ضوء نظرية الفوضى، يمكن قراءة «تفاصيل» كمحاولة لفهم الواقع الإنساني المضطرب، فالحياة في المخيمات، والغربة، والجائحة، كلها ظروف تبدو فوضوية، لكن شنب يقدم من خلالها رؤية تتجاوز العشوائية إلى البحث عن معنى، والسوداوية الممزوجة بالأمل في قصصه تشير إلى أن الفوضى ليست نهاية، بل بداية لإعادة تشكيل النظام بطريقة جديدة.
تأثير الفراشة في التجربة الشخصية
إذا نظرنا إلى «تفاصيل» كتعبير عن مسيرة شنب، فإن نظرية الفوضى تتجلى في كيف أدت لحظات صغيرة في حياته (مثل الانتقال إلى أمريكا أو العودة للكتابة بعد انقطاع) إلى نتائج كبيرة في إنتاجه الأدبي، فالمجموعة نفسها، بجمعها بين أعمال مبكرة وحديثة، تعكس هذا التأثير غير الخطي: كيف تتشكل رؤية الكاتب عبر تراكم التجارب الصغيرة التي تبدو فوضوية لكنها مترابطة.
***
ختاماً
إن "تفاصيل" لجمعة شنب، في ضوء نظرية الفوضى، ليست مجرد مجموعة قصصية متفرقة، بل نظام ديناميكي يعكس حساسية الحياة للظروف الابتدائية وتفاعلاتها غير الخطية، فالتنوع في الأسلوب، والشخصيات، والموضوعات يجسد فكرة أن الفوضى تحمل ترتيباً داخلياً، وأن التجربة الإنسانية -رغم اضطرابها- قادرة على خلق معنى من العشوائية، هكذا، تصبح المجموعة مرآة للوجود الفوضوي، حيث كل قصة هي فراشة ترفرف بأجنحتها لتغير مسار العالم بطريقة غير متوقعة.