في لحظة تاريخية بالغة التعقيد داخليًا وإقليميًا ودوليًا، يقف الأردن عند مفترق طرق تتقاطع فيه الأزمات الاقتصادية مع التحديات الجيوسياسية والضغوط الدولية المتزايدة، ما يستدعي من مؤسسات الدولة كافة رفع منسوب أدائها لتكون على قدر الرهانات الوطنية المصيرية. وفي القلب من هذا المشهد، يأتي مجلس النواب بوصفه سلطة دستورية تمثل الإرادة الشعبية، يتطلب منه اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يتحمل مسؤولياته بكامل الوعي، لا أن ينزوي خلف الدور البروتوكولي أو التفاعلي المحدود.
وفي افتتاح الدورة العادية لمجلس الأمة العشرين، جاء خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني كرسالة صريحة، واضحة، غير قابلة للتأويل أو التخفيف من مضامينها. لم يكن مجرد خطاب افتتاحي نمطي، بل وثيقة سياسية دستورية تؤسس للمرحلة المقبلة وتضع الجميع أمام مسؤولياتهم الوطنية. لقد خاطب الملك الدولة بكل مكوناتها: شعبًا، وسلطات، ونخبًا، واضعًا الجميع أمام تحدٍ جوهري: إما أن نكون على قدر اللحظة التاريخية، أو نكرر أخطاء الماضي وندفع ثمن التردد والتقاعس.
قالها الملك بوضوح: "أنتم اليوم أمام مسؤولية كبيرة لإرساء قواعد عمل وممارسات برلمانية يكون التنافس فيها على البرامج والأفكار وأساسها النزاهة". وهي دعوة صريحة للانتقال من نيابة المجاملة إلى نيابة الفعل، ومن دور المتلقي إلى دور الفاعل، ومن الخطاب الشعبوي إلى خطاب الدولة.
لكن المؤسف أن المتتبع لأداء مجلس النواب في دوراته الأخيرة، لا يجد ما يعكس هذا الطموح الملكي. فما يزال المجلس يعاني من غياب التفاعل الجاد مع القضايا الجوهرية، كإصلاح المنظومة السياسية، ومراجعة السياسات الاقتصادية، وتشريعات الحريات والعدالة والمساءلة. بل إن ثمة قطيعة متنامية بين المجلس والمزاج الشعبي، تجلت في تراجع ثقة الشارع بدوره، وفي الإحساس العام بأن السلطة التشريعية لم تعد حارسًا للعقد الاجتماعي بقدر ما تحولت إلى جزء من بيروقراطية غير فاعلة.
الخطاب الملكي، الذي حمّل البرلمان مسؤولية دعم مشروع التحديث السياسي والاقتصادي، لم يأتِ من فراغ، بل من إدراك أن الأردن لا يملك ترف التراخي أو إهدار الفرص. فالإصلاح – كما وصفه الملك – لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لبقاء الدولة واستقرارها. ولذلك، فإن مجلس النواب، بوصفه شريكًا دستوريًا، مطالب اليوم بأن يواكب هذا المشروع لا أن يتخلف عنه، وأن يؤمن به لا أن يساوم عليه.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن البرلمان لم يُظهر بعد أدوات ضغط فاعلة لإعادة النظر في الأولويات الوطنية، أو لتقديم بدائل واقعية في معالجة الدين العام، أو دعم الفئات الهشة، أو تحفيز النمو. كثير من المواقف النيابية بقيت حبيسة الشعارات أو المداخلات الإعلامية، دون أن تجد ترجمة حقيقية في السياسات أو التشريعات.
أما البعد الإقليمي والدولي، فهو لا يقل أهمية. فالدور المطلوب من البرلمان لا يقتصر على الداخل فقط، بل يمتد إلى تعزيز الموقف الأردني في المحافل الدولية، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والوصاية الهاشمية على المقدسات، وهي قضايا وجودية تمس مكانة الأردن ودوره. ومع ذلك، لم نشهد من البرلمان حراكًا دبلوماسيًا موازيًا أو مبادرات نوعية توازي ثقل هذه الملفات.
جلالة الملك كان واضحًا حين أكد أن الدولة ماضية في مشروع الإصلاح، وأن لا تراجع عن التحديث السياسي والإداري والاقتصادي، في الوقت ذاته الذي تثبّت فيه موقفها الصلب تجاه العدوان على غزة وتجاه حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وقد جاءت الإشادة الملكية بالجهود الميدانية من الجيش والطواقم الطبية والأهلية، لتؤكد أن الانتماء للدولة يعني الفعل لا القول، والموقف لا الخطاب.
ولعلّ أهم ما اختتم به الملك خطابه هو قوله: "وسيبقى الأردن عظيماً... ووجهاً عربياً صادقاً... وعنواناً لكل خير..."، وهي عبارة تختزل فلسفة الحكم الهاشمي منذ التأسيس: الانحياز للحق، والمراهنة على الإنسان، والإيمان بالثوابت.
إن الكرة اليوم في ملعب مجلس النواب. إما أن يلتقط هذه الرسائل ليكون مجلسًا للتاريخ، يسجّل له أنه كان على قدر اللحظة، أو يعيد إنتاج نماذج سابقة لم ترقَ لتطلعات الأردنيين، وتسببت بتآكل الثقة بين الناس وممثليهم. فالمطلوب ليس المعارضة من أجل المعارضة، ولا التأييد من أجل التأييد، بل الشراكة الواعية، والمساءلة المتزنة، والرقابة الوطنية المسؤولة.
التاريخ لا ينتظر المترددين. ومن يريد أن يخلّد اسمه في ضمير الوطن، عليه أن يكون في الصفوف الأولى حين تشتد الأزمات، لا في المقاعد الخلفية للتبرير أو التراجع. وقد قالها الملك: نحن أمام مسؤولية... فلا مجال للتكرار، بل دعوة جادة لصناعة التاريخ.